يمتاز الإسلام عن غيره بأنه دين كامل تام استوعب كل شئون الناس فى معاشهم ومعادهم استيعابًا كاملًا، فهو للدنيا كما هو للآخرة، وهو قانون يتحاكم به الناس فى شئون هذه الحياة العملية، كما هو إرشاد ينظم لهم شئون حياتهم الروحية.
لا يقف الإسلام محايدًا أبدًا أمام أى شأن من شئون الناس؛ لأنه كما أراد الله أن يكون إنما نزل لعلاج مشاكلهم وإسعادهم فى كل ظروفهم، فهو يفتى فى البيع وفى الشراء وفى الرهن وفى الإجارة وفى القرض وفى السلم إلى غير ذلك مما يدخل فى حدود المسائل التى اصطلح المحدَثون على تسميتها بالحقوق المدنية، وهو يفتى كذلك فى الدماء والجروح والقصاص والحدود وغيرها مما عرف الآن بالحقوق الجنائية، وهو يفتى فى العقوبات صغيرها وكبيرها ودقيقها وجليلها، وهو يفتى فى الصلة بين الأمم وتنظيم علائق الشعوب وبيان الروابط والحقوق والواجبات بين الدول مما يسمى بالحقوق الدولية،
وهو يفتى فى الاستئذان والزيارة والجلوس على قوارع الطرق وحق الجار على الجار والصديق على الصديق وأدب المجلس وأدب السلام والتحية فى اللقاء والانصراف وغير ذلك مما يسميه الناس بالآداب العامة.
يفتى الإسلام فى كل هذا كما يفتى فى الوضوء والصلاة والصيام والحج والتسبيح والذكر والتوبة والاستغفار مما يقول عنه أهل هذا العصر: المسائل الروحية.
والإسلام حين يفتى فى كل هذه المسائل يضع فتواه على أقوم الأصول وأصح الأسس فى دقة متناهية وإحكام غريب، بلى إنه ليس غريبًا، أليس واضعه الحق تبارك وتعالى الذى يعلم خائنة الأعين وما تخفى الصدور؟ وليس هذا محل الإفاضة فى تحليل ذلك فله مقام آخر.
والإسلام حين يفتى فى كل هذه المسائل ينظر إليها جميعًا على أنها كلها مسائل دينية يشملها حكم الله، الذى يجب على الناس أن ينفذوه ويعملوا به، ويعدها أجزاء منه لا تنفصل ولا تنفك عنه، وها أنت تقرأ السورة من القرآن فإذا بك تقرأ آية التوبة والاستغفار إلى جانب آية البيع والرهن إلى جانب آية الطلاق والظهار.
كنا نصلى قيام رمضان ليلة من الليالى وأخذ الإمام يقرأ بسورة البقرة، وكان مجيدًا حقًا، وكان حافظًا حقًا، وكان خاشعًا فى قراءته يورد الآيات إيراد الفاهم لها المتأثر بها، فأثر ذلك فى نفوس المأمومين جميعًا، وكانوا خلاصة من الذين يصلون لله، وبعد أن قضيت الصلاة همس فى أذنى أحدهم بخطرة من أزكى الخطرات وأنبلها وأدقها.
قال لى: ألم يلفت نظرك شىء فى هذه السورة الكريمة؟ ألست ترى أن الحق تبارك وتعالى جمع فيها قانونًا كاملًا يستوعب معظم شئون الناس الدنيوية، كما تكلم فيها عن نشأة الأمم وتربيتها وموتها وضعفها وسنة الله تبارك وتعالى فيها؟ أولست تراها كلها إلا قليلًا من الآيات الكريمة سورة عملية، وإن شئت قلت: دنيوية، أو حيوية بتعبير آخر؟ وأعجبنى من أحد الحاضرين أن أجاب على هذا الهمس الذى تسرب إليه حين تحمس الأخ الأول لجلال هذا الخاطر أعجبنى من الثانى أن أخذ يشرح سر ذلك فى لباقة واقتناع.
