إن أخطر ما يؤثر في بناء شخصية المسلم، ويقلل أو يزيد من فاعليته في مجتمعه الذي يعيش فيه، درجة وضوح فكرته ودعوته، فإذا ما وضحت هذه الفكرة لديه أخذ يدعو إليها كل قلب متفتح على أنها الخير المحض الذي يؤمن به، فيقدم للناس التصور السليم الذي يحمله والفكرة العميقة التي يعتقدها بالوضوح الذي لديه.
وهكذا ولد حسن البنا ليحقق في نفسه ما وصف به صديقه الجليل الأستاذ محمد الشرنوبي الذي قال له:
"إن الرجل الصالح يترك أثرًا في كل مكان ينزل فيه، ونحن نأمل أن يترك صديقنا أثرًا صالحًا في هذا البلد الجديد عليه" يوم أن همَّ الأستاذ حسن البنا بالسفر إلى الإسماعيلية لتسلم عمله هناك معلما، يوم الإثنين الموافق 16 من سبتمبر 1927م، وبالفعل حرص الإمام البنا على ترك بصمات في مسيرة حياته.
لقد عرف الإمام البنا تاريخ الأمم والنهضات وتاريخ الدعوات والرسالات، وعرف من قراءة التاريخ أن نهضات الأمم ورسالات النبيين ودعوات المصلحين لا تنجح ولا تنتصر إلا بالرجال المؤمنين الأقوياء ولذا عمل جاهدا على تأليف الرجال لا تأليف الكتب، واستطاع أن ينجح فيه.
* في بيت علم
ولد الإمام الشهيد حسن أحمد عبد الرحمن البنا في ضحى يوم الأحد 25 شعبان 1324هـ الموافق 14 أكتوبر 1906م، بالمحمودية في محافظة البحيرة بمصر، وكان الابن الأكبر لأبوين مصريين من قرية شمشيرة بندر فوه التابع لمديرية الغربية سابقًا ومحافظة كفر الشيخ حاليًا(1).
حرص والده الشيخ أحمد عبد الرحمن الساعاتي على غرس روح الرجولة فيه منذ الصغر، كما حرص على أن ينشئه تنشأة إسلامية حقيقية، فعهد به إلى الشيخ محمد زهران، ليتم على يده حفظ القرآن الكريم.
وضحت هذه التربية في وصف عبد الرحمن أخي الإمام البنا بقوله: كنا نعود من المكتب فتتلقفنا يد الوالد الكريم، فتعدنا وتصنعنا، وتحفظنا دروس السيرة النبوية المطهرة وأصول الفقه والنحو، وكان لنا منهاج يدرسه لنا الوالد الكريم.
هذه التربية التي جعلت الإمام البنا يعرف قيمة بر الوالدين، ويعلي من الاهتمام بإخوته فيعمل - بعدما انتقل للإسماعيلية - على مساعدة والده في تربية إخوته، بل لا يدخر جهدا في إنفاق ما لديه من مال على والداه وإخوته.
لقد حرص حسن البنا على أن يكون مبادرا وإيجابيا في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، سواء بتأليف الجمعيات من أصدقائه الصغار أو بالتواصل مع العلماء للقيام بذلك.
ولذا اجتمع على الشيخ البنا الشباب والشيوخ وأبناء المدن والقرى والفلاحون والمتعلمون والأميون وطلاب الجامعة وأساتذتها، وخريجو المدارس المدنية وخريجو المعاهد الأزهرية، وكذلك الرجال والنساء، وكان يقوم على توجيههم وتربيتهم تربية إيمانية صنعت منهم نماذج أثرت في مجرى الأحداث.
* إيجابية مبكرة
اهتم الإمام البنا بقضايا أمته، وأصبح مهموما بكل ما يحاك بها وما يدبر لها؛ حيث كان يعتصر قلبه الألم حينما يرى المنصّرين يجوبون البلاد ينشرون فتنهم، ويصدون الناس عن دينهم، في وقت لاذ الجميع بالصمت.
فطرق أبواب العلماء أمثال الشيخ يوسف الدجوي، ليبث له ما يجيش في صدره، ويظل ملازما له في كل مكان يذهب إليه - وهو ما زال طالبا في دار العلوم - حتى وافق الشيخ ومن معه من العلماء على إصدار مجلة الفتح الإسلامية التي رأس تحريرها الشيخ عبد الباقي سرور وكان مدير تحريرها السيد محب الدين الخطيب، وكانت حربا ضد المنصّرين والملحدين.
فما إن انتقل للإسماعيلية حتى حمل سبورته تحت ذراعه وانطلق يصل بهذه الدعوة في الأماكن التي لم يكن يتصور أحد أن ينطق فيها بكلام القرآن فيها، فعمد إلى المقاهي فنشر دعوته فيها، وكانت باكورة الدعوة من روادها حينما اجتمع معه ستة نفر من العمال الذين كانوا يرتادون المقاهي، لكنهم تأثروا بما قالوا وما طرحه حول الإسلام.
