جفاف النيل، توقف النهر، شُح المياه.. هواجس تنغِّص حياة المصريين،  الذين يعيشون كما عاش أجدادهم القدماء على فيض هذا النهر؛ إذ لا يتصور مصرىٌّ واحد ٌأن يكون بلده بلا نيل –لا سمح الله- أو أن يغيض ماؤه أو يقل إمداده؛ فإن مصر بلا نيل جسدٌ بلا روح، أمٌ بلا ولد.
وأكثر المصريين اهتمامًا بقضايا النهر هم الملتصقون بشطآنه، المتعاملون مباشرة مع مائه؛ من الفلاحين والمزارعين والصيادين وساكنى القرى والأقاليم، الذين لا يغادرهم النهر ولا يغادرونه..
وقد كانت لنا ذكريات مع هذا النهر الخالد؛ باعتبارى أحد الذين وُلدوا فى قرية وشبُّوا على أرضها. أحكى هذه الذكريات لأبين كيف كان النيل وكيف صار الآن، وكيف لم يحافظ عليه العسكر الذين غلبوا على أمرنا؛ ولأؤكد كذلك أن هذا الكيان القومى قد لحقه الإهمال وشبهة التضييع منذ سنين.

تفتحت عيناى على أرض لأبى قريبة من القرية تطل على إحدى الترع، وكان من حظى كطفل أننا كنا نملك جسر هذه الترعة فلا يمر عليه أحد غيرنا، فكان هذه الجسر مستغَلًا فى زراعة «البوص» و«موز الزينة» المزهر وقصب السكر والعديد من أشجار التوت والجميز والصفصاف، فكانت هذه الأرض المُخضرَّة التى لا ينقطع ماؤها هى مأوانا ومرتع صبانا؛ نتسلق شجرها ونصطاد سمكها وطيورها ونأكل ثمرها، ولا نعود منها إلى بيتنا إلا بعد أن تغيب الشمس.

أذهب الآن إلى المكان نفسه، الذى يملكه شقيقان لى، فأغتم للحال التى وصل إليها، وللخراب الذى لحق به وبشبكة الترع التى كان بعضها يخترق القرية، وقد جف ماؤها وامتلأت بالدود والمخلفات البلاستيكية، وقد نُصب على رأس كل «غيط» ماكينة رفع لـ«شفط» ما يأتى من ماء شحيح كل خمسة عشر أو عشرين يومًا على الأقل، ومن فشل فى الحصول على الماء بالماكينة قام بـ«دق ارتوازى» لكى لا يهلك زرعه، فلم يعد يعتمد على النهر بالكلية.
وهذه جريمة كبرى تتحملها الأنظمة المتعاقبة؛ حيث بات واضحًا أن اللعب بحصتنا فى النهر بدأ مبكرًا؛ لأننى رأيت لسنوات، فى طفولتى وشبيبتى، الأراضى تُروى بـ«الراحة»، أى من دون آلة، يجعل الفلاح على رأس أرضه «مقطع» متصلًا بالترعة، وليس عليه إلا فتحه بالفأس إن أراد الرى أو غلقه إن انتهى منه، وقليل من الناس كان يسقون بالساقية أو «الطنبور» لبُعد أراضيهم عن الترع أو لظروف الحدود والتقسيم، مثل الدول التى لا تطل على ماء..

ورأيت الماء يزيد على طاقة الترع فيخرج على الجروف (الجسور) فربما هلكت زروع وبيوت، فكان الناس يسارعون إلى فتح «أطراف الترع» [وهى سدود كانت تُقام فى نهاية كل ترعة وتشرف على مصرف زراعى] فى المصارف. أين هذا الماء الآن؟ قد يقول قائل: لقد حدث توسع وازدادت مساحة الأرض. أقول: لو حدث توسع فهو فى استهلاك ماء الشرب والصناعة، وهذا يمثل (15%) فقط من كمية الماء، أما الـ(85%) فهى تذهب إلى الزراعة، ومعلوم أن الزراعة التى تُروى بالنيل هى أرض الدلتا والصعيد، وهذه قلَّت مساحتها بشكل كبير بسبب البناء عليها أو تبويرها لأغراض أخرى، وإذا كانت ثمة زيادة فى مساحة الأرض الزراعية فهى أراض صحراوية، وهى «ارتوازية» كلها باستثناء نسبة بسيطة تُروى بماء النيل، لكنه رى بالتنقيط لا يؤثر فى حصة الماء.

ومما أذكر أننى لما التحقت بجامعة القاهرة كنت أعمد إلى السفر على طريق الخطاطبة/ المناشى، وهو طريق ممتد من شمال الجيزة إلى وسط البحيرة، محتضنًا «الريَّاح البحيرى»، وهو أحد أفرع النيل الكبرى، فكنت ترى شاطئى الريَّاح وما حولهما من أراضٍ وخيرات على مد البصر كأنها جنة الله فى أرضه.. وامتد بى الزمن لأرى الحال قد تغيرت، وأرى ما حول الرياح عشوائيات منفِّرة، ومياهًا ملوثة غطتها القمامة والأعشاب من كل جانب حتى حجباها عن الرؤية.

ورحم الله أيامًا كانت نساء القرية يغسلن القمح والأرز والشعير من ماء الترعة؛ لصفائه ونقائه حتى كنا نرى الأسماك وهى تتحرك بداخله، وحتى كنا لا نتردد فى الشرب منه إذا غاب ماء «الطلمبة». واليوم أرى ماء النهر الكبير، الذى يخترق القاهرة الكبرى، وقد اصفرَّ واخضرَّ واغبرَّ وعلته الكآبة وانخفض منسوبه، ثم لا  يجد من «يحنو عليه»  بمنع صرف مخلفات المصانع من الكيماويات والملوثات فيه، أو البناء عليه حتى اختفى خلف هذه المبانى.

لقد أدى الفساد المستشرى إلى خنق النهر وتضييق مجراه، والاستهانة به، ولقد رأيت بعينىَّ من يردمه بالبلدوزرات والكاسحات ليبنى عليه قصورًا فخمة ومبانى شاهقة وهو لا يبعد أمتارًا عن إحدى الوحدات المحلية لقرية كبيرة بمحافظة الجيزة، ولما استنكرت ما يحدث قال الرجل: (الدار دار أبونا… مالك فى إيه؟!).