كتب المستشار حسن الهضيبي مقالتين كانتا من أروع ما كتب عن الإمام الشهيد حسن البنا، فيهما عاطفة جياشة وروح مُحلَّقة، ومشاعر رقيقة سامية وفهم عميق للدعوة إلى الله وأصولها وقواعدها، تُعبِّر تعبيرًا دقيقًا عمَّا في شخصية الأستاذ الهضيبي من صفاتٍ فذةٍ بنفس القدر التي تُعبِّر فيه عمَّا في شخصية الإمام البنا من عبقرية نادرة.
1- المرشد المُلهَم
"عرفتُه أولَ ما عرفتُه من غرسِ يده، كنتُ أدخلُ المدن والقرى فأجد إعلانات عن (الإخوان المسلمين) دعوة الحق والقوة والحرية، فخِلت أنها إحدى الجمعيات التي تُعنَى بتحفيظ القرآن، والإحسان إلى الفقراء، ودفن الموتى، والحثِّ على العبادات من صومٍ وصلاة، وأن هذه قصارها من معرفة الحق والقوة والحرية.. فلم أحفل بها.
فكثير هم الذين يقرءون القرآن دون أن يفقهوه، ودون أن يعملوا به، وأكثرهم الذين يصلون ويصومون ويحجون دون أن يكون لذلك أثر في نفوسهم، والإحسان إلى الفقراء كثيرًا ما يوضع في غير موضعه.. ولم أحاول- كما هي العادة- أن أعرف شيئًا عن (الإخوان المسلمين).
ثم التقيتُ يومًا بفتيةٍ من الريف أقبلوا عليَّ- على غير عادة الأحداث مع من هم أكبر منهم سنًّا ومركزًا- يحدثونني، فوجدتُ عجبًا؛ فتيةً من الريف، لا يكاد الواحد يتجاوز في معارفه القراءة والكتابة، يحسنون جلوسهم مع مَن هم أكبر منهم في أدبٍ لا تكلُّف فيه، ولا يحسُّون بأن أحدًا أعلى من أحد، ويتكلمون في المسألة المصرية كأحسن ما يتكلم فيها شاب متعلم مثقف، ويتكلمون في المسائل الدينية كلامَ الفاهم المتحرر من رق التقليد، ويبسطون الكلام في ذلك إلى مسائل مما يحسبه الناس من صرف المسائل الدنيوية.
ويعرفون من تاريخ الرسول- وتاريخه هو تاريخ الرسالة- ما لا يعرفه طلاب الجامعات.. فعجبت لشأنهم وسألتهم: أين تعلمتم كل ذلك؟! فأخبروني أنهم من (الإخوان المسلمين)، وأن دعوتهم تشمل كل شيء، وتُعنَى بالتربية والأخلاق والسياسة، والفقر والغِنى، والاقتصاد وإصلاح الأسرة، وغير ذلك من الشئون صغيرها وجليلها.. من ذلك الوقت تتبعت حركة (الإخوان المسلمين)، وصرت أقرأ مطبوعاتهم، وأتصل بهم دون أن أعرف الداعية إلى ذلك، ولكني عرفته من غرسِ يده قبل أن أعرف شخصيته.
كان يوم خرجت أنا وبعض زملائي لمشية العصر على حافة النيل، فوجدنا جمْعًا من الجوَّالة؛ سألناهم عن شأنهم، فعلمنا أن "حسن البنا" سيلقي خطبةً في حفلٍ الليلة، فوافينا الحفل وسمعنا "حسن البنا"..
لقد تعلقت أبصارنا به، ولم نجد لأنفسنا فِكاكًا من ذلك، وخِلْتُ- والله- أن هالةً من نور أو "مغناطيسًا" بوجهه الكريم، فيزيد الانجذاب إليه، خطب ساعةً وأربعين دقيقةً، وكان شعورنا فيها شعورَ الخوف من أن يفرغ من كلامه، وتنقضي هذه المتعة التي أمتعنا بها ذلك الوقت.
