أجل.. صناعة الموت؛ فالموت صناعةٌ من الصناعات؛ من الناس من يحسنها فيعرف كيف يموت الموتة الكريمة، وكيف يختار لموتته الميدان الشريف والوقت المناسب، فيبيع القطرة من دمه بأغلى أثمانها، ويربح بها ربحًا أعظم من كل ما يتصوَّر الناس، فيربح سعادة الحياة وثواب الآخرة، ولم تنتقص عن عمره ذرة، ولم يفقد من حياته يومًا واحدًا، ولم يستعجل بذلك أجلاً قد حدَّده الله.
ومن الناس جبناء أذلة؛ جهلوا سرَّ هذه الصناعة، وغفلوا عن مزاياها وفضائلها، فمات كل واحد منهم في اليوم ألف موتة ذليلة، وبقي وموتاته هذه حتى وافته الموتة الكبرى ذليلةً كذلك، لا كرمَ معها ولا نبلَ فيها، في ميدان خامل خسيس ضارع، وقضى ولا ثمن له، وأهدر دمه ولا كرامة.
إن القرآن الكريم علَّم المسلمين سرَّ هذه الصناعة، وأرشدهم إلى فضائلها وأرباحها ومزاياها، وندبهم إليها في سور كثيرة، مثل قول الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (10) تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ (11) يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (12) وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنَ اللهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرْ الْمُؤْمِنِينَ (13)﴾ (الصف)، وقوله تعالى: ﴿إِنَّ اللهَ اشْتَرَى مِنْ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمْ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ﴾ (التوبة: من الآية 111).. إلى آيات كثيرة لا يحصيها عدٌّ ولا يتناولها حصر.
وقد عرف هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه وسلف هذه الأمة، وعرفوا أنهم لن يتجاوزوا قدرًا قد أمضى وسلف، ولن يُحرموا أجرًا قد عظم وكُتب، ولن يستبقوا أجلاً قد قُدِّر وحُدِّد، فأحسنوا هذه الصناعة أيَّما إحسان، وهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لولا أن أشقَّ على أمتي ما قعدت خلف سرية، ولوددت أن أقتل في سبيل الله، ثم أحيا، ثم أقتل، ثم أحيا، ثم أقتل" (1)، وهذا صحابي جليل يُستشهد فيسأله الله عما يتمنَّاه، فيتمنَّى أن يعود إلى الدنيا ليُقتل مرةً ثانيةً في سبيل الله (2)، وهذا أبو بكر يقول لخالد في وصيته العظيمة: "يا خالد.. احرص على الموت توهب لك الحياة" (3).
ثم جاءت من بعد ذلك خلوف من المسلمين ركنوا إلى الدنيا في العبث واللهو، وأهملوا مواد القوة، وجهلوا صناعة الموت، وأحبوا الحياة، وتنافسوا على لقبٍ كاذبٍ، وجاهٍ زائلٍ، ومالٍ ضائعٍ، ومظهرٍ زائفٍ، وتعس عبد الدينار؛ عبد الدرهم؛ عبد القطيفة، فوقعوا في الذلة، واستمكن منهم العدو، وخسروا سيادة الدنيا، وما أعظم تبعتهم في الآخرة!، وحق عليهم قول الرسول صلى الله عليه وسلم؛ فقد تداعت على المسلمين الأمم، ونزع الله من قلوب أعدائهم المهابة منهم، وقذف في قلوبهم الوهن، وإنما الوهن حب الدنيا وكراهة الموت (4).
وكاد هذا الخلق الذليل يستبد بمشاعر المسلمين وعواطفهم، ويرين على قلوبهم وأرواحهم، ولكن رحمة الله التي يتدارك بها أهل هذا القرآن دائمًا لم تدعهم هكذا، فكانت "قضية فلسطين".
انجلى الصدأ عن المعدن النفيس، وبرزت النفس في ثوبها الحقيقي اللامع المجاهد، وتكشف الصدف عن لؤلؤه، وتمحَّص الذهب الخالص تحت نار الضغط الأثيم، وذهب فريق من أبطال المسلمين وجِدَّةٌ (5) السلف يحسنون من جديد صناعة الموت، ويطلبون عن طريقها حقهم في الحياة، وسرى هذا التيار من نفس الفئة المجاهدة القليلة في جوار الحرم المقدس إلى كثيرٍ من شباب الإسلام والعرب، فخفقت قلوبهم، واهتزت أريحيتهم، واضطرمت بهذا الشعور القرى والشوارع والميادين والبيوت والمدارس والمساجد في عاصمة العباسيين بغداد، وعاصمة الأمويين دمشق، وفي القاهرة عاصمة مصر ومعقل صلاح الدين، والتي أذاقت الصليبية أمرَّ الهوان في حطين، وقذفت بهم بعد ذلك إلى البحر، وردَّتهم عن البيت المقدس خائبين مدحورين، ولئن شاءت السياسة الموضعية أن تكبت هذا الشعور في بعض المواطن، وأن تُضعف من مظاهره العملية، فهي بذلك إنما تزيده قوةً، وتزيد النفوس به تأثرًا وانصهارًا، حتى إذا انفجر فلن ينفع في كبته بعد ذلك جهد الجاهدين ولا حذر المُتخوِّفين.
