يعد الإمام البنا رحمه الله عليه من رجال الفكر والإصلاح القلائل الذين أشاعوا ثقافة الأخوة والوفاق وفقه الاختلاف وأدبه، فقد أدرك رحمه الله ضرورة اجتماع الكلمة بين الجماعات الدينية، وحرص على توحيد صف العاملين للإسلام في مرحلة أصيب الناس فيها بالفرقة والاختلاف في شتى المجالات، وفي سائر أوطان العرب والإسلام، إن كان ذلك في المجال السياسي، لاسيما بعد سقوط الخلافة وتعدد الرايات التي ارتفعت بعدها، أو في المجال الفكري حيث ظهرت حركت "التغريب" التي تدعو لإتباع الحضارة الغربية في خيرها وشرها وحلوها ومرها، أو في المجال الديني حيث برزت عدة تيارات وجبهات دينية: مثل جبهة الأزهر، وجبهة الصوفية، وجبهة الجماعات الإسلامية المنقسمة فيما بينها كذالك: الجمعية الشرعية وجمعية أنصار السنة وجمعية الشبان المسلمين وشباب سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وغيرها".
ومنذ بدأ الإمام البنا دعوته في الإسماعيلية، وجد الخلاف مستعرًا بين الجماعات الدينية، وخصوصًا بين معسكر السلفيين ومسكر الصوفيين، وقد انتقل هذا الخلاف إلى المساجد، وانقسم معه المصلون إلى فريقين، يجرح بعضهم بعضا، ولا يقبل الصلاة خلفه، وتراشقوا التهم إلى حد التكفير، مما جعل الشهيد البنا يدع المساجد بخلافاتها الحادة، ويولي وجهه شطر التجمعات الأخرى، البريئة من هذه العقد، وإن كان ينقصها الالتزام الديني، وذلك في الأندية والمقاهي ونحوها.
لقد كان الإمام حكيمًا غاية الحكمة في معالجة أمور الخلاف فكرية أو دينية. فهو لا يرفض كل ما يقوله أصحاب الأفكار الوضعية من قومية ووطنية، بل يقسمها ويصنفها، ثم يقبل منها ويرفض على أساس معياري قويم مستمد من الإسلام نفسه "... (انظر: الصحوة الإسلامية بين الاختلاف المشروع والتفرق المذموم – القرضاوي ص 155)
وقد بين رحمه الله هذا كله في رسالة "دعوتنا" حيث يقول: "اعلم – فقهك الله – أولًا: أن دعوة الإخوان المسلمين دعوة عامة لا تنتسب إلى طائفة خاصة ولا تنحاز إلى رأي عرف عند الناس بلون خاص ومستلزمات وتوابع خاصة، وهي تتوجه إلى صميم الدين ولبه، وتود أن تتوحد وجهة الأنظار والهمم حتى يكون العمل أجدى والإنتاج أعظم وأكبر، فدعوة الإخوان دعوة بيضاء نقية غير ملونة بلون، وهي مع الحق أينما كان، تحب الإجماع، وتكره الشذوذ وإن أعظم ما مُنى به المسلمون الفرقة والخلاف، وأساس ما انتصروا به الحب والوحدة. ولن يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها، هذه قاعدة أساسية وهدف معلوم لكل أخ مسلم، وعقيدة راسخة في نفوسنا، نصدر عنها وندعو إليها ".
وهو رحمه الله يلتمس العذر للمخالفين "ونرى أن هذا الخلاف لا يكون أبدًا حائلًا دون ارتباط القلوب وتبادل الحب والتعاون على الخير، وأن يشملنا وإياهم معنى الإسلام السابغ بأفضل حدوده وأوسع مشتملاته، ألسنا مسلمين وهم كذلك ؟ وألسنا نحب أن ننزل على حكم اطمئنان نفوسنا وهم يحبون ذلك؟ وألسنا نحب لإخواننا ما نحب لأنفسنا ؟ ففيم الخلاف إذن ولماذا يكون رأينا مجالًا للنظر عندهم كرأيهم عندنا ؟ ولماذا لا نتفاهم في جو الصفاء والحب إذا كان هناك ما يدعو للتفاهم"، (انظر: الرسائل ص 127-128).
