هل تصدّق أن بلداً يشتهر بالحضارة ومتحف اللوفر و"الشانزليزيه" يحتضن متحفاً به 18 ألف جمجمة لمقاومين للاحتلال الفرنسي في العالم من الشعوب المحتلة قطعوا رؤوس أصحابها ووضعوها كـ"ديكور" في متحف يسمي "الإنسان" ليتفرج عليها السياح؟

جماجم 24 من شهداء قادة المقاومة الشعبية الجزائرية إبان الاحتلال الفرنسي استقبلتهم الجزائر أخيراً بعد أن حرمت رفاتهم من الدفن وجثامينهم من التشييع في بلادهم لأكثر من 170 عاماً، بعدما أثار الجزائريون العالم ضد فرنسا وطالبوا باسترداد هذه الجماجم لتكريم أصحابها وتشييعهم في جنازة شعبية مهيبة، وليفضحوا جرائم الاستعمار الفرنسي في بلادهم مجدداً.

ما متحف الإنسان؟

يعد "متحف الإنسان" من المتاحف القديمة في فرنسا، وهو يحمل إهانة بالغة للجزائريين لما يحتويه من معروضات تمس أهاليهم وأجدادهم، حيث إن المتحف يحتوي على عدد من جماجم الرجال المشاركين في المقاومة ضد الاحتلال الفرنسي لبلادهم منذ عام 1839 وحتى عام 1962م، التي وصل عددها إلى ما يقرب من 20 ألف جمجمة احتفظ بها الجيش الفرنسي المُستعمر، وعادوا بهذه الجماجم خلال مغادرتهم للبلاد!

وتنتهك الكثير من الآثار الموجودة في المتاحف الأوروبيّة الكرامة الإنسانية، كحالة جمجمة سليمان الحلبيّ، الذي اغتال قائد الحملة الفرنسية على مصر، الجنرال كليبر، عام 1800م، ثم أعدم بالخازوق، لتقوم بعدها فرنسا بنقل جمجمته إلى متحف الإنسان في باريس، وعرضها ضمن منصة "المجرمين والبرابرة"!

وزير الخارجية الجزائري تساءل وهو يدير مفاوضات استعادة رفات هؤلاء الضحايا من متحف الإنسان: "كيف لبلد كفرنسا التي تدعي الديمقراطية وحقوق الإنسان أن تضع رؤوساً قطعها المستعمر ببشاعة ووحشية وفِعْل لا يقترفه إلا الإرهاب في متاحف لتُعرض على الزوار؟!".

وقال مؤرخون وباحثون جزائريون عقب الكشف عن آلاف الجماجم المحفوظة في أحد متاحف باريس لمقاومين جزائريين قُطعت رؤوسهم، بأوامر جنرالات فرنسيين: إن هذا مشهد يحاكي من وجهة نظرهم ما يفعله التنظيم الإرهابي "داعش" في عصرنا الحالي؛ وإن جماجم الجزائريين في فرنسا نسخة "داعشية" من القرن التاسع عشر، وجنرالات فرنسا هم المعلمون الكبار في القتل والجرائم ضد الإنسانية وسبقوا "داعش" في قطع الرؤوس وحرق الأجساد.

وقد أحيت تلك الجماجم "جرائم" لم تُدفن ارتكبها الاستعمار الفرنسي، فبحسب قناة "فرنسا 24"، هناك 18 ألف جمجمة محفوظة بمتحف "الإنسان" في باريس؛ منها 500 فقط جرى التعرف على هويات أصحابها، من ضمنهم 36 قائداً من المقاومة الجزائرية قُتلوا ثم قُطعت رؤوسهم من قبل قوات الاستعمار الفرنسي أواسط القرن التاسع عشر.

كيف تم كشف الجريمة؟

لم يُكشف بداية سر هذه الجماجم سوى في مارس 2011م، على يد علي فريد بالقاضي، الباحث الجزائري المقيم في فرنسا، وفي العام نفسه، صدرت عريضة تطالب باسترجاعها؛ غير أنها لم تلق رواجاً كبيراً.

ولكن في مايو 2016 تمكّن إبراهيم سنوسي، الأستاذ الجزائري في جامعة "سيرجي بونتواز" الفرنسية، من جمع قرابة 30 ألف توقيع لاسترجاع بلاده لهذه الجماجم، واضطرت فرنسا أخيراً لإعادة 24 جمجمة منهم تم التعرف على أصحابها من المقاومين الجزائريين.

منها 7 جماجم تعود إلى مقاومين جزائريين، بينها جمجمة الشيخ بوزيان قائد ثورة "الزعاطشة" بشرق الجزائر عام 1849م، الذي أسره الفرنسيون وأُعدم رمياً بالرصاص وقطع رأسه، وأخرى لأحد مساعديه، وقد أضيفتا إلى مجموعات المتحف في عام 1880م، وهناك أيضاً جمجمة محمد الأمجد بن عبدالمالك، الملقب بالشريف بوبغلة، الذي فجّر ثورة شعبية وقُتل وقُطع رأسه أيضاً عام 1854م.

ومطلع العام الماضي، قدّمت الجزائر طلباً رسمياً باستعادة هذه الجماجم، وتكوين لجنة مختصة في سبيل العمل على استرجاعها والأرشيف الاستعماري الموجود في فرنسا، وحين سئل الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، عن القضية حين زار الجزائر، قال: إنّ حكومة بلاده جاهزة للعمل في سبيل إرجاع الجماجم، ودعا بالمقابل الجزائر للسماح لخونة دعموا الاحتلال الفرنسي بالعودة للجزائر!

وعشية الذكرى الثامنة والخمسين لاستقلالها، استعادت الجزائر التي استعمرتها فرنسا 132 عاماً، حطّت الجمعة 3 يوليو 2020، طائرة "هرقل سي-130" حاملة رفات 24 من قادة المقاومة الشعبية قتلوا في السنوات الأولى للاستعمار، وكانت محفوظة منذ عقود في متحف الإنسان في باريس.

وكان في استقبال النعوش الرئيس الجزائري عبدالمجيد تبون وحشد من حرس الشرف، وسيتم دفنها غداً الأحد في ساحة الشهداء في مقبرة العالية في الجزائر العاصمة.
----
نقلا عن "المجتمع" الكويتية