جاءنا من حضرة الفاضل صاحب التوقيع الخطاب التالي ننشره مع رده فيما يلي:

إن احتجاب المنار بموت صاحبه عليه رحمة الله تعالى كان من دواعي أسف المسلمين جميعًا، بل حزنهم العميق، ولم يكن ذلك طبعًا لأنها مجلة إسلامية فقط. بل كان ذلك لما علمه قراء المنار من الميل مع الحق أينما كان، وعدم المبالاة بكائن من كان في سبيل كلمة الحق وبيانها وإيضاحها، ولا أنك تجهل مواقف صاحب المنار عليه رحمة الله مع كثير من أخصّ أصدقائه، فإنه لم يكن يعرف إلا الحق ولو أغضب الحق صديقه أو جميع الناس، ولم نعهد فيه رحمة الله عليه مداهنة ولا محاباة، وبذلك كان للمنار وصاحبه تلك المنزلة التي تعرفونها في نفوس جميع أهل الملة المحمدية.. فإذا كنتم تريدون السير بالمنار سيرته هذه فلا شك أنها - إن شاء الله تعالى - ستحيي حياتها الأولى، وإلا فاسم المنار وحده لا يعني شيئًا.

لقد استفتاكم مستفت فيما شجر من الخلاف بين مجلتي الهدي النبوي والإسلام فماذا أفتيتم؟.

إن رأي المنار في موضوع الخلاف بين المجلتين معروف مسطور في أعداد المنار السابقة، فهل نفهم من فتواكم هذه أن المنار يتنكر لماضيه، وينسى برنامجه؟ لقد قلتم يا سيدي الاستاذ أن كلتا المجلتين على الحق!!! ولا يعقل فيما نعلم أن يختلف اثنان على أمر واحد ينفيه أحدهما ويثبته الآخر ثم يقال أنهما جميعًا على الحق، لا.. ليس هذا شأن المنار الذي عرفناه وبكيناه لما احتجب. نرجو أن تصارحونا بالحق في أي الجانبين هو كما عودنا صاحب المنار إن كنتم تنصرون الحق لله وفي سبيل الله.

والسلام عليكم ورحمة الله. قارئ

الإجابة

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله والصلاة والسلام على نبيه وآله وصحبه ومن والاه، "وبعد"،

فعلى حضرة القارئ المحترم السلام ورحمة الله عليكم وبركاته، وكنت أود أن يتكرم بإظهار اسمه؛ حتى نتعارف في سبيل البحث من الحقيقة ولعله - وفقنا الله وإياه - رأى في ستر اسمه معاونة على خدمة الحق للحق بدون نظر إلى الصلات الخاصة بين المتباحثين، فنحن نحسن الظن، ونشكر للأخ الفاضل خطابه مؤكدين دعوتنا الأولى بجميع إخواننا في انتقاد ما يرونه مستحقًا للانتقاد في المنار؛ حتى تتعاون الجهود على الوصول للحقيقة، ويسرنا أن نعلن أننا ننتهز مثل هذه الفرصة لنسلك بالنقد الأدبي مسلكًا نبيلاً لا هجر فيه ولا إقذاف، ولا تجهيل ولا تضليل، ولنكمل به أنفسنا، فإن الكمال لله وحده، والعصمة لأنبيائه صلوات الله وسلامه عليهم، ومن ادعى لنفسه الكمال أو ظن بها ذلك، فهذا عين النقص، ونسأل الله ألا يحرمنا من يبصرنا بعيوبنا، ويحملنا على الصواب والسداد، وإلى الكاتب وإلى حضرات القراء الفضلاء رأينا فيما ورد في هذا الخطاب:

(1) نسب إلينا الاستاذ الكاتب أننا صرحنا بأن كلتا المجلتين على حق، وبنى على هذا أنه من غير المعقول أن يختلف إثنان على أمر واحد ينفيه أحدهما ويثبته الآخر ثم يقال إنهما جميعًا على الحق، وحضرته لهذا يرجو أن نصارح بالحق في أي الجهتين هو؟

ولا أدري من أين جاء حضرته بهذا التصريح الذي نسبه إلينا إن كان قد جاء به من تصريحنا بأن كلا الفريقين في نظرنا أصدقاء لنا وممن يتصدون للدعوة إلى الخير، فليس معنى هذا تصويب رأي أحد منهما ولا كليهما في موضوع نزاع بعينه.

