الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن اتبع هداه
الأحرار والحرائر فى معتقلات الظالمين
يا أبناء مصر الأبرار.. يا عدة المستقبل وعتاده.. يا أصحاب القلوب النقية والضمائر الحية: خلف قضبان لا يعرف أصحابها معنى العدل ولا معنى الرحمة، ولا يتورعون عن الظلم والقسوة. نعلم أنكم كم تُبتلون في إنسانيتكم، وتُمتحنون في كرامتكم، وتُفتنون في دينكم، على أيدي أقوام غلاظ القلوب، معدومي الضمائر، لا يخافون خالقا، ولا يرحمون مخلوقا. وكم ابتلينا بمثل هؤلاء الذين يغفلون عن وعيد الله لهم، وقدرته عليهم: ﴿إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ﴾ (البروج:10). ومع هذا فإننا نرى فيكم طلائع الفجر الباسم، وصوت الحرية المشرق، وعزيمة الرجال التي لا تنثني، وقوة الحق الذي لا يلين. فوالله لوقفة أحدكم صابرا محتسبا ثابتا واثقا فى ربه ومنهجه وقيادته خلف قضبان الظلم الواهية خير من الدنيا وما فيها.

الأحرار الأبطال المجاهدون
ما علمنا أن الله نصر أمة بغير أبطال ومجاهدين، صبروا واحتسبوا وتواصوا بينهم على الثبات والعزة والكرامة، ورفض الظلم والجور، والخنوع والاستكانة، ونحسب أن الله اختاركم لتكونوا طليعة المناضلين الثابتين على الحق، المتمسكين به، وجعلكم ممن يحمل مشعل العزة، لتُحيوا قضايا الحرية والعدالة والكرامة، في عقول وقلوب الملايين في مصر والعالم أجمع، لتبقى جذعة لا تنطفئ جذوتها، ولا يخفت نورها.

لقد خلق الله الإنسان في هذا الكون وقرن به سنة الابتلاء، قال تعالى: ﴿إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ﴾. وقال سبحانه: ﴿ الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا﴾. وإنما جُعل هذا الابتلاء ﴿لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ﴾ (الأنفال) ونحسبكم جميعا من الطيبين الأطهار الأبرار. وإذا كان الله تعالى قد أرشدنا أن نشكر في السراء، فقد أمرنا أن نصبر في الضراء، قال صلى الله عليه وسلم: "عجبا لأمر المؤمن، إن أمره كله خير، وليس ذاك لأحد إلا للمؤمن، إن أصابته سراء شكر، فكان خيرا له، وإن أصابته ضراء، صبر فكان خيرا له" وقال سبحانه: ﴿ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ * وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ﴾ (النحل:126-). وقال صلى الله عليه وسلم: "وأن النصر مع الصبر، وأن الفرج مع الكرب، وأن مع العسر يسرا" كما في مسند أحمد وغيره، من حديث ابن عباس.

الثقة واستقرار الإيمان
الأحرار والحرائر.. ومع هذا البلاء العظيم، وتلك المعاناة الكبيرة، نجد أن الثقة بالله تجدد إيمان من يتحملون الصعاب بصدور عارية وقلوب مطمئنة، فوثقوا بنصر الله لهم في حركاتهم وسكناتهم، في حلهم وترحالهم، في خلوتهم وجلوتهم، إنهم يعلمون أن أشد الأوقات ظلمة تسبق طلوع الفجر، ومتى تكاثرت السحب نزل المطر، وكلما اشتد ألم المرأة جاء الولد، وحين تشتد الكربات يقترب الفرج وحين يتملك النفوس اليأس من شدة العسر وتأخر النصر ومعاندة المكذبين ومحاربتهم يمنّ الله بالروح والتمكين للمؤمنين ﴿حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ وَلا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ﴾ (يوسف:110) وقال أيضا (فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً. إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً) (الشرح:5-6). وكما قال النبي صلى الله عليه وسلم: "واعلم أن النصر مع الصبر، وأن مع العسر يسرا". إن المؤمن الذي يدعو إلى الله تعالى، والمجاهد الذي يجاهد في سبيل الله لإعلاء كلمته تعالى، والعامل الذي يعمل لدين الله يحتاج إلى هذا اليقين حتى لا يتسلل إليه يأس أو ملل، وقد كان ابن القيم رحمه الله تعالى يقول: سمعت شيخ الإسلام ابن تيمية قدس الله روحه يقول: بالصبر واليقين تنال الإمامة في الدين، ثم تلا قوله تعالى: ﴿وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآياتِنَا يُوقِنُونَ﴾ (السجدة:24).

إن صاحب الثقة بالله تعالى لا تلين له قناة ولا يهتز له يقين ولا يتزعزع له إيمان، ولا تضعف له همة، ولا يخفت له أمل، حتى وإن رأى تكالب الأمم، واشتداد الخطوب، وكثرة الحروب، وتحجر القلوب، لأنه يعلم أن الأمر كله لله تعالى، وأن العاقبة للحق وأهله، وأن المستقبل لهذا الدين ﴿كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ﴾ (المجادلة:21).

