بقلم: الشيخ محمد الغزالي

في وحشة الليل وسورة الغدر ويقظة الجريمة، كان الباطل بما طبع عليه من غرور ، وما جُبِل عليه من قسوة ، وما مرد عليه من لؤم ، كان مستخفيًا ينساب في أحياء القاهرة الغافلة ، يجمع سلاحه، ويبث عيونه ، ويسوق أذنابه مع الكبار والصغار ، ويعد عدته لكي يغتال حسن البنا .. مرشد الإخوان المسلمين.

وليس قتل الصديقين والصالحين في هذه الدنيا بالأمر الصعب!

إن القدر أذن بأن يعدو الرعاع قديمًا علي أنبياء الله ، فذُبحوا وهم يحملون أعباء الدعوة ، أفكثير على من تلقوا هذه الأعباء قبل أن تسقط على الأرض أن يردوا هذا المورد؟

بلى ومن طلب عظيمًا خاطر بعظيمته .

ومن هوان الدنيا على الله أن ترك كلاب المترفين فيها تشبع مع المترفين ، وأن ترك حملة الوحي فيها يهونون ... مع الوحي لا بأس.

سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رجلاً يقول : اللهم آتني أفضل ما أتيته عبادك الصالحين!! فقال : "إذن يعقر جوادك ويراق دمك.." حتى الجواد يقتل مع صاحبه ... لقد أصابه من الشهادة مسها القاني، ولو كان مربوطًا بعربة بضاعة لعاش دهرًا.

وكذلك أبى ربك أن يسترجع إليه المختارين من عباده - بعد ما أدوا رسالتهم في الحياة - وهم وافرون آمنون ، نعم .. أبى أن يتركوا هذه الحياة سالمين من طعناتها الفاجرة ، وجراحاتها الغادرة ، فمزق علج من المجوس أحشاء عمر، وعدا مأفون غر على حياة علي ، وقتل يزيد الماجن سبط الرسول الحسين ، وتآمرت دولة الأوغاد على قتل حسن البنا ، ولن تزال سلسلة الشهداء تطول حلقةً حلقةً ما بقي في الدنيا صراع بين الضياء والظلام.

عفاء على دار رحلت لغيرها * فليس بها للصالحين معرج
كدأب علي في المواطن قبله * أبي حسن والغصن من حيث يخرج

لقد قتل حسن البنا يوم قتل والعالم كله أهون شيء في ناظريه .

ماذا خرقت الرصاصة الأثيمة من بدن هذا الرجل؟

خرقت جسدًا أضنته العبادة الخاشعة ، وبراه طول القيام والسجود .
خرقت جسدًا غبرته الأسفار المتواصلة في سبيل الله ، وغضنت جبينه الرحلات المتلاحقة إلى أقاصي البلاد ، رحلات طالما عرفته المنابر فيها وهو يسوق الجماهير بصوته الرهيب إلى الله ، ويحشدهم ألوفًا في ساحة الإسلام!

لقد عاد القرآن غضًا طريًّا على لسانه، وبدت وراثة النبوة ظاهرة في شمائله.

ووقف هذا الرجل الفذ صخرة عاتية انحسرت في سفحها أمواج المادية الطاغية ، وإلى جانبه طلائع الجيل الجديد الذي أفعم قلبه حبًّا للإسلام واستمساكًا به .

وعرفت "أوروبا" البَغِيُّ أيَّ خطر على بقائها في الشرق إذا بقي هذا الرجل الجليل ، فأوحت إلى زبانيتها .. فإذا الإخوان في المعتقلات ، وإذا إمامهم شهيد مضرج في دمه الزكي !

ماذا خرقت الرصاصة من جسد هذا الرجل؟

خرقت العفاف الأبي المستكبر على الشهوات ، المستعلي على نزوات الشباب الجامحة .

لقد عاش على ظهر هذه الأرض أربعين عامًا لم يبت في فراشه الوثير منها إلا ليالي معدودة ، ولم تره أسرته فيها إلا لحظات محدودة ، والعمر كله بعد ذلك سياحة لإرساء دعائم الربانية ، وتوطيد أركان الإسلام ، في عصر غفل فيه المسلمون ، واستيقظ فيه الاستعمار ، ومن ورائه التعصب الصليبي ، والعدوان الصهيوني ، والسيل الأحمر! فكان حسن البنا العملاق الذي ناوش أولئك جميعًا حتى أقض مضاجعهم ، وهدد في هذه الديار أمانيهم.

لقد عَرفتُ التجردَ "للمبدأ" في حياة هذا الرجل .
وعرفت التمسك به إلى الرمق الأخير في مماته .
وعرفت خسة الغدر يوم قُدم رفات الشهيد هديه للمترفين والناعمين ، كما قدم - من قبل - دم علي مهرًا لامرأة .

عجبًا لهذه الدنيا وتبًّا لكبرائها .
ووارحمتاه لضحايا الإيمان في كل عصر ومصر!
أكذلك يقتل الراشد المرشد؟؟

ودِّعا أيها الحفيانُ ذاكَ الشخص * إن الوداع أيسر زاد
واغْسلاه بالدمع إن كان طهرًا * وادفِناه بين الحشا والفؤاد
وخذا الأكفان من ورق المصحف * كبرًا عن أنفس الأبراد
أسف غير نافع واجتهاد * لا يؤدي إلى غناء اجتهاد

-----------------
* من كتاب "تأملات في الدين والحياة " للشيخ محمد الغزالي ، ص 38 - 40 ، ط (4) ، دار نهضة مصر ، القاهرة ، 2004 م
,وقد نشر للمرة الأولى في فيراير 1951 م بمجلة الدعوة بالقاهرة في عددها الثالث .