تعرضت جماعة الإخوان المسلمين عبر مسيرة حياتها إلى العديد من الاضطهاد والتعذيب والإيذاء – خاصة في بلاد الإسلام – ومع استمرار هذا المنهج من الأنظمة المتعاقبة فإن الفعل واحد والنموذج واحد.
فما يجري الآن في مصر على يدي النظام العسكري منذ انقلاب 3 يوليو 2013م، وما يجري في جميع الدول العربية والإسلامية ضد كل من يعارض أو يطالب بتعاليم الإسلام، ليس بالجديد فقد تعرض لها رسل الله والمصلحون منذ أدم – عليه السلام – حتى وقتنا هذا.
وما يتعرض له الإخوان المسلمون سطّره الإمام الشهيد حسن البنا في أكثر من مقال وأكثر من رسالة، حيث إنها سنن كونية بين الحق والباطل، وهو ما أدركه المستعمر الغربي فنصب رجالا من بني جلدتنا لتنوب عنه فيما يريد ضد الشعوب الإسلامية المطالبة بتطبيق تعاليم الإسلام في كل شئون الحياة.
فما جرى على يدي زبانية إبراهيم عبد الهادي عام 1949م من تعذيب واعتقال واضطهاد بلغت أن سمي عصره بالعسكري الأسود لشدة ما لاقاه الإخوان من تعذيب، مرورًا بعصر عبدالناصر الذي عمل جاهد على القضاء على الحركة الإسلامية وتغييبها عن الساحة ونشر الفكر الناصري، منتهيًا بما يجري لهم من أكبر حملة تنكيل واضطهاد تمارس ضدهم في ربوع العالم خاصة العربي.
إن الأهوال والصعاب سمة من سمات الدعوات الخيرة، وقد كان الإمام الشهيد حسن البنا المرشد الأول للإخوان المسلمين، عبَّر عن هذا المعنى تمامًا، حين قال "أحب أن أصارحكم أن دعوتكم لا زالت مجهولة عند كثير من الناس، ويوم يعرفونها ويدركون مراميها ستلقى منهم خصومه شديدة وعداوة قاسية، وستجدون أمامكم كثيرًا من المشقات وسيعترضكم كثير من العقبات، وفي هذا الوقت وحده تكونون قد بدأتم تسلكون سبيل أصحاب الدعوات. أما الآن فلا زلتم مجهولين، ولا زلتم تمهدون للدعوة، وتستعدون لما تتطلبه من كفاح وجهاد. سيقف جهل الشعب بحقيقة الإسلام عقبة فى طريقكم، وستجدون من أهل التدين ومن العلماء الرسميين من يستغرب فهمكم للإسلام وينكر عليكم جهادكم في سبيله، وسيحقد عليكم الرؤساء والزعماء وذوو الجاه والسلطان، وستقف في وجهكم كل الحكومات على السواء، وستحاول كل حكومة أن تحد من نشاطكم وأن تضع العراقيل في طريقكم..
وسيتذرع الغاصبون بكل طرق لمناهضتكم وإطفاء نور دعوتكم، وسيستعينون في ذلك بالحكومات الضعيفة والأيدي الممتدة إليهم بالسؤال وإليكم بالإساءة والعدوان. وسيثير الجميع حول دعوتكم غبار الشبهات وظلم الاتهامات، وسيحاولون أن يلصقوا بها كل نقيصة، وأن يظهروها للناس في أبشع صورة، معتمدين على قوتهم وسلطانهم، ومعتدين بأموالهم ونفوذهم: ﴿يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللهُ إِلا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ﴾[التوبة: 32]. وستدخلون بذلك - ولا شك - في دور التجربة والامتحان، فتسجنون وتعتقلون، وتنقلون وتشردون، وتصادر مصالحكم، وتعطل أعمالكم، وتفتش بيوتكم، وقد يطول بكم مدى هذا الامتحان: ﴿أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ﴾[العنكبوت: 2]. ولكن الله وعدكم من بعد ذلك كله نصرة المجاهدين ومثوبة العاملين المحسنين: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ.......... فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ﴾[الصف: 10-14] [رسالة بين الأمس واليوم، صـ578].