قال الأخ: ذلك -يا إخوانى- أرقى نظام فى تربية الأمم وترقية الشعوب أن يكون القانون الأساسى للأمة محفوظًا لكل أفرادها، فلا يستبد بها حاكم ولا يخرج عن حده، أو يقصر فى واجبه محكوم؛ إذ إن كل فرد من الأفراد بحفظه هذا القانون الأساسى يصح أن يكون قاضيًا، فهذا وضع عجيب أن يجعل الله من عبادة الناس إياه أن يستظهروا قانون التعامل بينهم ويحفظوه عن ظهر قلب، وهذا من أروع أمثل التزاوج الذى أوجده الإسلام بين الدنيا والآخرة.
بربك ألست ترى فى هذا الكلام عمقًا ودقة وكشفًا عن أسرار من أسرار التشريع الإسلامى تخبطت الأمة حين جهلتها وحلت عليها بهذا الجهل المصائب والنكبات؟
معذرة يا أخى القارئ إذا شط القلم فهو جوى لاصق بالقلب كامن فى الفؤاد تنكأه الذكرى، وتذكيه الحادثات، وأعود فأقول:
لقد رأيت أن الإسلام هكذا وضع، هو نظام شامل لكل مظاهر الحياة: دنياها وآخرتها، عمليها وروحيها، وكذلك فهمه المسلمون، وكذلك طبقوه من قبل يوم كان الدين غضًا، والخلافة وارفة الظلال، والمسلمون سادة أعزة أحرارًا فى بلادهم مالكون لأمرهم.
ثم عصفت بهم العواصف فإذا بهم يستبدلون الذى هو أدنى بالذى هو خير، ويستعيرون أحكام البشر يتحاكمون إليها ويهملون أحكام العلى الكبير، وهم مع هذا معجبون بما هم عليه، مستنيمون إليه، يحسبونه من مظاهر المدنية وهو هادم لكيانهم صادم لدينهم.
ألست ترى أن الحكومة المصرية احتفلت احتفالًا عظيمًا بمرور ذكرى خمين عامًا على المحاكم الأهلية، وأن صاحب العزة مصطفى بك حنفى فى تقريره عن هذا الحفل الذى رفعه إلى لجنة الكتاب الذهبى له ونشرته جريدة "السياسة" أفاض إفاضة تامة فى الإشادة بهذه المحاكم، وبيان أثرها فى الناس، وفضلها على الأمة؟ أنا لا أحاول بهذا أن أنال من القضاة الفضلاء فى مصر، ولا من القضاء فيها، فقد برهنت الحوادث على أن فى مصر قانونًا عرف قضاة مصر كيف يجلونه ويحترمونه وينفذونه على وجهه، ولكن الذى أقوله: حبذا لو عمل قضاة مصر الأفاضل أنفسهم على أن يكون هذا القانون هو قانون الله.
رأيت فى إحدى المجلات اليومية مقالًا ضافيًا للآنسة الأستاذة نعيمة هانم الأيوبى الحقوقية المصرية تشيد فيه بأثر القضاء الأهلى فى مصر، وإسعاده لأهلها، وكفه من مظالم الإدارة المطلقة قديمًا، وإراحته الناس من شرورها إلى آخر ما كتبت وأفاضت فيه واستشهدت عليه. يا أستاذة نعيمة، قد تكونين معذورة؛
لأنك فى بيئة بعيدة كل البعد عن استكناه حقائق التشريع الإسلامى، ولكن أقسم لك أن هذا الخير الذى تتمدحين به لا يكون شيئًا مذكورًا أمام النتائج المجيدة الصحيحة التى تصل إليها الأمة لو طبق فيها قانون الإسلام.
