قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ ‏(‏15‏) (آل عمران).

بقلم: الشهيد سيد قطب

وهذا المتاع الأخروي الذي تذكره الآية هنا، ويؤمر الرسول- صلى الله عليه وسلم- أن يبشر به المتقين، هو نعيم حسي في عمومه‏.‏

‏.‏ ولكن هنالك فارقاً أساسياً بينه وبين متاع الدنيا‏.‏‏.‏ إنه متاع لا يناله إلا الذين اتقوا‏.‏ الذين كان خوف الله وذكره في قلوبهم‏.‏ وشعور التقوى شعور مهذب للروح والحس جميعاً‏.‏ شعور ضابط للنفس أن تستغرقها الشهوات، وأن تنساق فيها كالبهيمة‏.‏ فالذين اتقوا ربهم حين يتطلعون إلى هذا المتاع الحسي الذي يبشرون به يتطلعون إليه في شفافية مبرأة من غلظة الحس‏!‏ وفي حساسية مبرأة من بهيمية الشهوة‏!‏ ويرتفعون بالتطلع إليه- وهم في هذه الأرض- قبل أن ينتهي بهم المطاف إلى قرب الله‏.‏‏.‏

وفي هذا المتاع النظيف العفيف عوض كامل عن متاع الدنيا‏.‏‏.‏ وفيه زيادة‏.‏‏.‏

فإذا كان متاعهم في الدنيا حرثاً مُعطياً مخصباً، ففي الآخرة جنات كاملة تجري من تحتها الأنهار‏.‏ وهي فوق هذا خالدة وهم خالدون فيها، لا كالحرث المحدود الميقات‏!‏

وإذا كان متاعهم في الدنيا نساء وبنين، ففي الآخرة أزواج مطهرة‏.‏ وفي طهارتها فضل وارتفاع على شهوات الأرض في الحياة‏!‏

فأما الخيل المسومة والأنعام‏.‏ وأما القناطير المقنطرة من الذهب والفضة‏.‏ فقد كانت في الدنيا وسائل لتحقيق متاع‏.‏ فأما في نعيم الآخرة فلا حاجة إلى الوسائل لبلوغ الغايات‏!‏

ثم‏.‏‏.‏ هنالك ما هو أكبر من كل متاع‏.‏‏.‏ هنالك ‏{‏رضوان من الله‏}‏‏.‏ رضوان يعدل الحياة الدنيا والحياة الأخرى كليهما‏.‏‏.‏ ويرجح‏.‏‏.‏ رضوان‏.‏ بكل ما في لفظه من نداوة‏.‏ وبكل ما في ظله من حنان‏.‏

‏{‏والله بصير بالعباد‏}‏‏.‏‏.‏

بصير بحقيقة فطرتهم وما ركب فيها من ميول ونوازع‏.‏ بصير بما يصلح لهذه الفطرة من توجيهات وإيحاءات‏.‏ بصير بتصريفها في الحياة وما بعد الحياة‏.‏

ثم وصف لهؤلاء العباد، يصور حال المتقين مع ربهم، الحال التي استحقوا عليها هذا الرضوان‏:‏

‏{‏الذين يقولون‏:‏ ربنا إننا آمنا، فاغفر لنا ذنوبنا، وقنا عذاب النار‏.‏ الصابرين والصادقين‏.‏ والقانتين‏.‏ والمنفقين‏.‏ والمستغفرين بالأسحار‏}‏‏.‏‏.‏

وفي دعائهم ما ينم عن تقواهم‏.‏ فهو إعلان للإيمان، وشفاعة به عند الله، وطلب للغفران، وتوقٍ من النيران‏.‏

وفي كل صفة من صفاتهم تتحقق سمة ذات قيمة في حياة الإنسانية وفي حياة الجماعة المسلمة‏:‏

في الصبر ترفع على الألم واستعلاء على الشكوى، وثبات على تكاليف الدعوة، وأداء لتكاليف الحق، وتسليم لله واستسلام لما يريد بهم من الأمر، وقبول لحكمه ورضاء‏.‏‏.‏

وفي الصدق اعتزاز بالحق الذي هو قوام الوجود، وترفع عن الضعف؛ فما الكذب إلا ضعف عن كلمة الحق، اتقاء لضرر أو اجتلابا لمنفعة‏.‏

وفي القنوت لله أداء لحق الألوهية وواجب العبودية؛ وتحقيق لكرامة النفس بالقنوت لله الواحد الذي لا قنوت لسواه‏.‏

وفي الإنفاق تحرر من استذلال المال؛ وانفلات من ربقة الشح؛ وإعلاء لحقيقة الأخوة الإنسانية على شهوة اللذة الشخصية؛ وتكافل بين الناس يليق بعالم يسكنه الناس‏!‏

والاستغفار بالأسحار بعد هذا كله يلقي ظلالاً رفافة ندية عميقة‏.‏

‏ولفظة «الأسحار» بذاتها ترسم ظلال هذه الفترة من الليل قبيل الفجر‏.‏ الفترة التي يصفو فيها الجو ويرق ويسكن؛ وتترقرق فيها خواطر النفس وخوالجها الحبيسة‏!‏ فإذا انضمت إليها صورة الاستغفار ألقت تلك الظلال المنسابة في عالم النفس وفي ضمير الوجود سواء‏.‏ وتلاقت روح الإنسان وروح الكون في الاتجاه لبارئ الكون وبارئ الإنسان‏.‏

هؤلاء الصابرون، الصادقون، القانتون، المنفقون، المستغفرون بالأسحار‏.‏‏.‏ لهم ‏{‏رضوان من الله‏}‏‏.‏‏.‏ وهم أهل لهذا الرضوان‏:‏ ظله الندي ومعناه الحاني‏.‏ وهو خير من كل شهوة وخير من كل متاع‏.‏‏.‏

وهكذا يبدأ القرآن بالنفس البشرية من موضعها على الأرض‏.‏‏.‏ وشيئاً فشيئاً يرف بها في آفاق وأضواء، حتى ينتهي بها إلى الملإ الأعلى في يسر وهينة، وفي رفق ورحمة‏.‏ وفي اعتبار لكامل فطرتها وكامل نوازعها‏.‏ وفي مراعاة لضعفها وعجزها، وفي استجاشة لطاقاتها وأشواقها، ودون ما كبت ولا إكراه‏.‏ ودون ما وقف لجريان الحياة‏.‏‏.‏ فطرة الله‏.‏ ومنهج الله لهذه الفطرة‏.‏‏.‏ ‏{‏والله بصير بالعباد‏}‏‏.‏‏.‏