والذي صرحنا به في موضوع الخلاف أن كلا الفريقين غير محق، وأن موضوع الخلاف من أساسه لا يصح أن يكون خلافًا، وليس بلازم أن يكون كل مختلفين أحدهما محق والآخر مبطل، بل قد يكونان مخطئين جميعًا، وهو ما صرحنا به بوضوح.

فإن فريقًا تغالى في التأويل، وفريقًا تغالى في الجمود، ورأى السلف في ذلك، وهو رأي المنار الذي يشير إليه حضرة الكاتب، وهو رأينا الذي أوضحناه في مقالنا أن مذهب السلف ترك الحوض في هذه المعاني، مع اعتقاد تنزيه الله تبارك وتعالى عن أمثالها المنسوبة لخلقه وإمرارها كما جاءت، وتفويض علم حقائقها إلى الله، فمن فسر الاستواء بالاستيلاء فقد تورط في التأويل، وألزم نفسه غير ما ألزمه الله به، ومن فسره بالاستقرار فقد تورط في التشبيه، وأوهم معه جواز نسبة صفات المخلوقين إلى الخالق، فإن قال (هو استقرار يليق بجلاله)، فهو إذن لم يأت بشيء، والأولى أن يقف عند النص، والحق في هذا وأمثاله أن يقال استوى استواء يليق بجلاله مع اعتقاد عدم المشابهة، وتفويض الحقيقة إلى الله، إلا أن تقوم قرينة لا تدفع تصرف اللفظ عن ظاهره فتقف عند حدود هذا الصرف ولا نتجاوزه كما ذهب إليه السلف في معية الحق تبارك وتعالى بعلمه لا بذاته.

تلك أمور فصلناها وقررناها، ولمنا الفريقين على أنها طرقا بحوثًا كهذه بمثل الأسلوب الذي خاضوا به فيها، وبذلك حققنا رجاء الكاتب وصارحناه بأن الحق ليس في أحد الجانبين فأين القصور إذن؟.

(2) هذا من حيث موضوع النزاع ورأى المنار فيه بالذات، وأظن أن فيما نقلناه في باب التفسير في هذه المعاني كفاية ومن أراد الاستزادة زدناه حتى يعلم أن المنار لا يتنكر لماضيه في الحق، ولا ينسى برنامجه من الصدع به، ولا يناقض نفسه في الصواب، وبقي بعد هذا أن نذكر حضرة الكاتب ببعض ما فاته معرفته من برنامج المنار الذي سارت عليه في ماضيها، ونريد أن نسير بها عليه في حاضرها.

صرح صاحب المنار بقاعدة وأسماها قاعدة المنار الذهبية فقال: (نتعاون فيما اتفقنا عليه ويعذر بعضنا بعضًا فيما اختلفنا فيه)، فمواطن الخلاف يا سيدي يقدم فيها العذر على التجريح وسوء الظن، وذلك ما سنسير عليه إن شاء الله، وقد قضى صاحب المنار حياته وهو يصدع بالتجرد من الجمود، وينعي على أهل التقليد الأعمى، الذين يقدمون أقوال الناس التي لم يقم عليها دليل على الأدلة الواضحة بغير برهان بين أيديهم، إلا أن هذا قول فلان وفلان، فهل يريدنا حضرة الكاتب على هذا التقليد الذي نعاه صاحب المنار على أهله؟ أم يريدنا متبعين للدليل والحق ندور معه كيفما دار وإن خالفنا صاحب المنار؟، وأظن أن حضرة الكاتب يذكر أن الشافعي كان من خلصاء تلاميذ مالك رضي الله عنهما، وكلاهما في جلالة قدرة ورسوخه في علمه وتقواه لله بالمنزلة التي لا تتسامى إليها القوادح، ومع هذا فلم يمنع هذا الشافعي أن يخالف مالكًا، وأن يكون له رأيه ومذهبه.

