كان رد الفعل المصري الأول على وباء "كورونا" القاتل هو إرسال وزيرة الصحة بحكومة الانقلاب هالة زايد إلى الصين لإظهار التضامن، وفي ذلك الوقت (1 مارس) كانت الحالة الوحيدة التي تم الإعلان عنها في مصر لمواطن صيني (أو مواطنة) تم الكشف عن إصابته لدى وصوله إلى مطار القاهرة.

خرج المريض من المستشفى في أواخر فبراير وفي العام الصيني الجديد، أضاء العلم الصيني الأهرامات الكبرى وأبو الهول في الجيزة. لكن الأزمة كانت ما تزال تختمر حينذاك.

إخفاء الأرقام الحقيقية

أظهر ما لا يقل عن 97 أجنبيًا زاروا مصر منذ منتصف فبراير أعراض الفيروس أو ثبتت إصابتهم بالفيروس، ما جعل أخصائيي الأمراض المعدية من جامعة" تورنتو"، في "أونتاريو" التي يوجد بها مهاجرون مصريون كثر، يشككون في وجود تفاوت ضخم بين المعدلات الرسمية المعلنة ومعدلات الإصابة المحتملة.

استخدم الباحثون مزيجًا من تقديرات بيانات الرحلات الجوية وبيانات المسافرين ومعدلات الإصابات، وقدروا حجم تفشي المرض في مصر بأكثر من 19 ألف حالة.

ألغت سلطات الانقلاب تصريح الصحافة الخاص بمراسلة "الجارديان" التي كتبت عن التقرير الكندي، وطلبت خدمة المعلومات الخاصة بالدولة المصرية من "الجارديان" نشر اعتذار.

وفي غضون ذلك، استقبلت وزارة الصحة بحكومة الانقلاب 166 حالة فقط و 4 وفيات.

لكن ما حدث للمواطنين المصريين الذين كشفوا عن الانتشار الحقيقي للفيروس، كان أسوأ. فقد اعتقلت قوات الأمن يوم السبت الماضي شخصين متهمين بنشر شائعات عن الفيروس، ليصل العدد الإجمالي للاعتقالات بهذه التهمة إلى 7.

قبل يوم من ذلك، أعلنت وزارة الداخلية بحكومة الانقلاب عن اعتقال شخصين آخرين زعمت أنهما عضوان في جماعة الإخوان المسلمين واتهمتهما بـ"نشر شائعات كاذبة ومفبركة تدعي أن الوباء انتشر على نطاق واسع في مصر، وأن الدولة غير قادرة على مواجهته وتسخر من الإجراءات التي تتخذها الدولة لمكافحة الفيروس بهدف تصعيد الرأي العام".

عومل المصابون بالفيروس بالطريقة نفسها في البداية، إذ يمكنهم أن يعانوا في صمت، طالما أنهم لم يزعموا أنهم مصابون بالفيروس.

أحد المصابين الذين ذهبوا إلى المستشفى في مدينة في دلتا النيل لفت انتباه الأمن المحلي على الفور، وهددوا بأنه إذا أعلن أنه مصاب بالفيروس، فسيتم معاقبته ومعاقبة عائلته.

لكن الفيروس ينتشر في مصر سواء أنكرت السلطات ذلك أم لا.

الإنكار والخوف

أدى التفشي على السفينة السياحية "أ سارا" -حيث كان 44 من أفراد الطاقم والركاب إيجابيين- إلى مشاهد فوضوية في الأقصر.

نزلت الفرق الطبية من القاهرة وقنا إلى المطاعم والفنادق والرحلات البحرية في المنطقة لإجراء اختبارات عشوائية بين العمال والضيوف.

سبب الخوف والإنكار والتظاهر ببذل الجهود واضح؛ وهو صناعة السياحة في مصر، التي بلغت إيراداتها 12.57 مليار دولار العام الماضي، وقد تعطلت بعد الانتفاضة الشعبية في 25 يناير في عام 2011 ومرة ​​أخرى في عام 2015 عندما تم إسقاط طائرة ركاب روسية.

يخشى الجميع بدئًا من العمال المحليين تكرار الأمر، وهو بالطبع ما حدث الآن.

الحقيقة هي أنه قبل حدوث الفيروس بوقت طويل، كانت الخدمة الصحية في مصر متدهورة، وكذلك الخدمات العامة الأخرى.

السجون حضانات المرض

يمكن قول الشيء نفسه عن نظام السجون المصري، الذي كان من المقصود أن يكون مكتظًا ومليئًا بالأمراض وفخًا للموت، حيث تم استخدام الظروف الرهيبة في الداخل كوسيلة لترويع المعارضة السياسية للحكام العسكريين في مصر.

