رمضان لو صامه المسلم كما يحب الله عزَّ وجلَّ؛ فإنه سيربيه ليكون أهلاً لحمل الأمانة.. وكذلك ليكون حجرًا راسخًا في صرح الأمة العظيمة.

تُرى ماذا يربِّي فينا رمضان؟!

أولاً: رمضان يربِِّي فينا الاستجابة الكاملة لأوامر الله عزَّ وجلَّ

بصرف النظر عن حكمة الأمر.. فلا تردد ولا جدال، بل انصياع تام سواء ظهرت لك الحكمة أم خفيت.. والطاعة مطلوبة دائمًا، والمسلم وقَّاف عند أوامر الله، شعاره في ذلك "سمعنا وأطعنا".

فلماذا فُرض الصوم في رمضان بالذات، وليس في رجب أو شعبان مثلاً؟! لماذا نصوم من الفجر إلى المغرب، وليس إلى العصر أو العشاء؟! لماذا كفارة الجماع في نهار رمضان صيام ستين يومًا متصلة وليس خمسين أو سبعين يومًا مثلاً؟!.. إنه الانقياد لأوامر الله عزَّ وجلَّ.. تلك هي الإجابة الوحيدة.. تربية على الطاعة لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم. فلا الصيام شُرع من أجل الشعور باحتياج الفقراء، ولا هو شُرع من أجل تحسين صحة الصائم.. ولكنه التسليم.. ﴿فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا (65)﴾ (النساء)، فلا يستقيم بعد رمضان أن تسمع حكمًا لله أو حكمًا لرسوله صلى الله عليه وسلم، ثم تجادل.. فمثل هذا المسلم ما استفاد من الصيام...ما رباه رمضان!!.

ثانيًا: رمضان يربي فينا التحكم في الشهوات

اسمع إلى حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي رواه الإمام أحمد بسند صحيح عن عبد الله بن عمرو بن العاص (رضي الله عنهما) قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الصيام والقرآن يشفعان للعبد يوم القيامة، يقول الصيام: أي رب منعته الطعام والشهوات بالنهار فشفعني فيه، ويقول القرآن: منعته النوم بالليل فشفعني فيه، قال: فيشفعان".

لاحظ "من نص الحديث" أن وظيفة الصيام (أن تمنعك من الشهوات) سواء كانت شهوة لسان بآفاته الكثيرة، أو شهوة طعام بأنواعه العديدة، أو شهوة فرج بصورها المختلفة.

لاحظ أيضًا أن المؤمن يمتنع في نهار رمضان عن أشياء هي حلال في ليل رمضان؛ وهي من المباحات طوال العام؛ كالطعام، والشراب، والجماع مع الزوجة... فالذي يستطيع أن يمنع نفسه عن الحلال الذي اعتاد عليه سيكون أقدر على منع نفسه من الطعام الحرام والشراب الحرام والعلاقات المحرمة... وهكذا.

والشاب الذي لا يستطيع الباءة وهو يعيش في مجتمع يعج بالفتن والشهوات.. ما الذي يفعله؟ اسمع إلى النصيحة النبوية الغالية من رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عامة الشباب.. وذلك فيما أخرجه الشيخان عن عثمان بن عفان (رضي الله عنه) أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء".

ومن أجل ذلك أيضًا حثَّ الله سبحانه وتعالى المؤمنين على كثرة الصيام طوال العام، ولكن من رحمته لم يجعل ذلك فرضًا عليهم.. ومن ذلك: صيام الإثنين والخميس.. والأيام البيض من الشهر العربي (13، 14، 15).. صيام عاشوراء وتاسوعاء.. صيام التسع الأوائل من ذي الحجة، وخصوصًا يوم عرفة.. صيام ستة أيام من شوال.. وهكذا نتدرب طول العام على التحكم في شهواتنا.

ويبقى سؤال مهم: ما دور التحكم في الشهوات في بناء فرد مسلم صالح للانتصار والتمكين؟ لماذا تحتاج الأمة إلى التحكم في الشهوات لتصبح أمةً مجاهدةً؟ وما علاقة الجهاد بالصيام؟

لاحظوا الآتي: الجهاد مشقة كبيرة.. قد تمر على المجاهد أوقات عصيبة.. لا طعام.. لا شراب.. لا زوجة.. فمعتاد الصيام أقدر على الجهاد من غيره.

في غزوة تبوك لم يزد طعام الواحد على حفنة تمر.. وانقطع عنهم الماء فترة طويلة حتى كادوا أن يهلكوا، وفي غزوة ذات الرقاع تقطعت أحذيتهم من السير الطويل، واضطروا إلى ربط رقاع من الأقمشة على أقدامهم لتقيهم الرمال الملتهبة.

وكانوا يغيبون في الثغور بعيدًا عن الزوجات مددًا طويلة تصل أحيانًا إلى شهور بل وسنوات؛ حتى حدَّدها عمر بن الخطاب بأربعة أشهر، وفي أيامه (رضي الله عنه) حاصر المسلمون مدينة "تستر" الفارسية ثمانية عشر شهرًا متصلة!!.

ثالثًا: رمضان يربي فينا القدرة على كظم الغيظ

وذلك لأن الفرد المتسرع المنفلت الأعصاب لا يصلح لبناء الأمم.

فما دور رمضان في هذا الموضوع؟

عن أبي هريرة (رضي الله عنه)، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "قال الله عز وجل: كل عمل ابن آدم له إلا الصيام فإنه لي وأنا أجزي به، والصيام جنة، فإذا كان صوم يوم أحدكم فلا يرفث ولا يصخب فإن سابه أحد، أو قاتله فليقل: إني امرؤ صائم، إني امرؤ صائم" (رواه الشيخان).