وما لى أذهب بعيدًا، أما الذى وطد الأمن فى بلاد العرب هذا التوطيد العجيب بعد ذلك الفساد المتناهى؟
أليست أحكام الإسلام؟ وألست تعتقدين معى ويعتقد الناس أن الواقع أصدق دليل؟
ويظهر أن الناس بدءوا يتنبهون وكم تفاءلت تفاؤلًا عظيمًا، وتنفست الصعداء، ومددت بصرى إلى ذلك اليوم الذى تعود فيه أحكام الله وقل عسى أن يكون قريبًا، حين رأيت شيخ الوعاظ فى هذا البلد فضيلة الأستاذ الجليل الشيخ عبد ربه مفتاح يفتتح العدد الثانى من مجلة الإيمان" بمقال هذا صدره: "منذ عامين تقريبًا كانت وزارة الحقانية تحتفل بمرور خمسين سنة على تأسيس المحاكم الأهلية، وقد رأت أن تدعو الأزهر لمشاركتها فى هذا الاحتفال.
وليس بدعًا أن يدعى الأزهر إلى شهود تلك الحفلات الكبرى، وإن لم يكن بينه وبين الداعين إليها ما بينه وبين الحقانية من وشائج قوية ورحم موصولة؛ إذ هو فضلًا عن اتحاد المهنة يساهم فى قضائها برجال المحكمة الشرعية، ولكن هذه الدعوى على الرغم من ذلك بدت للأزهر دعوة مريبة، فاستشف من خلالها الغرض الذى حمله ورجال المحكمة الشرعية أنفسهم على رفضها وعدم الاستماع إليها، وهو غرض لا يحتاج فى ظهوره إلى تأمل كبير أو فطنة نادرة، فهى تحكم لنفسها تدبير الأمر، وتبذل عنايتها فى سبيل اعتراف الأزهر بشرعية القضاء الأهلى.
كما كان موقف الأزهر هو الآخر لا يحتاج إلى تأويل أو توضيح؛ إذ هو لا يزيد أيضًا عن أن الأزهر -مع خضوعه للأمر الواقع- لا يعترف فى قضاء هذه الأمة بسوى الشريعة الإسلامية والقضاء الإسلامى، وهو حقًا موقف مشرف، بل هو فى نظرنا من أنبل مواقف الأزهر وأعظمها فى الدفاع عن الإسلام؛ فإن الشريعة الإسلامية هى كل ما جاء به النبى أو تكاد، فإذا بُوعِد بين الشريعة وبين العمل بها تضعضعت دعائمها وانحلت عراها، وكانت دعوى التدين بها دعوى لا يقام لها وزن ولا تحمى ما وراءها" انتهى صدر مقال الأستاذ المفضال، وهو كلام مجيد حقًا.
ولقد كتبت جريدة الإخوان حين الاحتفال ما رأت من واجبها أن تنادى به إذ ذاك من وجوب الرجوع إلى شريعة الله، وفى اليوم الذى نسمع عالمًا رسميًا جليلًا كالأستاذ الشيخ عبد ربه يدعو بهذه الدعوة فى جلاء ووضوح نتفاءل خيرًا كثيرًا، وفى الوقت الذى ينادى فيه الأزهر الرسمى حقًا بأنه لا تعترف فى قضاء هذه الأمة بسوى الشريعة الإسلامية والقضاء الإسلامى نعتقد أن هذا النداء الكريم لابد أن يترك أثره وأن يعود بهذه الأمة إلى الخير، فالأزهر لباب الأمة ومطمح أنظارها فى مثل هذه الشئون، فهل ستكون هذه إحدى حسنات شيخ الأزهر يا ترى؟ ذلك ما نكله للمستقبل يكشف عنه ولغيرة فضيلة الأستاذ الأكبر ودينه وحكمته ليقضى الله أمرًا كان مفعولًا.
وعلى كل حال فكلمة الأستاذ الشيخ عبد ربه أحيت فى النفس أملًا، وأعادت إليها ذكرى، وجعلتنا نتساءل: هل سيأتى اليوم الذى تحل فيه الشريعة الإسلامية محل هذه القوانين الوضعية؟
وهل يكون هذا اليوم قريبًا؟ نسأل الله.
-----
المصدر: جريدة الإخوان المسلمين الأسبوعية، العدد (8)، السنة الثالثة، 4ربيع الأول 1354ه/ 4يونيو 1935م