بسم الله، والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد..
في هذه الذكرى العطرة التي تذكرنا بمجتمع وقيادة ورجال.. تذكرنا بمجتمع فيه خمر وميسر وربا وعبادة الأصنام والأوثان.. فيه تقدير للغني وتحقير للفقير.. فيه دولتان عُظمتان فرس وروم، ضرب في أطناب هذا المجتمع فسادٌ ما بعده فساد، وشاء الله- سبحانه وتعالى- أن يبعث محمدًا- صلى الله عليه وسلم- في هذا المجتمع.. المجتمع الذي في شرقه وغربه ومن أعلاه ومن أسفله فساد.

وجاء الرسول- صلى الله عليه وسلم- ليخرج هؤلاء القوم من الظلمات إلى النور، وأصبحوا خير أمة أخرجت للنَّاس بهذا الكتاب، الذي أنزل على محمد- صلى الله عليه وسلم.

والمتأمل يجد أن المولى- سبحانه وتعالى- اختار رسول الله- صلى الله عليه وسلم- من خير الأنساب والأحساب، ومن خير البيوت، وأول ما امتاز به رسول الله- صلى الله عليه وسلم- صفتان معروفتان: صدق وأمانة.. هذا الذي امتاز به رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وكانت البداية خلقًا فيه كمال الإنسان ليكون القدوة والأسوة بحق، فصنع المولى- سبحانه وتعالى- في هذا المجتمع الفاسد قيادةً تحلت قبل كل شيء بالأخلاق.. بحسن الصلة بالله تبارك وتعالى.. بالعبادة له والقربى إليه؛ فكان- صلى الله عليه وسلم- كما أمره ربه في البداية ﴿قُمِ اللَّيْلَ إِلاَّ قَلِيلاً* نِصْفَهُ أَوِ انقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً* أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاًً﴾ (المزمل:4،3،2) فقام الليل.

فبعد أن علمه المولى- سبحانه وتعالى- من علمه ما علمه حين قال له اقرأ، كأن هذا المنهاج يحتاج إلى زاد فكان قيام الليل، وما بدأت الحركة إلا بعد أن تحلى النبي- صلى الله عليه وسلم- بخلق كريم وعلم ربانيٍّ بنَّاء لشخصية ستكون قدوةً للناس جميعًا ثم بدأت الحركة كما نعلم.. ﴿يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ* قُمْ فَأَنْذِرْ﴾ (المدثر: 1، 2) فالحركة أتت بعد هذه التربية الربانية، بعد هذه الأخلاق الفاضلة ثم كان الرجال كما نعلم.. هؤلاء الذين وصفهم المولى- سبحانه وتعالى-: ﴿مُحَمَّدٌ رَّسُولُ اللهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا﴾ (الفتح: 29).

وصدق الإمام البنا حين بلور هذ المعاني في كلمات هي قريبةٌ إلى قلبي وأحبُّ أن أرددها دائمًا؛ لأنها تحمل المنهاج: "كونوا عبَّادًا قبل أن تكونوا قوادًا تصل بكم العبادة إلى أحسن قيادة"، وبفضل الله- سبحانه وتعالى- أننا رأينا في زماننا هذا أثر هذا المنهاج.. انظروا إلى رجال فلسطين.. انظروا إلى هؤلاء الرجال.. لا والله والنساء والأطفال.. أثر هذا المنهاج في صناعة الرجال.. هؤلاء الرجال الذين رفعوا أعناقنا، وثبَّتوا- بفضل الله ثم بحركتهم- أقدامنا، والأمل كبير طالما أنه وجد الرجال فالمولى- سبحانه وتعالى- يحقق وعده.. ﴿وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لاَ يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا﴾ (النور: 55).

ماذا اقول عن هؤلاء الرجال في هذه الذكرى الطيبة التي تذكِّرنا بتربية رسول الله- صلى الله عليه وسلم- لأصحابه البررة الكرام، الذين نرى هذه الصفات في هؤلاء الرجال لا والله وليسوا برجال..

قد سمعت- والدموع تنزل من عيني- لزوجة أخي عبد العزيز الرنتيسي وهي تتكلم.. لقد شدَّتني شدًّا.. صورة من الإيمان القوي، والثبات على الطريق، والفهم العميق، والحب للدعوة، وتربية الأبناء على هذه المعاني.. ما لطمت خدًّا ولا شقَّت جيبًا، لكنها استرجعت ثم واصلت الطريق سيرًا فيه.

إنها بشرى والله نراها في ذكرى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- ونحن نرى هذا الصنف الذي- بفضل الله سبحانه وتعالى وبإذنه- سيُجري النصر على يديه.. في فلسطين في أفغانستان في العراق في كل بقعة تجاهد في سبيل الله.. حين يوجد الرجال فلا تسأل عن النصر؛ لأنك لست في حاجة إلى السؤال؛ لأنه يقين سيكون يقينًا.. إنه ملازم لهؤلاء؛ ولذلك المولى- سبحانه وتعالى- يقول للقاعدين ويقول للمثبِّطين ويقول لمن أحب هذه الدنيا: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَن يَّرْتَدَّ مِنْكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ﴾ ثم يقول: ﴿ذَلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ وَاللهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ﴾ (المائدة: 54).

إن البشرى أمامنا.. الناس يرون سواد الليالي، وينسَون أنه كلما اشتد الظلام بدأ انبثاق الفجر.. سيطلع علينا الفجر الذي يبدد الظلمات ويمكِّن لدين الله- سبحانه وتعالى- طالما أننا رأينا هذه العصبة، ورأينا هؤلاء الرجال، ورأينا هذه البيوتات المسلمة.. رأينا شبابًا سجَّدًا ركَّعًا.. وانتشر هذا الخير في مشارق الأرض ومغاربها، والله إنها لقربى وإنه لنصر قريب، تسألون متى هو؟! أقول: ﴿عَسَى أَن يَكُونَ قَرِيبًا﴾ (الإسراء: 51) ﴿وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ* بِنَصْرِ اللهِ يَنصُرُ مَن يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ* وَعْدَ اللهِ لاَ يُخْلِفُ اللهُ وَعْدَهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ﴾ (الروم: 6،5،4).. كل عام وأنتم بخير يا مسلمون، يا من تنتظرون نصر الله وإنه لقريب.
------
من تراث عضو مكتب الإرشاد أ. جمعة أمين