كان كلامُه يخرجُ من القلب إلى القلب شأن المتكلم إذا أخلص النية لله.. وما أذكر أني سمعت خطيبًا قبله إلا تمنَّيت على الله أن ينتهي خطابه في أقرب وقتٍ.. كان كالجدول الرقراق الهادئ، ينساب فيه الماء، لا علوَّ ولا انخفاضَ، يخاطب الشعورَ فيلهبه، والقلبَ فيملؤه إيمانًا، والعقلَ فيسكب فيه من المعلومات ألوانًا.
انقضى وقت طويل دون أن ألتقي به، ولما أذن الله بذلك التقينا.. فإذا تواضع جمٌّ، وأدبٌ لا تكلف فيه، وعلمٌ غزيرٌ وذكاءٌ فريدٌ، وعقلٌ واسعٌ مُلِمٌّ بالشئون جليلها وحقيرها، وآمال عِراض.. كل ذلك يحفُّه روحٌ ديني عاقل، لا تعصب فيه ولا استهتار.. ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا﴾ (البقرة: من الآية 143).
إنه كان مُلهمًا، وأقسم أني التقيتُ به وعاشرتُه، فما سمعتُ منه كلمةً فيها مغمز في عِرض أحد، أو دينِ أحد، حتى من أولئك الذين تناولوه بالإيذاء والتجريح في ذمته ودينه، وكان في ذلك ملتزِمًا حدَّ ما أمره الله.
هذا هو "حسن البنا" الذي قتلوه.. لقد قتلوا أخطرَ داعيةٍ ظهر على الأرض منذ قرون، والآن فإن الغرس الذي عرفتُ فيه "حسن البنا" قد نما وترعرع، وصارت دعوته إلى كتاب الله مستقرةً في القلوب، وصار تلاميذه يعلِّمون الناسَ ما علم، ويلهمونهم ما ألهم، وزاد عددهم على البأساء والضراء حتى أصبحوا أقوى جدلاً مما كانوا، وأعرف بشئون الحياة، وأصبر على المظالم، وأعلم بأن أعداء دعوتهم أكثرُ من أنصارهم، فأعدُّوا أنفسهم لكفاحٍ طويلٍ في سبيلها.
ولقد صار (الإخوان المسلمون) اسمًا لا يعبِّر عن منظمة في مصر؛ وإنما يعتبر عنوانًا لنهضة الإسلام وبعثه وحيويته في جميع البلاد الإسلامية من المحيط إلى المحيط.. فاسم (الإخوان) في إندونيسيا والباكستان، وكل البلاد العربية، وصارت دعوتهم رعبًا للمستعمرين وأنصارِ المستعمرين، والمنافقين والظالمين؛ لأن الباطل يفزع من الحق أينما كان، وحيثما وُجِد".
2- حسن البنا.. الداعية المربي
"كنا في القطار بأقصى الصعيد فأشار أحد رفقائي إلى الجبل فرأيت ناسًا يصعدون أو ينزلون كأنهم من فرط ارتفاعه في أحجام النمل- وقال: هنا صعد حسن البنا وصعدنا معه ولقينا من المشقة حتى وصلنا إلى قوم كأنهم من طول ما احتبسوا في هذا المكان فيهم من الإنس جفوة- وجعل الأستاذ الإمام طيب الله ثراه ورضي عنه وأرضاه في الجنة- يؤنس من وحشتهم ويرقق من طباعهم ويدعوهم إلى كلمة الله وكتاب الله وسنة رسول الله.
وتحت شجرة قليلة الرواء كأنها أسنت قبل الأوان من كثرة ما ظمئت قال آخر: هنا نزلنا من الأوتوبيس نقصد إحدى القرى ونظرت فإذا لحية الأستاذ الإمام قد صارت بيضاء مما علاها من التراب وملابسه قد اختفى لونها لما غشيها لا أقول من وعثاء السفر- فالوعثاء شيء قليل-، وفتحنا الشنطة وأخرجنا منها الفرشاة وجعلنا نزيل الغبرة التي لحقتنا ونصلح من هندامنا ثم مضينا إلى القرية ندعو أهلها إلى كلمة الله وكتاب الله وسنة رسول الله.