وهكذا فالإمام البنا يقوم فكره على الإخلاص لكل الهيئات والتقريب بينها والتعاون معها بكل الوسائل حيث يعتبر الحب بين المسلمين هو أصلح أساس لإيقاظهم، وكان رحمه الله يردد دائمًا "سنقاتل الناس بالحب" ولا غرو في ذلك إذ رأيناه ينتسب لجمعية الشبان المسلمين ويلقي المحاضرات لأعضائها.
وقد أراد رحمه الله لجماعته ومدرسته الدعوية أن تكون القاسم المشترك بين المسلمين، وأن تكون الإطار الذي يضم عامة المسلمين، لذلك وضع رحمه الله كل الأسس النظرية والعملية لذلك بحيث إن الناظر لا يستطيع أن يوجد صيغة أكمل من هذه الصيغة للقاء إسلامي صاف. ولهذا الغرض وضع رحمه الله "الأصول العشرين" في الفهم كقاسم مشترك يمكن أن يلتقي عليه المسلمون من ناحية الفهم للإسلام. "ومن قرأ هذه الأصول وتدبرها حق التدبر، وكان له اطلاع على مصادر العلم والمعرفة الإسلامية أيقن أنها تمثل خلاصة مركًّزة لقراءات طويلة، ودراسات عميقة في علوم القرآن والسنة، والأصوليين: أصول الفقه وأصول الدين، والفقه والتصوف، مع عقلية هاضمة مستوعبة، قادرة على التأصيل والترجيح"، (القرضاوي: شمول الإسلام ص 9)
وقد خاطب رحمه الله بهذه الأصول صنفين من الناس: الأول: الإخوان العاملين أو المجاهدين من "جماعة الإخوان المسلمين" حيث ضمت الجماعة في صفوفها ألوانًا مختلفة من الناس، منهم السلفي، ومنهم الصوفي، ومنهم المذهبي، ومنهم اللامذهبي.. أما الصنف الثاني: الذين خاطبتهم هذه الأصول فيتمثل في الجماعات والفئات الدينية المختلفة العاملة على الساحة المصرية آنذاك والتي كان يحكم العلاقة بينها منطق التجريح والتفسيق والتكفير فكانت الأصول العشرين مساهمة منه رحمه الله في توحيد الجبهة الداخلية الإسلامية، جبهة الداعين إلى الإسلام، والرافعين لشعاراته المتنوعة والعمل على تضيق دائرة الخلافات الدينية والفكرية بينهم وجمعهم على الحد الأدنى من الأصول والمفاهيم التي توحِّد ولا تفرق وتقرب ولا تباعد، وحين أنشئ اتحاد للجماعات الإسلامية في مصر أو أريد إنشاؤه تقدم الشهيد البنا بهذه الأصول المركًّزة لتكون محورًا تلتقي عليه هذه الجماعات المختلفة.
وهكذا فإن هذه الأصول التي صيغت بحكمة واعتدال يمكن أن تكون قاسمًا مشتركًا يلتقي عليه العقلاء من أتباع هذه المدارس وذلك إذا توافر القدر الضروري من الفهم والإخلاص والتسامح والحب.
ومما لاشك فيه أن الأمة في هذه الأيام أحوج من أي وقت مضى لوحدة الكلمة، فالوحدة والإخاء والتناصر بين المسلمين إنما يكون عندما يشكل المسلمون جسدًا واحدًا. لذا فإن على أبناء مدرسة الإمام البنا أن يتفاعلوا مع هذه الثقافة بصورة أكبر وأن يمارسوها تطبيقًا عمليًا في الواقع وذلك من خلال الانفتاح على الآخرين والخروج من دائرة الحزبية الضيقة إلى عالم الدعوة ونشر الحب والرحمة بين الناس، كل الناس، وتأييد ونصرة أي جهد إسلامي مهما كان صاحبه مادام يريد أن يخدم قضية الإسلام وأهله. وهذا كله يحتاج إلى الإخلاص والتجرد والتعالي على الأهواء والأغراض الشخصية.
---
نقلا عن موقع "إخوان ويكي"