لماذا يسارعون في إرضاء الله والأمة؟

{ يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ}

أحيانا عند تلاوتك لآيات الله تعالى وتدبرك لها، تصطدم ببعض الآيات كأنك لم تقرأها من قبل، وإن كنت تحفظها كأنك لم تكن تحفظها. ويرجع ذلك إلى أن تلك الآية تهم أمرا وقع لك، أو يهم واقعك.

ومن الآيات التي تستحق التأمل في عصرنا هذا، والتي نجد تطبيقها الحرفي -للأسف الشديد- في كل عصر، ابتداء من أبي بن سلول رأس المنافقين. وهي قوله سبحانه وتعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ، فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ} [المائدة: 51-52].

يذكر ابن كثير رحمه أن المفسرين اختلفوا في سبب نزول هاته الآيات الكريمات. ومن أسباب نزولها المشهورة أنها نزلت في رأس المنافقين أبي بن سلول: "جاء عبادة بن الصامت، من بني الخزرج، إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، إن لي موالي من يهود كثير عددهم، وإني أبرأ إلى الله ورسوله من ولاية يهود، وأتولى الله ورسوله. فقال عبد الله بن أبي: إني رجل أخاف الدوائر، لا أبرأ من ولاية موالي. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعبد الله بن أبي: "يا أبا الحباب، ما بخلت به من ولاية يهود على عبادة بن الصامت فهو لك دونه". قال: قد قبلت! فأنزل الله عز وجل: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ، فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ}[المائدة: 51-52]".

يقول صاحب تفسير "المنار": "هذه الآيات وإن لم تكن نزلت في أبي سلول رأس المنافقين، فإن رواة التفسير المأثور اتفقوا على نزول الآية في المنافقين، فهم الذين في قلوبهم مرض؛ أي إيمانهم معتل غير صحيح، إذ لم يصلوا فيه إلى مستقر اليقين، وكان عبد الله بن أبي - زعيم المنافقين - ذا ضلع مع يهود بني قينقاع، وكان غيره من المنافقين يمتون إلى اليهود بالولاء والعهود، ويسارعون في هذه السبيل التي سلكوها. كلما سنحت لهم فرصة لتوثيق ولائهم وتأكيده ابتدروها، فهم يسارعون في أعمال موالاتهم مسارعة الداخل في الشيء، الثابت عليه، الراغب فيما يزيده تمكنا وثباتا، ولهذا قال: (يسارعون فيهم) ولم يقل يسارعون إليهم، فما عذر هؤلاء الذين يرددونه في أنفسهم ويقولونه عند الحاجة بألسنتهم (يقولون نخشى أن تصيبنا دائرة) أي نخشى أن تقع بنا مصيبة كبيرة مما يدور به الزمان، أو من المصائب والدواهي التي تحيط بالمرء إحاطة الدائرة بما فيها.

فنحتاج إلى نصرتهم لنا، فنحن نتخذ لنا يدا عندهم في السراء؛ ننتفع بها إذا مست الضراء. والمراد أنهم يخشون أن تدول الدولة لليهود أو المشركين على المؤمنين، وكان اليهود عونا للمشركين على المؤمنين كما ظهر في وقعة بدر والأحزاب، فيحل بهم ما يحل بالمؤمنين من النقمة. ذلك بأنهم غير موقنين بوعد الله بنصر رسوله، وإظهار دينه على الدين كله، لأنهم في شك من أمر نبوته، لم يوقنوا بصدقها ولا بكذبها، فهم يريدون أن ينتفعوا منها بإظهارهم الإيمان بها، وأن يتخذوا لهم يدا عليها لأعدائها، ليكونوا معهم إذا دالت الدولة لهم".