ثم وصلنا إلى إحدى المحطات ولعلها "إدفو" فقال آخر: إن الأستاذ الإمام بات على كرسي أمام هذه الخمارة، وذلك أن أحد الأشخاص دعاه لافتتاح شعبة فكتب إليه بأنه حاضر في قطار كذا وكأن الخطاب لم يصله، ولم يجد في المكان من الأيقاظ إلا صاحب الحانة يهم بإغلاقها فرَّق له وأعطاه كرسيًّا يبيتُ عليه حتى الصباح وأغلق حانته وانصرف، وفي الصباح ذهب الأستاذ إلى القرية يدعو أهلها إلى كلمةِ الله وكتاب الله وسنة رسول الله.
وانتقلنا إلى الوجه البحري وجبنا قرى إحدى المديريات في أسبوع فما وجدنا قرية إلا وصل إليها الأستاذ على غيرِ ما وصلنا، فقد وصلنا في سيارات تنقلنا من مكان إلى مكان نختصر الوقت ونقرب المسافات، ومهما لقينا في ذلك من مشقة فإنها لا تُقاس بالمشقة التي لقيها الأستاذ الإمام حيث كان يصل إلى هذه القرى سيرًا على الأقدام أو يركب الدواب، قرى سحيقة بعيدة عن العمران نسيها الناس ونسيتها الحكومات حتى طاف بها طائف من رحمة الله ونوره فدعاها الداعية إلى كلمةِ الله وكتاب الله وسنة رسول الله.
هكذا فعل حسن البنا بث دعوته ونشر راية القرآن وربَّى جيلاً على الإيمانِ والفضيلة والطهر والعفاف والعزة والصدق والأمانة- ربَّى الجيل فردًا فردًا وجعل كل فردٍ مدرسة لمَن يأتي بعده، وأحيا نفوسًا كاد الجهل يقتلها وأوجد أبطالاً في الحربِ يفدون دينهم وأوطانهم بأرواحهم- بايعوا الله على ذلك فمنهم مَن قضى نحبه ومنهم مَن ينتظر وما بدلوا تبديلاً.
وهكذا الدعوات تنشأ في قلب فرد ثم في اثنين ثم في ثلاثة إلى أن يعمَّ نورها القلوبَ فيستضيء الناس به ويقبلون عليه ويأخذ كلٌّ نصيبه منه وهكذا، ولا يمكن أن تبدأ الدعوات بحشد الناس في اجتماعات، ولا بأن يقول لهم الناس كونوا على فكرة فيكونون.
كانت الدعوة إلى كتاب الله وسنة رسول الله قد ملكت عليه نفسَه وعقلَه فضحَّى لها وعانى في سبيلها ما ذكرت نموذجًا منه في رحلاته، لم يكن كالزعماء الذين يجلسون في بيوتهم أو على مكاتبهم وينادون بالأفكار والآراء ويحسبون أنها استهوت نفوسهم وأنَّ الدنيا قد دانت لهم بما تجمَّع حولهم من جموعٍ لا يُحصى عددهم حتى إذا ألمَّت بهم ملمةٌ لم يجدوا أحدًا لأنهم في الحقِّ لم يجتمعوا على حقٍّ وإنما جمعتهم الشهوات والمنافع وجمعهم الهوى ﴿أَفَرَأَيْتَ مَنْ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ﴾ (الجاثية: من الآية 23).
ولم يكن كالزعماء لا يذهبون إلا إلى العواصم في القطاراتِ الفاخرة؛ حيث يلقون من أنواع التكريم ما يُزجيه لهم المنافقون، لكنه كان يبحث عن القلوب المؤمنة المخلصة الثابتة على إيمانها الوفية في إخلاصها، ويعلم أن العبرة ليست بكثرةِ العدد وإنما العبرة بعددِ المؤمنين الذين تندك الجبال وتزول ولا يزولون عن عقيدتهم ولا ينزلون عن حكمِ ربهم.
كان يحترق في الدعوةِ ويؤتيها من وقته ونفسه وما يكسبه من مالٍ ما جعله مثلاً في التضحية والبذل- التضحية بالنفسِ والتضحيةِ بالمال- كل ذلك حبًّا في الله وابتغاء مرضات الله- لم يسترح ساعةً ولم يقتن ثروةً ولا كان له غرض من أغراض الدنيا إلى أن لقي ربه راضيًا مرضيًّا، وذلك جزاء المتقين".