إذن الصيام يربي على التحكم في الأعصاب، وعلى عدم انفلات اللسان، وعلى كظم الغيظ، وعلى العفو عن الناس، وكلها صفات أساسية للأمة المجاهدة، فحتى في الحروب ورغم العداوة والكراهية لأعداء الإسلام يدربنا الإسلام على حسن معاملة الآخرين ﴿وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ﴾ (المائدة: من الآية 8)، والصيام يقوم بهذا التدريب بصفة مستمرة فتستفيد منه الأمة سلمًا وحربًا.

رابعًا: رمضان يربي فينا الإنفاق في سبيل الله:

فعن ابن عباس، قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أجود الناس، وكان أجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل، وكان يلقاه في كل ليلة من رمضان فيدارسه القرآن، فلرسول الله أجود بالخير من الريح المرسلة) (رواه الشيخان).

ومدرسة الصيام تعلِّم الناس الإنفاق والعطاء.. ونفس الصائم تجود بالخير على غيره، وهي ظاهرة رمضانية ملحوظة، فمعدل الإنفاق في سبيل الله يرتفع جدًّا في رمضان، بل هناك ملحوظة عجيبة جدًّا!!.. هذا التهذيب الرباني، والتدريب الإلهي على العطاء يمتد في رمضان ليشمل الغني والفقير!!.. فمن المفهوم أن الغني يعطي، ولكن أن يعطي الفقير فهذه بركات مدرسة الصوم!.. فقد فرض الله على كل المسلمين، غنيهم وفقيرهم (زكاة الفطر).. وهكذا يشعر الفقير أنه فرد فعَّال في المجتمع.. وله دور إيجابي بحسب قدرته.. نعم، صدقة الفطر شيء يسير لكنها تشعره بأن له القدرة على العطاء، وقد تدرب كل المسلمين في هذه المدرسة، وأثبت الفقراء في ذلك نجاحًا عظيمًا!!.

خامسًا: رمضان يربينا على الشعور بالوحدة والأخوة والألفة:

فالصوم في يوم واحد والفطر كذلك، وبداية الصوم في وقت واحد هو الفجر، والإفطار في وقت واحد هو المغرب.

الصيام واحد والفرحة واحدة، إفطارات جماعية في كل مكان، روح اجتماعية تسري في الأمة، صلة الرحم تزداد، بر الوالدين يزداد، الزيارة في الله والتواد بين الجيران يزداد، ثم دفء الأخوة، ودفء المساجد، واصطفاف الأقدام في التراويح، والصف الواحد كالبنيان المرصوص؛ إنها تربية رمضان.

سادسًا: رمضان يربينا على التقوى

فالتقوى لب الصيام وغايته الرئيسية ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (183)﴾ (البقرة).

التقوى هي وصية الله إلى خلقه ﴿وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ﴾ (النساء: من الآية 131).

وهي وصية النبي صلى الله عليه وسلم لأمته، فيما رواه الترمذي عن أبي ذر (رضي الله عنه): "اتق الله حيثما كنت، وأتبع السيئة الحسنة تمحها، وخالق الناس بخلق حسن"، التقوى هي أن تتقي غضب الله عزَّ وجلَّ في السر والعلن.

إذا كنت في بيتك وقد غُلقت عليك الأبواب ولا يراك أحد وأنت صائم، وبجوارك الماء العذب والطعام الشهي.. مَنْ الذي يمنعك من الشراب والطعام؟ إنه الله، وتلك هي التقوى، وعندما تخرج من جيبك صدقة لمحتاج وأنت أحوج الناس إليها.. مَنْ الذي يدفعك إلى هذا؟ إنه الله.. وتلك هي التقوى، وعندما ترجع من عملك مجهدًا متعبًا فتسمع آذان العصر، فتنزل للمسجد للجماعة والحسنات المضاعفة.. لماذا تنزل؟ وحرصك على الفجر في المساجد وأنت متعب مجهد.. لماذا؟ إنه الله، وتلك هي التقوى، وعندما تعرض لك مسألة شرعية، فتحرص على معرفة حكم الشرع فيها قبل أي تصرف، ثم تتبع حكم الله ورسوله صلى الله عليه وسلم دونما جدل ولا تردد.. فتلك هي التقوى.

عندما يجهل عليك أو يسبك، بل يقاتلك أحد في عملك، أو في بيتك أو في الشارع، فتقابل أذاه بعفوك وجهله بحلمك، وتقول: إني صائم؛ فتلك هي التقوى، وتلك مدرسة الصيام.

التقوى إذن ليست بقيام الليل أو بصيام النهار، ولكن تقوى الله؛ ترك ما حرم الله، وأداء ما افترض الله، كما قال عمر بن عبد العزيز (رضي الله عنه).

وسُئل أبو هريرة عن التقوى، فقال لسائله: (هل أخذت طريقًا ذا شوك؟) قال: نعم، قال: (فكيف صنعت؟) قال: إذا رأيت الشوك عزلت عنه (تجنبته)، أو جاوزته (قفزت فوقه)، أو قصرت عنه (وقفت ولم أعبر)، قال أبو هريرة: (ذاك التقوى).

الشوك يا إخوتاه هو الذنوب والمعاصي، وكل ما حرَّم الله تعالى، فلنتربى في رمضان على تقوى الله حتى نلقاه جلَّ وعلا.

وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.