من تراث فضيلة الشخ/ محمد عبدالله الخطيب

".. ألا إن غزوة بدر لتمضي مثلاً في التاريخ البشري. تكشف عن الأسباب الحقيقية للنصر والهزيمة، وهي كتاب مفتوح تقرؤه الأجيال في كل زمان ومكان، لا تتبدل دلالتها، ولا تتغير طبيعتها، فهي آية من آيات الله وسنة من سننه الجارية في خلقه ما دامت السموات والأرض".

حين صدمت أمتنا بالهزيمة في الخامس من يونيو 1967 وما حدث فيه من نصر لليهود لم يسبق له مثل في التاريخ- كما وصفته بعض الصحف آنذاك- كان لا بد للأمة التي- روعتها الهزيمة أن تبحث عن تفسير لهذا الذي حدث وفاق كل تصور، وهنا برزت أبواق الدعاية تضلل وتقدم التفاسير المزيفة لهذه المهزلة، فسمعنا أن السبب فيما حدث: هو التقدم التكنولوجي للعدو وأن إسرائيل دولة عصرية، ولكي ننتصر عليها فلا بد لنا من التفوق في نواحي العلوم الحديثة وأن نتحول إلى مجتمع عصري.

والحقيقة أن هذه خدعة أخرى لا تنطلي حتى على البسطاء من الناس، والمراد منها صرف الأمة عن السبب الحقيقي ألا وهو "العقيدة الإسلامية" التي هي سر التفوق للمسلمين على مدار التاريخ وما أغرب أن نتنكر لتاريخنا فلا نأخذ منه العبرة والدرس.

ولا نظن أن مسلمًا ينكر أهمية التقدم العلمي أو المخترعات الحديثة ليس في المسلمين اليوم من يفضل الجمل على الطائرة أو العصا على المدفع، ولكن كل تقدم علمي وكل سلاح من أحدث طراز هو في نظر المسلم عملة زائفة تصحح وتعمل عملها بالإيمان، ثم ما الذي حال بين أمتنا وبين التقدم والعصرية؟ وهل أدركنا منها إلا الحديث المعاد عن حقوق المرأة ومنع الطلاق وحرب تعدد الزوجات، وإنشاء الفرق الشعبية، والاختلاط، وكان هذه القضايا هي التي تقرر المصير لمستقبل الأمة.

ونقول لهولاء:

هل كان المسلمون متفوقين تكنولوجيا حين انطلقوا من قاعدة الإسلام بالمدينة لرد البغي والعدوان، واستطاعوا في عشر سنوات أن يخوضوا سبعًا وعشرين غزوة، وسبعًا وأربعين سريةً لم يغلبوا فيها مرة واحدة مع قلة العدد والعدد؟!

وهل كان أسلافنا متفوقين علميًّا حين خرجوا من الجزيرة العربية وحرروا الشعوب من ذل الرومان وغطرسة الفرس؟

فلماذا انتصر هؤلاء وهزم غيرهم، حتى أمام جيش أذلاء الأرض وحثالة العالم من اليهود؟.

لقد انتصروا بالتفوق الروحي وبالإيمان العميق بالله وبالرسالة والعقيدة، لأن نقطة البدء في كل أمة إنما هي العقيدة التي توجه سلوكها وترسم طريقها وتحدد غايتها على ظهر الأرض.

وغزوة بدر الكبرى التي نحن بصدد الحديث عنها أصدق شاهد على ما نقول لقد وصفهم الحق سبحانه بقوله ﴿وَلَقَدْ نَصَرَكُمْ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (123)﴾ (آل عمران)، ووصفهم قائدهم- صلى الله عليه وسلم- بقوله حين دعا لهم: "اللهم إنهم جياع فأشبعهم، اللهم إنهم حفاة فأحملهم، اللهم إنهم عراة فأكسهم، اللهم إنهم عالة فأغنهم من فضلك".

ولم يكن معهم من الخيل غير فرسين ولا من الإبل سوى سبعين بعيرًا. كل اثنين وكل ثلاثة وكل أربعة يتبادلون الركوب على بعير وكان- صلى الله عليه وسلم- يشاركهم كواحد منهم، قال له رفيقاه: اركب يا رسول الله حتى نمشى عنك فقال لهما: "ما أنتما بأقوى مني على المشي، وما أنا بأغنى عن الأجر منكما".
 
الحذر ومواجهة الموقف

لقد خرج- صلى الله عليه وسلم- من المدينة للعير لا للنفير، ولكنه حين علم بفوات القافلة وأن جيش قريش في الطريق إلى بدر واجه الموقف بحزم وحذر "ووضع جميع المسلمين في تشكيل حربي. فجعل على الساقة "قيس ابن أبى صعصعة" وعلى المقدمة "الزبير ابن العوام" وأظهر السلاح وعقد ألوية ثلاثة: لواء أبيض يحمله- مصعب ابن عمير- ورايتان سوداوان، إحداهما مع علي بن أبي طالب، والأخرى مع رجل من الأنصار، وقدم طلائع الاستكشاف لمعرفة أخبار العدو، كل ذلك لمواجهة الموقف المباغت الذي طرأ، وهو أمر خطير جعل الرسول- صلى الله عليه وسلم- يتخذ كافة الأسباب، ثم استشار قادة الجيش فرأى روحًا معنويةً عاليةً عند الجميع وكان من بين المتحدثين "سعد بن معاذ" الذي قال: "فامض يا رسول الله لما أردت فوالذي بعثك بالحق لو استعرضت بنا هذا البحر فخضته لخضناه معك، ما تخلف منا رجل واحد، إنا لصبر في الحرب صدق في اللقاء، ولعل الله يريك منا ما تقر به عينك، فسر بنا على بركة الله"، وهنا سر النبي- صلى الله عليه وسلم- "وقال سيروا وابشروا فإن الله قد وعدني إحدى الطائفتين، والله لكأني أنظر إلى مصارع القوم".