الثقة بالله تجدها في إبراهيم عندما أُلقي في النار.. فقال واثقا بربه حسبنا الله ونعم الوكيل.. فجاء الأمرالإلهي: يا نار كوني برداً وسلاماً على إبراهيم..
الثقة بالله تجدها في هاجر عندما ولّى زوجها وقد تركها في وادٍ غير ذي زرع.. صحراء قاحلة وشمس ملتهبة، صحراء جرداء لا زرع فيها ولا ماء، لا ثمر فيها ولا نفر.. قائلة: يا إبراهيم لمن تتركنا؟ قالتها فقط لتسمع منه كلمة يطمئن بها قلبها.. فلما علمت أنه أمر إلهي قالت في ثقة عالية بربها عز وجل (إذا لا يضيعنا) ففجّر لها ماء زمزم طعام طعم وشراب شرب، وخلّد سعيها في القران يتعبد الناس به إلى يوم الدين ﴿إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِن شَعَائِرِ اللّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَن تَطَوَّعَ خَيْراً فَإِنَّ اللّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ﴾ (البقرة:158)، ولو أنها خافت وجزعت وهرعت لما تنعمنا اليوم ببركة ماء زمزم.

الثقة بالله تجدها في ربعي بن عامر رضي الله عنه وهو يذهب إلى قيصر من القياصرة، لا يخافه، ولا يهابه، وعندما يسأله القيصر ما الذي جاء بكم، يقول البطل المغوار في ثقة عالية: جئنا لنخرج الناس من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة، الثقة بالله جلاء الهم وضياء القلب، نور البصيرة ونعيم الحياة، طمأنينة بالنفس وقرة العين، أنشودة السعادة النصر أو الشهادة.

الثقة بالله تجدها في أولئك القوم الذين قيل لهم..إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم.. ولكن ثقتهم بالله أكبر من قوة أعدائهم وعدتهم، فقالوا واثقين بالله: حسبنا الله ونعم الوكيل.. فانقلبوا بنعمة من الله وفضل لم يمسسهم سوء.
الثقة بالله تجدها في ذلك الذي مشى شامخاً معتزاً بدينه..هامته في السماء، وهمته تطاول الفضاء، ..بين قوم طأطأوا رؤوسهم يخشون كلام الناس، ويخشون جبابرة الأرض يقول لهم ﴿وَجَاء مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ﴾ (يس:20).

إن الثقة بالله تجدها واضحة في حياة النبي صلى الله عليه وسلم حتى في أشد اللحظات وأحرج الساعات، فحين شكا إليه بعض أصحابه رضي الله عنهم اشتداد أذى المشركين كان يقول لهم: "والله ليتمن الله هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله والذئب على غنمه، ولكنكم تستعجلون"، وحين أخرج من بلده مهاجرا ودخل هو والصديق رضي الله عنه الغار ولحق بهما المشركون خشي عليه الصديق رضي الله عنه حتى قال: يا رسول الله لو أن أحدهم نظر تحت قدميه لأبصرنا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "يا أبا بكر ما ظنك باثنين الله ثالثهما".

أبطال مصر.. الحرائر والأحرار
أيها المجاهدون الأشاوس إن الثقة من العوامل اللازمة للأفراد (لسلامتهم وصلاح شأنهم) وللمجتمع (لنهضته ورقيه) وللصف (لقوته وتماسكه) وللمنهج (لتثمر الاعتزاز به والحرص عليه والدعوة إليه والجهاد في سبيله)، وتزداد الحاجة إلى التذكير بذلك في أوقات المحن والابتلاءات، فحين تستعر حرب المبطلين ويشتد تضييقهم على جند الحق تخفف الثقة في معية الله وتأييده ونصره من شدة الوطأة وألم الصراع وحين تتوالى محاولات الدس والوقيعة تحبطها الثقة المتبادلة بين القيادة والجنود.

المجاهدون الثابتون
لقد أمرنا الله سبحانه بالثبات والمصابرة والمرابطة فقال: ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾ (آل عمران:200) فهذا طريق الصالحين والمصلحين، وهذه سبيل الصادقين والمخلصين، الذين:

أعطوا ضريبتهم للدين من دمهم * * والناس تزعم نصر الدين مجانا
أعطوا ضريبتهم صبرا على محن ** صاغت بلالا وعمارا وسلمانا

واعلموا أنكم لستم وحدكم، فإخوانكم يقفون خلفكم، ويتضرعون إلى الله في الأسحار، أن يثبتكم ويعينكم، ويفك أسركم، ويزيل همكم وكربكم، ﴿فَاصْبِرْ صَبْرًا جَمِيلًا * إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيدًا * وَنَرَاهُ قَرِيبًا} (المعارج:5-7).

اللهم إنا نسألك -يا أكرم الأكرمين، ويا أرحم الراحمين- أن تربط على قلوب المعتقلين والمعتقلات وعلى قلوب آبائهم وأمهاتهم، وذويهم، وأن تجمع كلمتهم على الهدى وقلوبهم على التقى، وأنفسهم على المحبة، وعزائمهم على الرشد والخير، وأن ترفع الظلم والبلاء عنهم، وأن تبلغهم مما يرضيك آمالهم، وأن تأخذ الظالمين أخذا أليما شديدا.
والحمد لله رب العالمين.