قدم الإمام حسن البنا المرشد العام الأول ومؤسس جماعة الإخوان المسلمين نموذجًا عمليًّا فريدًا في الوحدة الوطنية والتعارف الإنساني والتواصل المجتمعي المنشود من خلال مواقفه العملية الخالدة والتي شهد له بها القاضي والداني والعدو والصديق.

ونعرض اليوم طائفة من خطابات الإمام وسائله التي كان يحث فيها بل ويطبق بنفسه من خلال الجماعة هذا المثال الرائد في انسجامها مع اللحمة الوطنية والتعاون المجتمعي في كل ما فيه صلاح البلاد والعباد وإحياء روح القيم والمبادئ.

وهذه نماذج من خطابات الإمام في توحيد الصف الوطني:
----------

الفكرة القومية.. الخلاف في مجلس النواب والشيوخ

كل يوم يقوم دليل جديد على فساد الحزبية في مصر، وعلى سوء أثرها البالغ في كل مرافق الحياة المصرية.

إننا أمة ناشئة, كل شيء فيها يحتاج إلى تجديد بعد هذا التحطيم الذي تناول كل شيء في عصر السيطرة الأجنبية، والاحتلال الإنجليزي البغيض.

نحن في حاجة إلى تجديد أخلاقنا وأرواحنا وإلى وضع سياسة ثابتة لتعليمنا ناشئة أبنائنا, وإلى تقوية دفاعنا الوطني، وتكوين الجيش بكافة أسلحته، وما يتبع ذلك من معامل ومصانع ومرافق، وإلى استكمال نواحي النقص في حياتنا الاقتصادية؛ فإن الشعب فقير والموارد محدودة والمطالب كثيرة وما خفي منها أعظم مما عرف.

كل شيء في مصر الناهضة المتوثبة يحتاج إلى عمل واثب وإلى مجهود كبير وإلى تعاون من كل القوى والمواهب، لقد برهن هذا الشعب المصري في كل تاريخه على أنه أوفر الشعوب حيوية، وأشدها قابلية للتجديد والإصلاح لو وجد القيادة التي تدفعه إلى الغاية من غير تعويق.

ولا يحول بيننا وبين القوة في كل شيء حائل من حداثة عهد النهضة ولا من قلة الكفايات، ونضوب موارد المال، فقد تقوى هذا الشعب في القديم، ووصل إلى حدود القوة بأقل من الوسائل التي بين يديه الآن.

إن العناصر السليمة في مصر أوفر منها في أي شعب آخر يريد النهوض، لكن الحائل دون النهضة والمانع من تقدم الأمة، والمعول الذي يهدم كل خير فيها، ويحطم كل عنصر سليم، شيء واحد فقط هو الحزبية البغيضة هو التفرق الشنيع، هو هذه الخصومة الحادة التي لا تبقى على شيء، هو الأنانية وحب المصلحة الخاصة الذي استولى على قادة مصر فأنساهم الأمة, وأنساهم الظروف التي تحيط بها وبهم وأنساهم التفاهم في سبيل استغلال عناصر الخير فيها.

وتوجيهها إلى العمل الصحيح، إن الفرصة مواتية لمصر في كل ناحية فى الداخل وفى الخارج، في الداخل شعور ملتهب وشباب متوثب واستعداد بديع للعمل واتجاه طيب للغاية وبخاصة بين المثقفين من الشباب المضحي، وفي الخارج ارتباك قام بين الخصوم ورعب مقذوف في قلوبهم يوسع الخناق على الفريسة؛ لتفلت من يد الصياد ولتحتمى منه بما تشاء من أنواع الحماية، ولكن هذا الموقف البديع للغاية الذي أتاحه لنا القدر الموالي قد غفل عنه قادتنا كل الغفلة، وأهملوه كل الإهمال، وكيف تتخلص الفريسة وقد زاحت عنها يد الصياد؟ وهي قد حاكت لنفسها قبورا من الذلة المستكنة في نفسها والوهم الضارب على فؤادها والشهوات المخيمة على تفكيرها والغفلة المستحكمة على بصائرها وأبصارها.

