استبشرنا بعودة مجال الطهور الذي تسبح فيه أرواحنا بعد جفافها وركودها، واستبشرنا بساعة صُلحِنا مع ربنا بعد طول إعراضنا وإباقنا، وكم تمنينا أن نكون أوفياء بحقِّك، وكم أملنا أن نكون أقوياء على برِّك ورفدك.

أما اليوم فإننا نودعك وملْء النفس وَجَلٌ وخجل، وإشفاق وقلق.. لاندري إلى أي مدى كان وفاؤنا بواجب العمل، وإلى أي مدى كان تحقيقنا لفسيح الأمل.

فليتَ شعري كيف وجدتنا؟ وماذا عسى أن تكون حملت معك من ذكرياتنا؟! هل أقبلت أعذار المعتذرين؟ هل أرضاك صوم الصائمين؟ هل أعجبك قيام القائمين؟

ما أكثر الذين اعتذروا إليك بمشاغلهم ومتاعبهم، وما أكثر الذين تعللوا لك بضعفهم ومرضهم، وما كان الذي بهم والله منْ مرض الأبدان، ولا منْ ضعف وسائل الإمكان، ولكنه مرضُ القلوب، وصغر النفوس، وخور العزائم، لقد خانتهم رجولتهم فلم يحاولوا أن يقتحموا العقبة، بل فرّوا من الميدان قبل الملحمة، وحكموا على أنفسهم مقدَّمًا قبل التجربة.

فدَعهُم يقاسوا مرارة الألم، ويتجرعوا مرارة الندم، إذا وجدوا إخوانهم الذين قبلوا التجربة قد خرجوا منها بسلام فلم تنقص منهم شيئًا بل زادتهم إيمانًا إلى إيمانهم، وقوةً إلى قوتهم، وتبيَّن أن تلك المخاوف إنما كانت وهمًا من الأوهام، وخدعة من خدع الشيطان، يخوّف بها الأطفال وأشباه الأطفال.

أي شهر رمضان..!!

قل للذين خُدِعوا هذه المرة، لا يُخدعوا بمثلها مرةً أخرى، وقل لهم وأنت على عتبة باب السفر: منْ أضاع الفرصة في أيامي، فليتدراكها في أيام أُخر، قل لهم: إنَّ باب التوبة مفتوح على مصراعيه: (وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا) (النساء:110))

أما بعد.. يا شهر الصيام، فإني أخشى أن تكون حفظت في سجلك عن جمهرة الصائمين القائمين، أشد وأقسى ممّا سجلته على كثيرٍ من المفطرين المقصّرين، فقديمًا قيلَ: "رُبَّ معصيةٍ أورثت ذلّة وانكسارا، خير من طاعةٍ أورثت علُّوا واستكبارا"، فهؤلاء المفطرون إذا اعترفوا بذنوبهم وشدّوا ما تراخى من عزمهم، كانوا أحرياء أن يتوبوا أو يتوبَ الله عليهم، أمّا أولئك المتبجِّحون الذين يحسبون أنهم متى أمسكوا عن الطعام والشراب فقد أدّوا كلَّ حقِّك، وقاموا بكلِّ واجبك، على حينِ أنهم في صومهم لم يدَعُوا قول الزور ولا العملَ به، فهؤلاء هم الذين أساؤوا وهم يحسنون صنعًا، وهؤلاء هيهات لهم أن يتوبوا؛ لأنهم لايظنون أنهم اقترفوا ذنبًا.

أما دَروا أنَّ الله حين نهى الأبناء أن يوجهوا لآبائهم حرفًا من التأفّف والتَّضجر، كان هذا منه ترقيًا وتساميًا بهم في البعدِ عمّا وراء ذلك من الأذى والعدوان، وأنه كذلك حينَ نهى الصائمين عن طيِّبات المشارب والمطاعم، كانَ هذا ترقيًا منهم وتساميًا بهم التَّطهر عمّا قبل ذلك من المحارم والمآثم؟ وهل يُعقل أن ينهى الصَّائم عن ردِّ الإساءة والإيذاء، وأن يبيح له البدء بالفُحشِ والإيذاء؟ أليس الصَّوم كما عرفنا هو أقصى الطُّهر وغايته؟ فكيف يؤدي نهايته من لم يُؤدِّ بدايته؟ وكيف يحتسبُ عند الله نافلة البرِّ من لم يؤدِّ ركنَهُ وفريضته؟

أيها الإخوة الصائمون القائمون..

أفلا تجلسون معي قليلاً نحاسب أنفسنا قبل أن نحاسب، هل نسينا أنَّ الميزان دقيق، وأنَّ الناقد بصير؟ فماذا يكون جوابنا لو قيل: لقد كنتم في صيامكم لاغين رافثين وكنتم في قيامكم ساهين لاهين، منْ منَّا إذًا لم يلغُ ولم يرفث في صيامه ومنْ منَّا إذًا لم يلْهُ ولم يسهُ في قيامه؟ كيف إذًا نتَّكل على أعمالنا وكيف نطمعُ إلاَّ في رحمة ربنا؟

أيها الإخوة المؤمنون..

هل أدلكم على طهرة تنُقّون بها أعمالكم من أدرانها وتخلصونها من شوائبها؟

اغتنموا هذه اللحظات الباقية أمامكم، فاغسلوا قلوبكم الآن بدموع الاستغفار، وارفعوا أكفَّ الضراعة إلى الودود الغفَّار، قولوا معي: رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ (193) رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلَا تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّكَ لَا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ (194) (آل عمران).

وطهرة أخرى أعظم وأقوم : أن تودِّعوا هذا الضيف الكريم بما يودَّع به الضيف الكريم.. إنَّ الضيف الكريم لا يودَّع بمجرّد التحيات والتسليمات، ولكن يجهز يالتحف والطّرف ويزوَّد بالهدايا والعطايا، اتدرون ماتحفة ضيفكم؟ زكاة فطركم، إنها طهرة صومكم، وزكاة نفوسكم، وصلاح أمركم.

تقبَّل الله منَّا ومنكم صالح الأعمال، ورزقنا وإياكم الصدق والإخلاص في كلِّ حال.

آمين آمين