يقول د. الزحيلي صاحب التفسير المنير ذاكر السبب في موالاة المنافقين للكفار: " وسبب موالاة هؤلاء المنافقين لأعداء الإسلام: أنهم يتأولون في مودتهم أنهم يخشون انتصار الكافرين على المسلمين، فتكون لهم أياد عند اليهود والنصارى، فينفعهم ذلك. وهذا شأن المنافقين المستضعفين في كل زمان ومكان، يتخذون صداقات ومودات عند زعماء الكفر لتأييدهم ودعمهم أثناء الأزمات، وقد أثبت الواقع تخليهم عنهم وقت المحنة الشديدة وبيع صداقتهم بثمن بخس، وقد رأينا في عصرنا كيف تتخلى أمريكا مثلا عن رئيس دولة ما عاش كل عهده حليفا لها، ومنفذا لمآربها، وسائرا في مخططاتها، فهي التي تستخدمه وتستهلكه، ثم تتخلى عنه وقت المحنة والأزمة، فخاب كل من استعان بغير الله وبغير أهل دينه".

قد رأينا كيف ربط الدكتور الزحيلي الآيات بعصرنا، الذي ما زلنا نرى فيه أمثال أبي بن سلول. ويربط صاحب تفسير المنار هو الآخر الآيات بالواقع الذي كان يعيشه، حيث يقول: " وهكذا شأن المنافقين في كل زمان ومكان، وهو الذي جعل كثيرا من وزراء بعض الدول منذ قرن أو قرنين ما بين روسي وإنكليزي وألماني في سياسته، كل منهم يتخذ له يدا عند دولة قوية يلجأ إليها إذا أصابته دائرة، حتى تغلغل نفوذ هذه الدول في أحشاء هذه الدولة، فأضعف استقلالها في بلادها، ويخشى ما هو أكبر من ذلك، من خطر نفوذهن فيها، وحتى صار بعض رجالها الصادقين لها يرون أنفسهم مضطرين إلى الاستعانة بنفوذ بعض هذه الدول على بعض، وأما الذين استعمر الأجانب بلادهم بأي صورة من صور الاستعمار، وأي اسم من أسمائه، فأمر منافقيهم أظهر، يتقربون إلى الأجانب بما يضر أمتهم، حتى فيما لم يكلفوهم إياه، ويسمون هذا تأمينا لمستقبلهم، واحتياطا لمعيشتهم، ولو التزموا الصدق في أمرهم كله، فلم يلقوا أمتهم بوجه والأجانب بوجه لكان خيرا لهم وأقرب إلى الجمع بين مصلحة البلاد ومداراة الأجانب، ولكنه النفاق يخدع صاحبه بما يظن صاحبه أنه يخدع به غيره ويسلك سبيل الحزم لنفسه، وهو الذي يحمل بعض المنافقين الخائنين على نهب مال أمتهم ودولتهم، وإيداعه في مصارف أوربة لأجل التمتع به، إذا دارت الدائرة على دولتهم".

ويصف الدكتور راتب النابلسي حال المسلمين في عصرنا الحالي مع هذه الآية{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ}: "طبعاً هذه الآية نعيشها، ولا تحتاج إلى شرح، لأن المسلمين حينما اتخذوا اليهود والنصارى أولياء ضاع منهم كل شيء، لكن الذي يلفت النظر:{بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ}. قد يكون بين هؤلاء وهؤلاء عداوات لا يعلمها إلا الله ولكنهم أمام قضية المسلمين صف واحد، شرقاً وغرباً: {بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ}.

هم أمام الحق يتعاونون، أمام الحق يتحدون، أمام الحق يتوافقون:{ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ }. ما ينبغي أن يكون: يجب أن تنتمي إلى هؤلاء المؤمنين، ولو لم يكونوا أقوياء كما تتمنى، ولو لم يكونوا متفوقين في الدنيا كما تتمنى، لكنهم قومك، بدل أن تنسحب منهم، بدل أن تنتمي إلى أعدائهم، خذ بيدهم، وقل: يا رب أعني على تخفيف الظلم عنهم. فالعبرة في العاقبة والله سبحانه وتعالى لا يتخلى عن عباده المؤمنين :قال تعالى: { فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ}. وقال سبحانه {وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} [سورة الأعراف: 128].