الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين

تعرضوا لنفحات الله
الأخوة والأخوات ونحن فى طريقنا إلى الله عز وجل نجد مواسم للخيرات وأياما للنفحات تفضّل الله بها علينا نقبل فيها عليه ونتزود بالإيمان، وقد أرشدنا نبينا وحبيبنا محمد صلى الله عليه وسلم إليها وحثنا على أن نتعرض لها، فقال (إِنَّ لِرَبِّكُمْ عزَّ وجلَّ فِي أَيَّامِ دَهْرِكُمْ نَفَحَاتٍ، فَتَعَرَّضُوا لَهَا، لَعَلَّ أَحَدَكُمْ أَنْ تُصِيبَهُ مِنْهَا نَفْحَةٌ لا يَشْقَى بَعْدَهَا أبدًا) رواه الطبراني، فإن هذا الزاد من الإيمان وتقوى الله يفجّر ينابيع الخير من داخل النفوس، ويولد الطاقات، ويشحذ الهمم والعزائم، فتسهل الحركة وتخف جواذب الأرض وتتخطى العقبات وتتفادى المنعطفات وتتضح معالم الطريق ويكون الصدق والإخلاص والعزم والثبات، ويتحقق ما يشبه المعجزات من الإنجازات.

والعاقل من يبادر إلى كل ما يتزود به في سفره إلى الله، والسعيد من اغتنم خيرها، والبعيد من حرم استغلالها، وفرط في حق ربه ثم حق نفسه بتضييعها، ولم يقدم لها زادها.

أيام العشر.. ووحدة الأمة من وحدة شريعتها
الأخوة والأخوات.. اختار الله من الأيام أياما جعلها مواسم خيرات، وأيام عبادات، وأوقات قربات، وهي بين أيام السنة كالنفحات، ﴿وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ﴾ (القصص: 68)، والرشيد السعيد من تعرض لها، ونهل من خيرها، كما أوصى رسول الله بقوله (افعلوا الخير دهركم، وتعرضوا لنفحات رحمة الله، فإن لله نفحات من رحمته يصيب بها من يشاء من عباده). ومن هذه المواسم النيّرات، والنفحات المباركات، أيام العشر الأول من ذي الحجة، فقد اختارها الله على ما سواها، ورفع شأنها واجتباها، وجعل ثواب العمل فيها غير ثوابه فيما دونها، علاوة على ما خصها الله به من أعمال فريضة الحج التي لا تكون في غيرها.

لقد أراد الله عز وجل للأمة المسلمة في هذه الأيام العشر أن تنشغل بعبادته وحده وتسمو نفسًا وحسًا وقلبًا وروحًا وعاطفةً وطموحًا، فبينما نجد بعض الأمة يتوجه إلى بيت الله الحرام لأداء مناسك الحج، نجد غير الحاج يجتهد في العبادة، حيث قال رسول الله- صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم-: (ما من أيامٍ العمل الصالح فيها أحب إلى الله من هذه الأيام- يعني أيام العشر- قالوا يا رسول الله ولا الجهاد في سبيل الله، قال ولا الجهاد في سبيل الله إلا رجل خرج بنفسه وماله فلم يرجع من ذلك بشيء) (رواه البخاري).

ومن هنا نجد المسلمين جميعًا يرتبطون معًا ارتباطًا وثيقًا؛ حيث يتذكر المسلم إخوانه وأحبابه الذين قصدوا البيت الحرام وهم على طهرٍ وعفافٍ وتنزُّه من كل إسفاف فيحلق معهم في سماء الطهر؛ حيث لا رفث ولا فسوقَ ولا جدالَ ولا عقوق، فيسعى لنيل رضا الله في هذه الأيام فيكثر من الصلاة والصيام والقيام والذكر والدعاء وفعل الخيرات وترك المنكرات فتنشغل الأمة جميعًا في هذه الأيام بعبادة الله بل وتتكامل في عبادته وطاعته فإذا كان الحاج يقف بعرفة ملبيًا متجردًا فهذا غير الحاج يصوم لله متجردًا في هذا اليوم، والذي يُكفِّر صيامه ذنوب سنتين سنة ماضية وسنة آتية، كما أخبر النبي- صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم- وبينما يفدي الحاج نجد غير الحاج يُضحي، وهكذا تتكامل الأمة الإسلامية في هذه الأيام المباركة ليصدق فيها قول الله تعالى: ﴿إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ (92)﴾ (الأنبياء).