فنحن مع المنار، وصاحبه عليه رحمة الله ورضوانه في الأصول الأساسية التي لا خلاف فيها في منهاج الإصلاح العام وخطته، وفيما وضح الحق فيه، واستبان وجه عليه الدليل في الشئون التي فيها مجال للتفكير والنظر، ولا يمنعنا هذا من أن نخالف صاحب المنار رحمه الله في الأمور التي لم يقم عليها الدليل المقنع في نظرنا، على أن ندلي برأينا وحجتنا، وندع لكل من أراد التنبيه أن ينبهنا لما فاتنا، والله الموفق للصواب.

سؤال آخر (حول آيات الصفات وأحاديثها ومذهب السلف والخلف)

سيدي الأستاذ محرر المنار الأغر، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد، فلعلكم قرأتم ما دار من الحوار بين كُتّاب مجلة الإسلام ومجلة الهدي النبوي، حول آيات الصفات وأحاديثها ومذهب السلف والخلف.

فما وجه الحق في هذا الخلاف؟ وهل يجوز شرعًا أن يتقاذف الفضلاء من المسلمين بهذه التهم على صفحات الجرائد السيارة؟ وأن تذاع مثل هذه البحوث على العامة، وهلا يمكن أن تعملوا على التوفيق بين الفريقين؛ حتى تنصرف القوى إلى ما يعود على المسلمين بالخير أفيدوا مأجورين والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

محمد حلمي نور الدين - بتفتيش ري الجيزة

الإجابة

بسم الله الرحمن الرحيم والحمد لله والصلاة على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه.

قرأت ما دار بين الكُتّاب الفضلاء على صفحات المجلتين المذكورتين، وكثير من حضراتهم أصدقاء لنا، وكلهم يعمل لخدمة الدعوة الإسلامية، ويرجو للمسلمين النهوض من كبوتهم، والإقالة من عثرتهم، مخلصًا من قلبه، والحق أنى أنا شخصيًا لا أفهم معنى لإثارة هذا الموضوع في وقت نحن أحوج ما نكون فيه إلى الوحدة والتآزر على إحياء تعاليم الإسلام في نفوس المسلمين.

ن الفريقين مؤمنان أعمق الإيمان بأن ما جاء من هذه الآيات، وما صح من الأحاديث، التي تعرضت لصفات البارئ عز وجل كلها حق لا جدال في صدقها ولا خلاف، فقوله تعالى ﴿الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى﴾، و﴿يَدُ اللهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ﴾، ﴿كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ﴾، ﴿وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ﴾، وكل مانحا هذا المنحي من الآيات والأحاديث التي تثبت صحتها فنيًا، كل ذلك موضع إيمان وتصديق وتسليم من الفريقين كليهما.

الفريقان كذلك مؤمنان أعمق الإيمان بأن قوله تعالى ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ﴾، وقوله تعالى ﴿وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ﴾ كل ذلك حق لا مرية فيه، فلا يشبه الباري أحدًا من خلقه في شيء من صفاته، ولا يشبهه أحد من هؤلاء الخلق كذلك.

وحقيقة ثالثة يؤمن بها الفريقان أيضًا وهي أن ذات الباري جل وعلا وصفاته فوق متناول إدراك العقل البشري الصغير الذي يعجز عن معرفة حقائق ما حوله من عالم الحس، فضلاً عن عالم الروح، فضلاً عن الملأ الأعلى، فضلاً عن ذات الله جل وعلا وصفاته.