يا زعماء مصر وقادتها وحكامها وأولي الرأي فيها، ما أعظم تبعتكم بين يدي الله وبين يدى الأجيال القادمة إن ظلت الحالة على ما هي عليه الآن فأضعتم بتفرقكم واشتغالكم بخصوماتكم هذه الفرص المواتية على هذا الشعب الذي ائتمنكم على مقدراته فلم تحفظوا فيه حق أمانته.

يا زعماء مصر وقادتها وحكامها وأولي الرأي فيها، لا تزال هناك بقية من أمل وموضع من رجاء إن أردتم الإصلاح فطهروا أنفسكم من هذه لأدران، واطرحوا هذا الكبرياء الكاذب الذى يزينه لكم شيطان النفوس الجامحة، وفكروا في مصر، واعملوا لمصر، وتعاونوا في سبيل مصر، فإن تعلمتم ذلك فهو حظكم في الدنيا وناجتكم فى الآخرة وإن لم تفعلوا - ولا أقول الثانية - فسيحيق بكم سوء تفريطكم، وسنحاسبكم أشد الحساب على إهمالكم، وسيدمغ تاريخكم بأشنع تهمة لوث بها تاريخ إنسان، وسنسير فى طريقنا وسنحاول أن نعمل لهذا الشعب ونسلك به مسالك الجهاد الصحيح في سبيل استكمال حريته، واستعادة مجده والانتفاع التام بنهضته رضيتم بذلك أو وقفتم في سبيله، ولن يدفع أمر الله دافع ولكنا نريد أن تكونوا معنا فنختصر الطريق.. فهل أنتم فاعلون؟

نادى الإخوان المسلمون في وضوح وفي صراحة وفي جلاء بوجوب إلغاء الأحزاب السياسية الحالية جميعا فقد تكونت في ظل حوادث قد انتهى أمرها، وصارت الآن هيئات أثرية لا هي جددت نفسها كما يقتضيه العصر ويتطلبه الوضع الجديد للبلاد، ولا هي سلمت الأمر لغيرها؛ ليقوم بحق هذا البلد وقيادته إلى الرقى والكمال، فكانت هذه الأحزاب علة هذا الشعب، وأكبر عائق له على النهوض.

دعونا الزعماء إلى هذا وكتبنا لرئيس الحكومة؛ لعله ينهج ذلك النهج ويبدأ بحل حزبه فيكون سنة حسنة له أجرها وأجر من عمل بها، وطرق الإخوان كل باب إلى هذه السبيل، ولكن النفوس التي عاشت في ظل الخصومة وتاجرت بها ولم تحسن بضاعة سواها عجزت عن الخير حين قدرت على الشر، وقعدت عن العمل حين أجادت المهاترة والكلام، وانحل أحد هذه الأحزاب، وانضم إلى شبيه له، ولكن ماذا عسى أن يفيد هذا في الموقف؟

نحن نريد أن تسير الأمة كتلة واحدة إلى الأمام، إلى العمل الذي لا يحتمل التأخير ولا الإبطاء.

هل هناك فارق يفصل حدود الأحزاب القائمة بعضها عن بعض؟! رأيت تقسيم النواب في المجلس إلى (وفدي وسعدي ودستوري ووطني) فسألت نفسي: ما الفرق بين هؤلاء جميعا؟ إن كلا منهم يقول إن حزبه يعمل لخير مصر ونهوض مصر وتقدمها، ولو سألت أحد حضرات النواب عن الفارق الذي يفرق بين حزبه وحزب غيره، لما أوضح لك فرقا جوهريا في مبادئ ولا عقائد ولا أعمال, إذ إن ذلك غير موجود فعلا، وكل الذى يستطيع أن يقوله أي رجل حزبي في هذا البلد: إن رئيس الحزب فلان ورئيس ذلك الحزب فلان وإن هذا يؤيد الحكومة وهذا معارض الحكومة ولا بد من تأييد ولا بد من معارضة؛ حتى يقوم النظام البرلماني.