قال تقرير صادر عن المجلس القومي لحقوق الإنسان في مايو 2015 إن مراكز الشرطة تحتجز فوق سعتها الفعلية بنسبة 300%، وأن هناك زيادة عن سعة السجون بنسبة 160%.

هناك ما بين 40 ألف و60 ألف سجين سياسي في مصر الآن، وهناك أدلة كثيرة على أن السجناء الذين يعانون من مشاكل صحية كامنة يُتركون ليموتوا، أو يعانون من نقص في العلاج أو يحرمون من الأدوية التي يحتاجونها، ويرجع ذلك إلى رغبة عبدالفتاح السيسي في ذلك إلى حد كبير.

يعد نظام السجون المصري حضّانة عملاقة لفيروس "كورونا"، وكما كتب "عمرو مجدي"، باحث "هيومن رايتس ووتش" المختص بمصر: "إذا كانت هناك نصيحة واحدة يقدمها السجين في مصر لسجين آخر جديد، فمن المحتمل أن تكون: لا تمرض".

تهدد الرعاية الطبية غير الكافية آلاف السجناء المرضى، وتظهر تقارير سابقة لـ "هيومن رايتس ووتش" أن مسؤولي السجن تركوا العديد من السجناء يموتون في السنوات الأخيرة، على الرغم من أن أمراضهم يمكن السيطرة عليها، مثل مرض السكري أو أمراض القلب.

نهاية كارثية للتجاهل

بعد أشهر من الإنكار، أغلق السيسي المدارس والجامعات لمدة أسبوعين وأعلن أنه سينفق 100 مليار جنيه مصري (6.4 مليارات دولار) لتمويل استراتيجية مكافحة فيروسات "كورونا".

الحقيقة بالطبع هو أن معظم هذه الأموال ستذهب إلى الجيش، كما هو الحال دائمًا، لا يوجد إنفاق للأموال العامة دون أن يكون للجيش حصة الأسد فيها، الشعب يخدم الجيش، وليس العكس.

هناك أشياء لم تتغير، حيث لا يزال الاحتجاج أمرًا يُعاقب عليه بالاعتقال والسجن. كانت الروائية المصرية البريطانية "أهداف سويف" واحدة من بين 4 اعتُقلوا بسبب احتجاجهم على وضع السجناء في ظل فيروس "كورونا" يوم الأربعاء.

ضع كل شيء معًا وسوف يتبين لك أن هناك كارثة تتكشف بصمت في البلد الأكثر سكانًا في العالم العربي والشرق الأوسط.

تجاهلت أوروبا والولايات المتحدة الأوضاع منذ انقلاب "السيسي" على السلطة، ومن المعروف أن "جون كيري"، وزير خارجية "باراك أوباما"، صاح بمساعديه عندما حثوه على مطالبة الصليب الأحمر الدولي بالوصول إلى السجون المصرية، قائلًا: "أعطني سياسة لن يصرخ السيسي بسببها عليّ"، مع أنه وزير دولة تعد أكبر دولة مانحة لمصر.

ينكمش "السيسي" تحت الضغط الدولي، لكن المشكلة الحقيقية هي أنه لا يوجد أي ضغط عليه.

دعا ائتلاف من جماعات حقوقية وناشطين وسياسيين وأعضاء من المجتمع المدني الأمم المتحدة إلى مطالبة مصر بالإفراج عن سجنائها السياسيين وسط جائحة فيروس "كورونا" العالمية.

لكن الخشية أن يأتي الطلب الجاد بإطلاق سراح السجناء والسماح للصليب الأحمر بالوصول دون قيود إلى جميع السجون المصرية، بعد أن يكون الأوان قد فات، بل ربما فات الأوان بالفعل.

يجب على المجتمع الدولي أن ينظر حقًا فيما سيحدث في مصر بعد انتشار الفيروس.

سوف يدمر الاقتصاد، وستتحطم السياحة، التي انخفضت بالفعل إلى 10% فقط من سعتها، وسيضعف الاقتصاد العالمي ويهدد المصدر الرئيسي الآخر لمصر للعملة الصعبة؛ قناة السويس. كما سيضعف اقتصاد الخليج، مع العلم أن مصر لديها مليونا عامل في السعودية وحدها.

ربما عندها فقط ستندم أوروبا والولايات المتحدة على اليوم الذي أعطت فيه للحاكم العسكري الأكثر تدميراً في مصر مطلق الحرية لفعل ما يشاء.

---------

المصدر | ديفيد هيرست - ميدل ايست آي