وأسوق هنا قول شارل ريشيه المدرس بجامعة الطب في فرنسا ساقها في مقدمة كتاب (الظواهر النفسية)

(لماذا لا نصرخ بصوت جهوري أن كل العلم الذي نفخر به إلى هذا الحد ليس إلا إدراكًا لظواهر الأشياء، وأما حقائقها فتفلت منا ولا تقع تحت مداركنا، إن حواسنا من القصور والنقص على حال يكاد معها يفلت من شعورها الوجود كل الإفلات)

بل قول الله تبارك وتعالى وهو أصدق القائلين ﴿وَمَا أُوتِيتُم مِّن الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً﴾ هذه الحقائق المقررة والمسلم بها من الطرفين تجعل الخلاف لا معنى له. فماذا على كل منهما لو قال (استوى الله على عرشه استواء تعجز عقولنا عن إدراك حقيقته، مع علمنا بأن لن يكون كاستواء الخلق)، وبذلك نرد علم الحقائق لله تبارك وتعالى، ونصيب بذلك الحق كل الحق؛ لأن الحق هو أننا في هذا جهلاء أتم الجهل، وماذا علينا لو سلكنا هذه الطريقة في كل ما ورد على هذا النحو (يد الله التي ذكرها في كتابه صفة من صفاته تعجز عقولنا عن إدراك حقيقتها، مع العلم بأنها لن تكون كأيدينا).

وقد أرشدنا الله سبحانه وتعالى إلى الواجب في مثل هذه المعاني ووضع لها أساس النظر فيها فقال: ﴿هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُولُو الألْبَابِ﴾، فتأمل قوله تعالى ﴿وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِنْدِ رَبِّنَا﴾ لتعلم هل لنا أن نخوض ونفيض، أم أن الرسوخ في العلم أن نقول آمنا به كل من عند ربنا؟.

استطراد

لقد أتى على المسلمين حين من الدهر في عصر الانتقال الأول حين نقلتهم حوادث السياسة والاجتماع من دور الجهاد العملي خلف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والأئمة الراشدين المهديين من بعده، حيث كان هم المسلم إذ ذاك أن يؤدي فريضة ربه، ويراقب دخيلة نفسه، ويقيم من نفسه حارسًا يحاسبه على كل عمله، ثم يمضي في البلاد مجاهدًا في سبيل الله يعرض روحه على الموت في اليوم ألف مرة، فلا يظفر إلا بالحياة العزيزة، وينشر لواء الله في العالمين حتى يدركه الأجل، فيودع الدنيا شهيدًا سعيدًا.