فسنقول لحضرته: هل إذا أخطأت الحكومة خطأ صارخا يؤيدها فيه نوابها, وهل إذا أصابت الحكومة صوابا واضحا ينقدها معارضوها؟ فإن قال: نعم قلنا: لعنة الله على الحزبية التي تبطل الحق، وتحق الباطل، وتحكم على الأعمال بأهواء الرجال وإن قال: لا، قلنا: فما قيمة الحزبية إذا ما دام التأييد والمعارضة على الإحسان والإساءة؟ يا قوم، تحرروا من هذه الأوهام الشكلية، وتخلصوا من عبث الأطفال وسلطانها الوهمي، وواجهوا الحقائق في جرأة وفي شجاعة، وحطموا كل مظهر فارغ يقف في سبيل النهوض الصحيح.

إن كان هذا النظام الحزبي عائقا عن النهوض والعمل ومؤخرا للإنتاج الذي نحن في أشد الحاجة إليه، ومفرقا لكلمة أمة مجتمعة لا قوة لها أمام عدوها الجاثم على صدرها إلا وحدتها واجتماعها، وهو في الوقت نفسه لا لزوم له أبدا فإن أصول العمل والنهضة متفق عليها من الجميع.

إن كان ذلك كذلك فلماذا لا تحطمون الحزبية؟ وإذا كان النظام البرلماني لا يقوم إلا على أساس الحزبية وشأنها ما عرفنا من بلاء ومصائب، فلماذا لا نستبدل بهذا النظام البرلماني نظاما نيابيا آخر نجتمع عليه كلمة أولي الرأي؟ يا قوم: إن الزمن لا ينتظركم والواجب لا يعذركم أو اتركوا المجال للعاملين.

قامت في الأيام الأخيرة دعوة إلى الفكرة القومية، وهي دعوة كريمة ما في ذلك شك، وخطوة إلى الإصلاح وإلى الوحدة المنشودة ما في ذلك شك أيضا، ولكن هل تنجح هذه الدعوة؟ وعلى فرض نجاحها فهل تبقى طويلا؟

أما إن بقيت هذا الأحزاب وحدات قائمة فلن تنجح هذه الدعوة، ولن يضمن بقاؤها إن نجحت نجاحا وقتيا، فإن اعتزاز كل حزب بأنصاره، ورغبته في سوق غيره في تياره، ستحول دون التعاون المنشود أو دون استمراره على الأقل.

فخير لهؤلاء الدعاة الفضلاء ومنهم من غير شك المخلصون الذين لا يريدون من وراء هذه الدعوة إلا الخير للبلد، خير لهم أن يضموا صوتهم إلى صوت الإخوان في المناداة بحل هذه الأحزاب القائمة جميعا، والتفكير في نظام نيابي يقوم على أساس الوحدة لا الفرقة والاجتماع لا التحزب ومتى توحدت الجهود في هذه السبيل فسنصل إن شاء الله.

اجتمع مجلس الشيوخ والنواب وبدأت الجلسات بكلمات طيبة للغاية، وهي في حلاوتها وعذوبتها كأنغام الدعوة إلى القومية والجبهة الوطنية، ولكن سرعان ما تكشفت الرغوة عن اللبن الصريح وغلب الطبع التطبع فثارت الزوبعة الحزبية بأقصى حدتها، وانتهى ذلك بانسحاب المعارضين في كلا المجلسين ولا ندري كيف يكون التعاون بين حضرات أعضاء المجلسين إذا كان هذا هو مظهر من مظاهره في أول اجتماع؟

وهذا المظهر سيتجدد قطعا فى كل مناسبة ما بقيت هذه الأحزاب وحدات مستقلة، فلابد إذن من علاج واحد محتوم هو حلها، وتوحيد الأمة من بعدها، ونعتقد أن ذلك ما سيكون - إن شاء الله - إن لم يكن برضا الزعماء وتفكيرهم فسيكون بمعرفة الأمة لواجبها، وانقضاضها عمن لم يحسنوا قيادتها، ولم يعملوا لخيرها.
---------
المصدر: جريدة النذير (27)، السنة الأولى، 13 شوال 1357 / 6 ديسمبر 1938