ولقد وصفه أخوه عبد الرحمن بقوله: وينزل على المسجد فإذا هو ضيف على الله تبارك وتعالى، وقد ينزل في رمضان وهو صائم فيكون إفطاره الماء والتمر، لا يذوق غيره ولا يتبلغ بسواه فإذا ملأ الناس بطونهم، وطعموا مما يشتهون، قدموا إلى المسجد ينظرون الطارق الغريب، ويستطلعون النبأ العجيب، ويقولون من هذا الرجل؟ وماذا يريد؟ فينهض الرجل في عباءته وجلبابه، ويهدر مخوفًا بطش الله ومنذرًا بعذابه، ويسترسل في شرح رحمته وما ورد من فضله ونعمته في آيات كتابه، والناس مشدوهون مأخوذون، غائبون مسحورون منصتون لا يتحركون، يعجبون مما يسمعون(2)
* ضد المحتل
كان لتربية الإمام البنا على مفاهيم الإسلام الحنيف أثر في تشكيل شخصيته الوطنية؛ حيث بغض المحتل ووعى خطورة الوجود الأجنبي في مصر؛ ما دفعه للوقوف ضده في كل المواقف، وعلى الرغم من العناية بالتربية الروحية فإن ذلك لم يمنعه وهو تلميذ في الإعدادية - في سن الثالثة عشرة - من المشاركة في الحركة الوطنية وقيادة زملائه في المظاهرات والإضرابات التي كانت تنظم في المدرسة بل يكتب شعرا يرثي فيه الزعيم الوطني محمد فريد، ويهاجم في إصرار لجنة "ملنر" بقوله:
أفريد نم بالأمن والإيمان أفريد لا تجزع على الأوطان
أفريد تفديك البلاد بأسرها(3)
وعمل الإمام البنا على غرس هذه المعاني في منهج تربية الإخوان، فيقول: هدف الإخوان المسلمون منذ نشأتهم، أن يعملوا جاهدين على تحريرها من نير الأجنبي، واستخلاصها من براثن الاستعمار الغاشم مستوحين في ذلك روح الحق، ونزاهة القصد ونهج السبيل(4).
وحينما قامت ثورة 1919م شقت أحداثها الطريق وعرفت السبيل إلى نفس ومشاعر الإمام البنا؛ حيث ساعدت على نمو الجانب السياسي والحس الوطني عنده وهو في سن مبكرة.
يقول في مذكراته: "وكنت - رغم اشتغالي بالتصوف والتعبد - أعتقد أن الخدمة الوطنية جهاد مفروض لا مناص منه، فكنت بحسب هذه العقيدة وبحسب وضعي بين الطلاب ملزمًا بأن أقوم بدور بارز في هذه الحركات.
* مواجهة والفساد
مما ينفطر له قلب الغيور وتميد من أجله الأرض وتمور أن المتابع للحياة المصرية في هذه الفترة يجد الرذائل والموبقات قد اجتاحت البلاد طولاً وعرضًا.. فساد في الأخلاق، وخروج على الشريعة، وإلحاد في الدين، وزيغ في العقيدة، وشهوات قاتلة، وعفاف ينتحر، وطهر كاد يندثر، وحرية معناها - عند المنادين بها - الإباحية وترك الفرائض والفضائل والآداب.
ولهذا عمل منذ صغره على محاربة مظاهر الفساد في النفوس وفي المجتمع، فما أن رأى تمثالا عاريا منصوبا على سارية مركب تقف على شاطئ ترتاده النساء - وهو ما زال صغيرا - حتى توجه لصاحبه فنصحه، وما إن وجد منه الإعراض والكبر حتى توجه الإمام البنا إلى مركز البوليس وأبلغ الضابط بما رأى وحدث، فأكبر الضابط غيرته وذهب معه، حيث هدد صاحب المركب بكسر هذا التمثال، فاستجاب لأمره.
كانت هذه انطلاقة البنا في التصدي لمظاهر الفساد التي استشرت في جميع مفاصل الدولة، سواء في الحكم، أو الشعب.
حيث ترجم الإمام البنا مقالاته وكتاباته لمواقف عملية قام بها هو وإخوانه في ربوع البلاد، فعمد لمحاربة البغاء، والتصدي لمظاهر الاباحية في الإعلام، وحرص على غرس القيم في الشباب خاصة والناس عامة، وحض الموظفين على الاتقان في العمل، ونصح للملك وأرباب السلطان،
وهكذا تمر ذكرى ميلاد الإمام البنا حيث لم تهدأ الأقلام في الكتابة عن أثره وبصماته التي تركها - رغم قصر الفترة التي عاشها - لكنه حرص أن يحيي معاني الإسلام في نفسه قبل أن يحيها في نفوس من رباهم، فترجمها مظاهر عملية كانت نورا وضياء لمن جاء بعده.
-----------
* المراجع:
جمعة أمين عبد العزيز: أوراق من تاريخ الإخوان المسلمين، الكتاب الأول، دار التوزيع والنشر الإسلامية، 2003م، صـ 110.
الدعوة – العدد (156) – 5جماد آخر 1373هـ / 9فبراير 1953م
حسن البنا: مذكرات الدعوة والداعية، دار التوزيع والنشر الإسلامية، 1998، صـ33.
جريدة الإخوان المسلمين الأسبوعية، العدد 89، السنة الرابعة، 7 ربيع أول 1365/ 9 فبراير 1946، صـ3.
جريدة النذير، العدد (2)، السنة الأولى، 7 ربيع ثان 1357/ 6 يونيو 1938، صـ3.