أيها الفلسطينيون البواسل من شباب محمد وحماة بيت المقدس.. صبر جميل، ولقد ربحتم كثيرًا، ولو لم يكن من نتائج ثورتكم المباركة الحقة إلا أن كشفتم غشاوات الذلة وحجب الاستسلام عن النفوس الإسلامية، وأرشدتم شعوب الإسلام إلى ما في صناعة الموت من لذة وجمال وروعة ورِبْح لكنتم الفائزين، ولكن أبشروا؛ فليس ذلك ربحكم فقط، ولكنكم ربحتم معه إعجاب العالم وثواب الله، وستربحون النصر المؤزر في القريب إن شاء الله، ﴿وَاللهُ مَعَكُمْ وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ﴾ (محمد: من الآية 35).
وأنتم أيها المسلمون في أقطار الأرض.. اذكروا هذا الدرس جيدًا، واعلموا أنه جاءكم في أمسِّ أوقاتكم حاجةً إليه، وتلقيتموه والعالم على فوهة بركان، فإياكم أن ترجعوا بعد اليوم "غنمًا" يصرفها الذئب أنَّى شاء لتكون له في الحرب فداءً وفي السلم غذاءً، ولكن تجهَّزوا لتحرروا ولتدفعوا عن أنفسكم كل كافر خوان لا عهد له ولا ذمة ولا موثق له ولا أمان.
أيها المسلمون في أقطار الأرض..
إن فلسطين هي خط الدفاع الأول، والضربة الأولى نصف المعركة؛ فالمجاهدون فيها إنما يدافعون عن مستقبل بلادكم وأنفسكم وذراريكم كما يدفعون عن أنفسهم وبلادهم وذراريهم، وليس قضية فلسطين قضية قُطْر شرقي ولا قضية الأمة العربية وحدها، ولكن قضية الإسلام وأهل الإسلام جميعًا، ولا محلَّ للتدليل على حقوق العرب فيها، ولا محلَّ لإيضاح هذه الحقوق وبيانها، ولا محلَّ للأقوال والخطب والمقالات، ولكن الساعة ساعة العمل.. احتجوا بكل مناسبة وبكل طريق.. قاطعوا خصوم القضية الإسلامية مهما كانت جنسياتهم أو نِحَلهم.
تبرَّعوا بالأموال للأسر الفقيرة والبيوت المنكوبة والمجاهدين البواسل.. تطوعوا إن استطعتم- لا عذر لمعتذر- فليس هناك ما يمنع من العمل إلا ضعف الإيمان.
ولا يهلك على الله إلا هالك.
﴿وَلَيَنصُرَنَّ اللهُ مَنْ يَنصُرُهُ إِنَّ اللهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ﴾ (الحج: 40).
---------
* مجلة النذير، العدد (18)، السنة الأولى، 2 شعبان 1357ﻫ= 26 سبتمبر 1938م، ص(3- 5).
(1) أخرجه البخاري في "الإيمان"، باب: "الْجِهَادُ مِنْ الإِيمَانِ"، ح (35) واللفظ له، ومسلم في "الإِمارَةِ"، باب: "فَضْلِ الْجِهَادِ وَالْخُرُوجِ فِي سَبِيلِ اللهِ"، ح (3487).
(2) حديث جابر بن عبد الله، أخرجه الترمذي في "تفسير القرآن عن رسول الله"، باب: "من سورة آل عمران"، ح (2936)، وابن ماجه في "الجهاد"، باب: "فضل الشهادة في سبيل الله"، ح (2790)، وقد صحَّحه الألباني في "صحيح الجامع"، ح (7905).
(3) وفيات الأعيان، (3/67).
(4) يشير إلى قول الرسول الكريم: "يُوشِكُ الأُمَمُ أَنْ تَدَاعَى عَلَيْكُمْ كَمَا تَدَاعَى الأَكَلَةُ إِلَى قَصْعَتِهَا" فَقَالَ قَائِلٌ: وَمِنْ قِلَّةٍ نَحْنُ يَوْمَئِذٍ؟ قَالَ: بَلْ أَنْتُمْ يَوْمَئِذٍ كَثِيرٌ، وَلَكِنَّكُمْ غُثَاءٌ كَغُثَاءِ السَّيْلِ، وَلَيَنْزَعَنَّ اللهُ مِنْ صُدُورِ عَدُوِّكُمْ الْمَهَابَةَ مِنْكُمْ، وَلَيَقْذِفَنَّ اللهُ فِي قُلُوبِكُمْ الْوَهْنَ. فَقَالَ قَائِلٌ: يَا رَسُولَ اللهِ، وَمَا الْوَهْنُ؟ قَالَ: حُبُّ الدُّنْيَا وَكَرَاهِيَةُ الْمَوْتِ"، والذي أخرجه أبو داود، في "الْمَلاحِمِ"، باب: "فِي تَدَاعِى الأُمَمِ عَلَى الإِسْلامِ"، ح (3745)، وقد صحَّحه الألباني في "صحيح سنن أبي داود"، ح (4297).
(5) في الأصل: "وحدة"، وجدَّ الشيءُ يَجِدُّ بالكسر جِدَّةً: صار جديدًا، وهو نقيض الخَلَقِِ، الصحاح، مادة (جدد).