الأخوة والأخوات.. إن إدراك المسلم هذه العشر نعمة عظيمة من نعم الله تعالى على العبد يقدرها حق قدرها الصالحون المشمرون، وواجب كل مسلم استشعار هذه النعمة واغتنام هذه الفرصة بأن يخص هذه العشر بمزيد من العناية، فإن من فضل الله على عباده كثرة طرق الخير وتنوع سبل الطاعة حتى يبقى المسلم ملازمًا للعبادة.

ولأهمية هذه الأيام أقسم الله تعالى بها والله عز وجل لا يقسم إلا بشيء غالٍ عظيم فقال ﴿وَالْفَجْرِ وَلَيَالٍ عَشْرٍ﴾ (الفجر؛1-2)، ويقول تعالى ﴿وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً﴾ (الأعراف: 142)، إنها العشر الأوائل من ذي الحجة كلَّم الله فيها موسى تكليمًا وقربه نجيًّا وكتب له الألواح في أيام العشر. ورسول الله- صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم- يحفز المسلمين لهذه الأيام فيقول: (ما من أيامٍ العمل الصالح أحب إلى الله فيهن من هذه الأيام، قيل ولا الجهاد في سبيل الله، قال ولا الجهاد في سبيل الله إلا رجل خرج بنفسه وماله ولم يرجع من ذلك بشيء).

ويرشد رسول الله إلى خير العمل فيها فيقول (ما من أيام أعظم عند الله تعالى ولا أحب العمل فيهن من أيام العشر، فأكثروا فيهن من التسبيح والتحميد والتهليل والتكبير).

أفضل العبادات فى أيام النفحات
الأخوة والأخوات.. اعلموا أنَّ لكل موسمٍ خير طاعات وعبادات يحبها الله سبحانه وتعالى ويفضلها أكثر من غيرها، والمسلم الفطن هو الذي يعلم هذه العبادات المفضلة ويأتي بها أكثر من غيرها، ومن أفضل العبادات في العشر الأوائل:

الحج والعمرة: وهو أفضل عبادة في هذه الأيام، ومن لم يستطع الحج والعمرة ففي حديث رسول الله- صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم- العوض والخير، حيث قال- صلى الله عليه وسلم-:(مَن صلى الفجر في جماعة ثم قعد يذكر الله حتى تطلع الشمس ثم صلى ركعتين كانت له كأجر حجة وعمرة تامة تامة تامة).

الصيام، وخاصة يوم عرفة: فإن لم تتمكن من صيامها كلها فصم ما تستطيع منها وبالأخص يوم عرفة، ولقد كان النبي -صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم- يصوم هذه الأيام كلها؛ وذلك في الحديث الذي روته بعض زوجاته (كان النبي -صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم- يصوم تسع ذي الحجة ويوم عاشوراء وثلاثة أيام من كل شهر)، ويخبرنا رسول الله في حديث آخر فيقول (صِيَامُ يَوْمِ عَرَفَةَ أَحْتَسِبُ عَلَى اللَّهِ أَنْ يُكَفِّرَ السَّنَةَ الَّتِي قَبْلَهُ وَالسَّنَةَ الَّتِي بَعْدَهُ) أخرجه مسلم. فلا يفوتنك أخي المؤمن هذا الأجر العظيم.

إحياء سنة التكبير والذكر في هذه الأيام: وذلك لقوله تعالى ﴿وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾ (البقرة: من الآية 185)، وسنة التكبير في العشر الأوائل كادت تندثر.. ولقد ذكر البخاري أن ابن عمر وأبا هريرة كانا يخرجان إلى السوق في العشر فيكبرون فيكبر الناس بتكبيرهما. ويستحب رفع الصوت بالتكبير في الأسواق والدور والطرق والمساجد وغيرها.

كثرة الأعمال الصالحة: وذلك من نوافل العبادات كصلاة السنن والصدقات، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وقراءة القرآن، للحديث القدسي (ما تقرب إلىّ عبد بأحب مما افترضته عليه ولا يزال عبدي يتقرب إلى بالنوافل حتى أحبه.. )، فلا بد للمسلم أن يكثر من الأعمال الصالحة في هذه الأيام لأن العمل في اليوم الواحد من هذه الأيام يساوي قدر غزوة في سبيل الله، قال الأوزاعي: بلغني أن العمل في اليوم من أيام العشر كقدر غزوة في سبيل الله يصام نهارها ويحرس ليلها إلا أن يختص امرؤ بشهادة.

الصدقة برهان: إنه ميدان من ميادين جهادك فالجهاد بالمال أخو الجهاد بالنفس، أفلا تريد أن تنال شرف أن يكتب اسمك عنده من المجاهدين؟! فالله اشترى منك السلعتين وأنت أمامك فرصة ذهبية أن تبيع إحداهما، فتصدق بدافع الإيمان ودافع الإخوة ودافع الجوار ودافع المروءة، فأنقذوا إخوانكم بالصدقة وداووا جراحهم بالنفقة وبرهنوا على حياة قلوبكم بإخراج أموالكم.

