إن الصادق مع نفسه صدقًا كاملاً هو وحده الذي يعيش في توافق ورضا داخلي، ويتحرر من ازدواجية الشخصية، ومن الصراع النفسي؛ لأن ظاهره كباطنه، فلا يقول إلا صدقًا، والتعبير العفوي التلقائي عن كل ما يجول في النفس من خواطر وخلجات هو الذي يفجّر الطاقة الإبداعية؛ لأن الإبداع لا يتأتى إلا بالانطلاق الحر واقتحام كل العقبات.
الصدق الكامل مع النفس هو المقدمة الضرورية للارتقاء الكامل بها والوصول إلى الله، وحين قال النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه: "لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من نفسه" لم يكتم عمر بن الخطاب حقيقة ما يدور في نفسه، وإنما عبَّر بكل وضوح فقال للنبي صلى الله عليه وسلم: "إنك أحب الناس إليّ سوى نفسي"، وحين همَّ شاب بالزنا كان صادقًا مع نفسه، فقال للنبي صلى الله عليه وسلم: ائذن لي بالزنا! هذا الصدق الفطري الذي لا خداع ولا تجمُّل زائف معه هو الذي أدى في النهاية إلى هداية هذا الشاب وانشراح صدره للعفة حتى صار الزنا أبغض شيء إلى قلبه.
في حديث آخر عن النبي صلى الله عليه وسلم أن المؤمن قد يسرق وقد يزني، ولكنه لا يكذب، فكيف يكون الزنا أخف ضررًا من السرقة والكذب؟!
التأمل العميق لهذا الحديث يكشف لنا عن أن الصادق مع نفسه يستحيل عليه أن يزني أو يسرق، وإن فعل في لحظة ضعف فسيسارع إلى الندم والاستغفار.
الصدق هو أبو الفضائل كلها؛ لأن الصدق قبل أن يكون مع الناس فهو مع النفس، وحين يصدق الإنسان مع نفسه لن يقدم على الزنا؛ لأنه بصدقه سيرفض ازدواجية المعايير وما لا يرضاه لأخته لن يرضاه لأخوات الناس، بينما الكاذب قد فسدت فطرته، فلا يستبعد عليه أن يقدم على أي معصية بعد ذلك.
في القرآن الكريم تظهر حالة من الشفافية في تناول شخصية النبي محمد صلى الله عليه وسلم؛ حتى تبدو سيرته شفافةً كالقوارير الممردة لا يخفى على الناس شيء من خلجات صدره.
تأمل في قول الله تعالى: (وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تخشاه).
ما أقسى الصراحة، لكنها ضريبة إلزامية للارتقاء والاصطفاء، هنا يُظهر القرآن أخص خلجات نفس النبي محمد صلى الله عليه وسلم فيما يتعلق بقصة زوجة زيد، فيقول له في قرآن يتلى إلى يوم الدين "وتُخفِي في نفْسِكَ مَا اللهُ مُبدِيهِ وتَخشَى الناسَ واللهُ أحقُّ أنْ تَخْشَاهُ"، يروى عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: "لو كان محمد كاتمًا شيئًا من الوحي لكتم هذه الآية".