حين انتقل المسلمون من هذا الدور إلى دور الاستمتاع بمظاهر دنياهم الجديدة، والإقبال على تنظيم ملكهم الواسع، والاستفادة من ثمار هذه الحضارات والمدنيات التي اتصلوا بها، ودخلت عليهم آثارها من كل مكان عمرانية واجتماعية وثقافية وعلمية، فترجموا العلوم الأجنبية، وتوسعوا في البحث فيها، ومزجوا كثيرً منها بتعاليم الدين السمحة السهلة، فسلكوا بدينهم مسلكًا فلسفيًا قياسيًا، وقد جاءهم فطريًا ربانيًا نبويًا فوق العلوم والفلسفات، يخاطب الفطرة من غير وساطة، ويجذب القلوب بما فيه من جمال وروحانية وصدق توجيه في هذا الدور، وفي وسط هذه المعمعة انقسم علماء الإسلام إلى معسكرين: معسكر يدعو إلى تطبيق نظريات الدين على نظريات الفلسفة والمزج بينهما وبذلك يصطبغ الدين بآراء الفلاسفة، فيذهب عنه جلال النبوة وروعة الوحي وسماحة الفطرة. وتتقيد الفلسفة بقداسة الدين وجلال العقيدة، فتنزل بذلك عن أحص خصائصها، وإنما الفلسفة تفكير دائم متواصل فيه الخطأ وفيه الصواب، وفيه الشك وفيه اليقين، والخطأ فيها سلم للإصابة، والشك عندها باعت من بواعت الإيمان، وهذا المعسكر أطلق على نفسه أو أطلق الناس عليه ألقابا كثيرة فهم أهل الرأي، وهم أهل القياس، وهم النظار، وهم المتكامون، على تفاوت بينهم في هذه الألقاب وفي مدى تطبيق هذه الآراء، ومعسكر يدعو إلى أن يظل الدين بعيدًا عن كل هذا، يؤخذ من منابعه الأولى كتاب الله وسنة رسوله، ويرجع في بيانه وتفصيله إلى الطريقة التي فهمه عليها السلف الصالح رضوان الله عليه، وليتناول العقل بعد ذلك ما شاء من البحوث، ولتجر الفلسفة على أي غرار شاءت، وليخطئ العلماء الكونيون أو أن يصيبوا، ولكن في ثوب نظري بحت، قياسي بحت، لا يتناول عقائد الناس ولا يمس عبادتهم، ولا يقرب الحقائق الدينية المقررة المكفولة بتسليم اليقين بأحقيتها وصدقها، وأطلق هذا المعسكر على نفسه أو أطلق الناس عليه أهل الحديث، أو السلفيون، أو أهل السنة، أو أهل الأثر، على تفاوت كذلك في هذه الألقاب، وفي مدى الأخذ بهذه الفكرة، ولا شك أن الحق مع هؤلاء، ولا شك أن المسلمين لو سلكوا هذا السبيل، ولم يشتغلوا بهذا الجدل، ولم يصبغوا فطرة دينهم بهذه الصبغة، ودرجوا على ما كان عليه النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه لكان لهم في ذلك الخير كل الخير، ولنجوا من انقسامات وفتن كانت من أهم الأسباب لزوال عظمتهم، وتوزيع ملكهم ومجدهم، ولا شك أن كل عاقل يهمه أن يعود للإسلام مجده وعظمته الآن يدعو المسلمين إلى الأخذ بهذا الرأي، وهو ما نعمل عليه، وندعو إليه، ونسأل لله المعونة فيه وفتح مغاليق القلوب لفهمه وفقهه.

كان الأخذ والرد والحذب والشد قويًا عنيفًا بين الفريقين منذ نجم قرن هذا الخلاف، وأنت خبير بأن خلافًا كهذا في صدر الإسلام أو قريبًا منه، ولمّا يمض على المسلمين بعد نبيهم - صلى الله عليه وسلم - أكثر من قرن من الزمان، وهو يتصل بالعقيدة وهي أغلى ما يدافع عنه الإنسان، لابد أن يصحبه من مظاهر العنف الشيء الكثير، وذلك ما كان.

فقد تنابز الفريقان بالألقاب، واشتد بينهما التخاصم حتى وصل إلى التكفير والزندقة، ورمي بعضهم بعضًا بأعظم ما يتصور من التهوم، واستخدمت في ذلك الألفاظ المثيرة.
فأهل الرأي والنظر: جهمية معطلة مؤولون حشوية زنادقة، لا يعرفون لهم ربًا ولا يثبتون له صفة، وأهل الحديث والأثر: مشبهون مجسّمون جامدون متعصبون، لا ينزهون الله، ولا يقدرون عظمته قدرها، ويضعونه في صف خلقه، وألقيت إلى جانب ذلك عبارات شديدة، وألفت كتب، وانتصر كل فريق لرأيه، وبدت الحدة في كل ما قيل وما ألف؛ لأن تلك طبيعة الموقف ومقتضيات الخلاف.

كان ذلك في هذا الذي ذكرت لك، ثم نقلت إلينا نحن الآن بعض هذه الآثار، والحال غير الحال، والموقف غير الموقف، والفرق غير الفرق.

ليس فينا أهل رأي وأهل حديث، وأنا أعلم أن هذا الحكم قد يكون محل خلاف بيني وبين بعض القارئين، فهاهم يرون فريقين ينتصر كل منهما لفريق، فما معنى هذا النفي؟.
ولكني أؤكد لحضرات القراء أن طبيعة هذا العصر غير طبيعة العصر الذي شجر فيه هذا الخلاف بين المسلمين، وأن المشاكل والأفكار التي تشغلنا الآن غير تلك المشاكل والأفكار، وأن الخلاف في هذه المسائل محصور في نطاق لا يكاد يذكر في بعض المجالس وفي جدران بعض الهيئات، حتى الأزهر نفسه، وتلك مهمته مشغول عن هذا الخلاف.