وعند بدر جمع الله الفريقين: المسلمون بالعدوة الدنيا القريبة من المدينة والمشركون بالعدوة القصوى مما يلي مكة، لقد جمع الله الفريقين على غير موعد وله الحكمة العليا فيما يدبر وما يريد، قلة عدد المؤمنين وضعف عدتهم، وكثرة المشركين وقوة استعدادهم. ليكون هذا اللقاء العجيب- فرقانًا بين الحق والباطل، وميزانًا يزن الناس به أسباب النصر والهزيمة.

وفرق كبير بين ما يريده الناس لأنفسهم وما يريده الله لهم لقد كانت تمضي غزوة بدر، لو كانت لهم- غير ذات الشوكة- قصة تجارة غنمها المسلمون. قصة قوم أغاروا على قافلة واستولوا عليها ﴿وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ﴾ (الأنفال: من الآية 7) وهذا ما أراده المسلمون، أما ما أراده الله سبحانه أن تكون غزوة بدر، قصة عقيدة ونصر حاسم، قصة انتصار الحق على أعدائه المدججين بالسلاح المزودين بكل زاد، قصة انتصار القلوب حين تتصل بالله وحين تتخلص من ضعفها الذاتي، وتنتصر على نفسها وتقلب بيقينها ميزان الظاهر فإذا الحق راجح غالب ﴿.... وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ (7) لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ (8) ﴾ (الأنفال).

اللجوء إلى الله

إن معركة بدر كغيرها من معارك الإسلام كلها تدار بأمر الله وتسير بمشيئته وتدبيره وقدره، وقد اتخذ الرسول-صلى الله عليه وسلم- كل الأسباب التي تؤدي إلى النصر ثم لجأ إلى الله عز وجل يدعوه ويلح في الدعاء- عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال "لما كان يوم بدر نظر النبي إلى أصحابه وهم ثلاثمائة ونيف، ونظر إلى المشركين، فإذا هم ألف وزيادة".

فاستقبل القبلة وعليه رداؤه وإزاره ثم قال: "اللهم أنجز لي ما وعدتني، اللهم إن تهلك هذه العصابة من أهل الإسلام فلن تعبد في الأرض أبدًا"، قال: فما زال يستغيث ربه ويدعوه حتى سقط رداؤه عن منكبيه، فأتاه أبو بكر- رضي الله عنه- فأخذ رداءه فردّه، ثم التزمه من ورائه ثم قال: يا نبي الله، كفاك مناشدتك ربك فإن الله سينجز لك ما وعدك، فأنزل الله عز وجل ﴿إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنْ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ (9)﴾ (الأنفال)، وكل ذلك من المدد لم يكن إلا بشرى، أما النصر فلم يكن إلا من عند الله ﴿وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلاَّ بُشْرَى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (10)﴾ (الأنفال)، إن المؤمن قدر من أقدار الله في الأرض ينفذ الله به مشيئته.

وهكذا كان أهل بدر، وحين التحم المسلمون بالمشركين نزل- صلى الله عليه وسلم- من العريش يقود صفوف المسلمين بنفسه فكان أشد الناس بأسًا وأقرب الناس إلى العدو، وأخذ كفًّا من الحصباء وألقى الله الرعب في قلوبهم، وتصدعت الوجوه ثم قال: "شدوا عليهم سيهزم الجمع ويولون الدبر" وبعد جولات نظر المسلمون حولهم- وقد انهزم المشركون وألقى الله الرعب في قلوبهم، وتصدعت جموعهم- أمام مطارق المؤمنين الزاهدين في الحياة رهبان الليل فرسان النهار.

هذا هو الإسلام في عالم التربية والجندية والقيادة، كما أثبتته حوادث هذه الغزوة، فإلى متى نستورد المبادئ الضالة وعندنا هذا الرصيد الرباني؟

إن الله عز وجل قد أهلك الباغي المعتدي لقد جاء أبو جهل إلى بدر ومعه المغنيات الراقصات، والدفوف، والخمور، لقد خرج من مكة بطرًا وأشرًا ورياءً وكل ذلك للصد عن سبيل الله، ومتى ثبتت الراقصات في معركة أو انتصرت المغنيات في حرب أو ثبت السكارى في ميدان؟ ومتى انتصرت الدعاوى والأقوال على الحقائق والأعمال؟!

إن المسلمين بهذه العقيدة كل شيء، وبغيرها لا شيء، ونقول للذين تسمموا بالغزو الفكري ممن يظنون أنه مما يتنافي مع التقدم أن يتمسك المرء بدينه، نقول لهم: إن العالم من حولنا يتجمع على أساس ديني، فلماذا يحرم المسلمون من هذا الحق؟

أحرام على بلابله الدوح   حلال للطير من كل جنس

يقول أحد مؤسسي الصهيونية:

"الحياة الدينية اليهودية هي دون سواها سر خلود إسرائيل وسيظل إسرائيل خالدًا ما بقى متعلقًا بالتوراة فإذا هجر إسرائيل التوراة اندثر تاريخه في رمال الصحراء، ولو ظل مقيمًا في أرضه وبلاده".

فهل نستيقظ ونعرف أن الطريق الوحيد للخلاص والنصر والسيادة والعزة يبدأ بقولة "لا إله إلا الله محمد رسول الله" منهج حياة كامل للمسلم.

اللهم ارزقنا أخلاق أهل بدر وثباتهم ويقينهم، ووفقنا أن نسير على نهجهم، إنك نعم المولى ونعم النصير.