ولم تقتصر رؤية حسن البنا لهذا الأمر على هذه الرسالة، لكنه عاد وأكدها بعدما وقعت المحنة عمليا، حينما حلت الجماعة بقرار من النقراشي باشا – رئيس الوزراء المصري- في 8 ديسمبر 1948م، بناء على المذكرة التي قدمها عبدالرحمن عمار – وكيل وزارة الداخلية - إلى رئيس الوزراء، والتي استند فيها على وقائع سواء غير صحيحة أو لم يكن الإخوان طرفا فيها أو كانوا هم المعتدى عليهم، إلا أنه في تقريره جمع كل ما يخص الإخوان، معتمدًا على سلطاته وامتلاكه لجميع الأدوات الإعلامية، والعمل على تغيب الرأي العام وتضليله من خلال جنوده التي استعملها لتشويه الإخوان، بل وساعدته بعض الأقلام التي كانت لا تحب دعوة الإخوان.
فكتب رسالة "قضيتنا" حيث جاء في بدايتها: لقد سمع الرأي العام المصري والعربي والإسلامي قضية الإخوان المسلمين من جانب واحد، هو جانب الحكومة التي اعتدت على هذه الهيئة بإصدار أمر عسكري بحلها وهو الجانب الذى يملك كل وسائل الدعاية من الصحف الخاضعة للرقابة كل الخضوع، ومن الإذاعة التي تديرها وتهيمن عليها الحكومة ومن الخطباء في المساجد الذين هم موظفون حكوميون، ولكن هذا الرأي العام لم يسمع من الطرف الآخر.. لم يسمع من الإخوان المسلمين الذين حُرموا كل وسائل الدفاع عن أنفسهم وشرح قضيتهم للناس فصودرت صحفهم وعطلت أقلامهم وكممت أفواههم واعتقل كل خطيب لهم واعتبر كل اجتماع خمسة منهم في أي مكان جريمة أقل عقوبتها السجن ستة أشهر.
لهذا كان من الواجب أن نتقدم بهذا البيان للرأي العام المصري والعربي والإسلامي والضمير الإنساني العالمي حتى لا يقع الخطأ ويظلم في الحكم ويحكم بسماع خصم واحد وقد قيل: إذا جاءك خصم وعينه مقلوعة فلا تحكم حتى ترى خصمه فقد تكون عيناه الاثنتان مقلوعتين.
وإنا لنرجو بعد هذا أن يناصرنا الرأي العام على من اعتدوا علينا وأن يطالب بكل شدة برفع هذا الظلم الصاروخ عنا، وإطلاق حرية الدعوة الصالحة النافعة: دعوة المبادئ السامية والأخلاق الفاضلة لتقوم بنصيبها في خدمة المجتمع الإنساني المتعطش لهذا الغذاء من الروحانية وسمو الأخلاق" [رسالة قضيتنا: مجموعة رسائل الإمام البنا، صـ832].
سيناريو متكرر
حملت السلطات القائمة على الإخوان في كل عصر، وكررت نفس السيناريوهات والتي وصفها الإمام البنا وكأنها مشهد سينمائي يتكرر دائما حين قال: اعتقل بالأمر العسكري إلى تاريخ هذا البيان (1000) ألف شخص في القاهرة والأقاليم وقد وزعوا على معتقلات وسجون الأقسام وسجون المديريات والمراكز في الريف، وهؤلاء المعتقلون ليسوا متهمين فى شيء وغير موجهة إليهم أية تهمة.
وقد طبقت على هؤلاء المعتقلين قواعد هي الظلم المجسم، لم يرها الناس ولم يعرفوها في أي نظم الاعتقال السياسي، وعوملوا أسوأ المعاملة.
ينامون فى الأقسام على الإسفلت ويعذبون فيها ولا يصل إليهم شيء مما يقدمه لهم أهلوهم أو ذوو قرباهم من طعام أو فراش.
ولقد أُوقف الموظفون منهم عن أعمالهم وحجزت مرتباتهم، وصودرت أموالهم الخاصة في المنازل بالتفتيش وفي المصارف بالحجز وفصل العمال منهم عن أعمالهم وفصلت الطلاب من مدارسهم، وأخذت عرباتهم الخاصة وآلات الراديو من منازل الكثير منهم، وعطلت هواتفهم ووقع عليهم من أنواع الاضطهاد ما لا يعلمه إلا الله.
فمن أين تنفق ألف أسرة مصرية، وقد سدت أمامها الموارد، وأخذت عليها الطرق بهذه الصورة التي ليس لها أي نظير، وإذا علم أن أحد الأقرباء أو الأصدقاء تردد إلى هذه الأسر فعاد مريضها أو عال محتاجها كان نصيبه هو الآخر الاعتقال، ولم يراع في هذا الاعتقال أي معنى من المعاني الإنسانية، فكان يعتقل من البيت الواحد أربعة إخوة وثلاثة أصهار مثلاً أو أخوان وأصهارهما، وهم كل من يستطيع أن يقوم على هذا البيت، فتعطل المصالح، وتغلق المتاجر وتقفر المساكن من السكان، فهل سمع الناس بمثل هذا حتى في معسكرات النازية حين كانت تعتقل اليهود، وهل فعلت الحكومات المصرية عُشر هذا مع معتقلي الصهيونية والحرب على أشدها؟ والله لا!.