الأمة الآن معسكرات مختلفة لكل معسكر فكرته التي يدعو إليه وينادي بها، فهناك المعسكر الذي يدعو إلى الاندفاع وراء الأفكار والمظاهر الغربية في كل شيء، وهناك المعسكر الذي يثير المعنى القومي وحده في النفوس، ويريد أن يجعله أساسًا للنهوض، وهناك المعسكر الذي يأخذ بأعناق الناس وجهودهم إلى المسائل السياسية البحتة التي يراد بها استقرار الحكم في الداخل وحفظ الكرامة في الخارج، ولا يعنيه إلا هذا، وهناك معسكرات غير هذه، ومن وراء ذلك كله معسكر محمدي قرآني يهيب بكل هؤلاء: إن الإسلام يكفل لكم من السعادة والقوة كل ما تريدون فهلموا إليه.

أريد أن أصل من هذا الاستطراد إلى نتيجتين:

الأولى: أننا ليس بيننا في حقيقة الأمر خلاف كالذي كان بين الفلاسفة والسلفيين في القديم، فلا معنى لإحياء هذا الخلاف من جديد، ولا معنى للاحتجاج كذلك بما قال هؤلاء وأولئك، وأولى لنا جميعًا أن نترك ذلك الدور بما كتب فيه وما كان من أهله في ذمة التاريخ، ونرجع جميعًا في ديننا إلى المعين الأصلي الذي ما زال وسيظل صافيًا نقيًا، لا تكدره الحوادث، ولا ينال منه الزمن، ولا يزعزعه الخلاف، ذلك هو كتاب الله وسنة رسوله الصحيحة - صلى الله عليه وسلم -.

والثانية: أن ننصرف في صف مؤمن قوي موحد إلى معالجة مشاكل عصرنا، ودعوة الناس إلى محاسن هذا الدين وجلاله، وتقوية معسكرنا معشر المنادين بالإسلام فوق كل المعسكرات؛ حتى يكون له النفوذ الفكري والعملي، فيعود للإسلام ما كان له من هيمنة على الأرواح والأعمال.
وبعد، فذلك رأيي أيها السائل في موضع الخلاف.

2 - أما هل يجوز للفريقين أن يتقاذفا بهذه التهم على صفحات الجرائد السيارة، وأن تذاع هذه البحوث على العامة، فذلك ما لا أقرهما عليه ولا أوافقهما فيه، وفي لين القول وحسن الخطاب مندوحة، وهذه بحوث دقيقة أولى بها أن تكون بين أهل العلم في حلقهم الخاصة ومجالسهم المحصورة، وأذكر الفريقين بما رواه البخاري في صحيحه عن علي كرم الله وجهه "حدثوا الناس بما يعرفون أتحبون أن يكذب الله ورسوله".

وما رواه مسلم عن ابن مسعود رضي الله عنه قال "ما أنت بمحدث قومًا حديثًا لا تبلغه عقولهم إلا كان لبعضهم قتنة"، فإن كان ولابد من الكلام في هذه المباحث فليكن ذلك في قول لين، وفي بحث هادئ؛ حتى لا تسري عدوى الخلاف والتهاتر من الخاصة إلى العوام، وفي ذلك فساد كبير كما هو مشاهد في البلاد التي تشتد فيها العصبية لبعض الآراء، أقول هذا وأنا أعلم ما سيقال حول هذا الكلام من أن العقيدة أساس كل إصلاح، وأن دين الله تبارك وتعالى جلي واضح لا خفاء فيه، ولا يليق أن يكتم فيه شيء عن جميع الناس، وبأن هذه خصومة في الحق، وهي جائزة، وهذا هو الغضب لله، وهو فضيلة وهذا هو الدفاع عن دينه وهو واجب، وهذا من الجهاد بالقول والقلم، والقعود عنه إثم، فكيف يراد منا بعد هذا أن ننصرف إلى إصلاح جزئي والعقيدة فاسدة؟ وكيف يراد منا أن نجعل هذا الكلام خاصًا ودين الله عام للناس جميعًا؟.