قيام الليل؛ فإن السعادة الحقيقية لتملأ القلب حين يخلو العبد بالله عز وجل والناس نيام، فيالها من لذة حين تقف بين يدي الله في الثلث الأخير من الليل تدعو وتنيب إلى الله وترى بعدها حالك، يقول ابن المنكدر: ما بقي من لذات الدنيا إلا ثلاث قيام الليل ولقاء الإخوان وصلاة الجماعة.

الأضحية؛ فما عمل آدمي يوم النحر عملاً أحب إلى الله من إهراقه دمًا وإنها لتأتي يوم القيامة بقرونها وأظلافها وأشعارها وإن الدم ليقع من الله عز وجل بمكان قبل أن يقع على الأرض.

سائر أعمال البر: كالصدقات ونوافل الصلوات، وصلة الأرحام، ومراعاة الأيتام، وكل عمل صالح سواها، فهي كلها داخلة في العمل الصالح الذي هو في هذا الشهر أفضل من غيره.

دعوة أهل البيت: من بر للوالدين ودعوة والزوجة والأولاد والأخذ بأيديهم إلى طريق الله والتنافس معهم في السباق نحو الجنان.. فلنجلس معا ونضع لكل منهم برنامجاً ارتقائيا إيمانيا وذاتيا ودعويا يسير عليه يراعي جانب العروة الوثقى، وعلينا كذلك أن ننظم لهم أوقاتهم ليتمكنوا من القيام بما عليهم من واجبات ولتكن لنا معهم جلسة أسبوعية وإن قصُرت ونقرأ معا ما تيسر من القرآن ونستمع إلى خواطر التدبر. وإن زدنا بتدارس كتاب نافع في الحديث أو السيرة، ثم نتابع حصيلة الأعمال الصالحة فنشجع المحسن ونشحذ همة المقصر، ونختم اللقاء بالدعاء لأنفسنا وللمسلمين. ولنا في كتاب بهجة اللقاء خير زاد.

كن داعيا: أخي الحبيب إياك أن تربح نفسك الحسنات بالأعمال الصالحات وتنسى مهمتك الثانية فتترك غيرك يملأ دلوه بالسيئات ليفيض على من حوله! أخي الحبيب إنهما مهمتان متلازمتان يكمل كل منهما الآخر التعليم والتعلم أو الدراسة والتدريس، ولقد جاءت وصية الرسول شارحة (خيركم من تعلم القرآن وعلمه) لتعيش أكثر من مرة وتحيا أعمارا كثيرة فتوسع دوائر الإيمان والمهتدين وهو المانع لنزول العذاب، واسمع لابن تيمية يقول (أتظن أن الأمانة أن تتوضأ برطل من ماء وتصلي ركعتين في المحراب إنما الأمانة أن تحمل هذا الدين وتحمله للناس)، والدعوة إلى الله والإصلاح فردية وجماعية فعش للدين واهدِ قريبا أو زميلا كتابا وكلم صديقك أو جارك في قضية إيمانية أو تربوية وأمر بالمعروف وانهَ عن المنكر واجعل من وسائل التواصل الاجتماعي منبرا للدعوة واستثمر الفرص الدعوية ومواسم الخيرات.

واجبات عملية
فى أيام النفحات.. لا تنسوا المعتقلين والمعتقلات: فلنا أخوة وأخوات لهم علينا حقوق ولأسرهم علينا واجبات، ونسأل الله تعالى أن تأتى هذه الأيام وهم بين ذويهم أحرارا فرحين بنصر الله.

يحرص كل منا على أن يكون بيته شعلة إيمانية ومنارة أخلاقية ومصابيح ربانية (وضع جدول عملى للأسرة خلال أيام العشر الأوائل من ذى الحجة).

الحرص على صلة الأرحام والتذكير بفضل الأيام العشر، وأن النجاة من بلاء الوباء إنما بحسن اللجوء إلى الله.

التذكير بأفضل العبادات فى أيام النفحات فالدال على الخير كفاعلة، والحرص على إتيانها.

وأخيراً يلزم أن نظل أوفياء بالعهد غير ناكثين ولا مبدلين ولا مغيرين حتى نلقى الله على طريق الدعوة ونحن على ذلك، والإيمان وتقوى الله خير زاد يعيننا على ذلك ﴿بلى من أوفى بعهده واتقى فإن الله يحب المتقين﴾.

﴿مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا﴾.