ولقد أبعد عن كليات الجامعة والمدارس الثانوية نحو (1000) ألف طالب أو يزيدون ممن عرف أنه كان له صلة بالإخوان المسلمين، وأغلقت في وجوههم معاهد التعليم، واعتقل الكثير منهم وفصل الباقون، وأصبحوا مشردين في الشوارع والطرقات في هذه السن التي تشتعل فيها قوة الشباب البدنية والذهنية وتنمو فيها كل عوامل النشاط والحيوية التي إن لم تعرف الخير فإنها ولا شك تنصرف إلى الشر والضرر والفساد.
وكان من أعجب الأمور أن تصدر الأوامر العسكرية بمصادرة مرتبات وأموال عدد كبير من المواطنين لا لشيء إلا أنهم كانوا في يوم من الأيام أعضاء في الإخوان المسلمين، فيذهب التاجر أو الموظف إلى المصرف لسحب بعض أمواله؛ فيجد هناك الأمر العسكري قد سبقه بمنع البنك من صرف شيء حتى تصدر تعليمات أخرى، مع أن هذه الأموال أمواله الخاصة أو مرتبه الشخصي، فلا هي أموال هيئة أو أموال جمعية أو أموال مؤسسة، ولكنها ماله الخاص، ومع ذلك لم تفرق الأوامر بين عام وخاص!
وقد دأب البوليس منذ صدرت هذه الأوامر على مضايقة كل من يظن أن له أقل اتصالاً بالإخوان بتفتيش منزله فى غسق الظلام وترويع النساء والأطفال عدة مرات أو تفتيش متجره كذلك، ثم فرض رقابة على الهوانف والخطابات والأشخاص والمنازل والتنقلات حتى على السيدات تخنق الأنفاس وتقتل الحريات ويتنافى مع كل أمن وهدوء واطمئنان، وكثيرًا ما يدعى الناس إلى المركز أو الأقسام، وتوجه إليهم أسئلة في بلاغات كيدية أو اتهامات شكلية أو تافهة ولا يراد من ذلك كله إلا الإحراج والإعنات.
الواقع أن ما حدث للإخوان في المحنة الأولى في عهد الإمام البنا يحدث في كل زمان، ومع كل سلطة، على الرغم من أن معارضة الإخوان للأنظمة هي معارضة سلمية، فمع كونهم مدربين وشاركوا في حروب كثيرة مثل حرب فلسطين عام 1948م أو حرب القنال عام 1952م وكبدوا العدو الكثير من الخسائر إلا أنهم لم يحملوا على السلطة او الحكومات الحاكمة السلاح، ولم يفرضوا الأمر الواقع بقوة السلاح، فلماذا تتعمد الأنظمة فعل ذلك معهم؟ وما النتائج التي ترتبت على هذا الصراع الشرس من قبل الأنظمة ضد دعوة الإخوان المسلمين؟ وماذا جنت البلاد من قتل وتعذيب وفصل ونفي أناس كل تهمتهم أنهم يعملون للوطن وفق رؤيتهم؟ إن رسالة قضيتنا لخصت ما جرى للإخوان في المحنة الأولى، وعبرت عما سيجري للإخوان في سنوات تاريخها، فهل كان أفرادها يدركون ذلك؟ ولماذا يقبلون به؟
أسئلة تكمن في التربية الإيمانية التي وافق بها وعاش عليها جميع أفراد الإخوان منذ عهد الإمام البنا حتى يومنا هذا، وما الأحداث التي تجري إلا سلسلة لن تنقطع بين الإخوان والانظمة المستبدة التي تحكم بلغة الفرد الواحد.
إن منطق الصدام يكمن في طبيعة الدين الإسلامي نفسه الذي لم يفرق بين الدين والسياسة، وتعرض الإخوان للسياسة، سواء أكان من حيث المطالبة بحرية البلاد وحقوقها أم وجوب الأخذ بنظم الإسلام الحنيف في أوضاعها الاجتماعية على اختلافها فرض مستمد من الإسلام نفسه ومعتمد عليه، وهو جزء من أجزاء هذا الدين لا انحراف فيه، وهو ما تأباه النظم الحاكمة التي يدعمها الغرب.