وأحب أن أقول لمن يدور بفكره أو على لسانه وقلبه مثل هذا القول: احترس أيها الأخ من خداع الألفاظ ومزالق الأسماء، فالعقيدة شيء والخلاف في بعض المسائل التي لا يمكن لإنسان أن يعرف حقيقتها شيء آخر، وأحكام الدين التي هي عامة للناس جميعًا شيء، والأسلوب الذي تؤدي به وتقوم للناس شيء غيرها، والخصومة والغضب للدين شيء، وخلق هذه الخصومة وإثارة الفتنة بها شيء ثان، ولم لا يكون هذا من الجدل المنهى عنه، ومن المراء الذي أغضب رسول الله أشد الغضب على المتمارين حتى جعله يقول:

(1) "ما ضل قوم بعد هدى كانوا عليه إلا أوتو الجدل ثم قرأ: ﴿مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلاَّ جَدَلاً﴾ رواه الترمذي وابن ماجة، وقال الترمذي حسن صحيح.

(2) ويقول "من ترك المراء وهو مبطل بني له بيت في ربض الجنة، ومن تركه وهو محق بني له وسطها، ومن حسن خلقه بني له في أعلاها" رواه أبو داود والترمذي والبيهقي وغيرهم وحسّنه الترمذي.

(3) وروى الطبراني في الكبير عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: "كنا جلوسًا عند باب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نتذاكر ينزع هذا بآية، وينزع هذا بآية، فخرج علينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كأنما تفقأ في وجهه حب الرمان فقال "ما هؤلاء بهذا بعثتم أم بهذا أمرتم لا ترجعوا بعدي كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض".

(4) وعن أبي الدرداء وواثلة بن الأسقع وأنس بن مالك - رضي الله عنهم - قالوا "خرج علينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يومًا ونحن نتمارى في شيء من أمر الدين، فغضب غضبًا شديدًا لم يغضب مثله، ثم انتهرنا، فقال: مهلاً يا أمة محمد، إنما هلك من كان قبلكم بهذا، ذروا المراء؛ لقلة خيره، ذروا المراء فإن المؤمن لا يماري، ذروا المراء فإن المماري لا أشفع له يوم القيامة، ذروا المراء فأنا زعيم بثلاثة أبيات في الجنة في رياضها ووسطها وأعلاها لمن ترك المراء وهو صادق، ذروا المراء فإن أول ما نهاني عنه ربي بعد عبادة الأوثان المراء" رواه الطبراني في الكبير أيضًا.
وقد يقال: إن المرء شيء وما نحن فيه شيء آخر، فأقول: إن لم يكنه فهو نوع منه، ومن حام حول الحمى أوشك أن يقع فيه، واتقاء الشبهات استبراء للدين، والورع أن تدع مالا بأس به مخافة الوقوع فيما فيه بأس، فهل بعد ذلك مذهب لذاهب أيها الإخوان؟.

3 - وأما العمل على التوفيق بين الفريقين فنعما هو، وما أحبه إلى النفس وما أعظم فائدته، وإنا لمحاولون ذلك إن شاء الله، وأعتقد أن كثيرًا من المختلفين لو التقى بعضهم ببعض، وتركوا طريقة التحاور الكتابي إلى طريقة التفاهم الشفهي لأنتج هذا التعارف خيرًا كثيرًا، ولأدى إلى حل كثير من الخلافات في هدوء وفي توفير للوقت والمجهود، وحينئذ يستطيع كل رئيس جماعة أن يتقدم إلى جماعته برأي موحد أو بفكرة عامة، فيؤدي ذلك إلى الوحدة المنشودة إن شاء الله. وسنترقب الفرصة المناسبة لمثل هذا الاجتماع، فنعمل على تحقيقه إن شاء الله، والله حسبنا ونعم الوكيل.