﴿وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾ إنه وعدٌ من الله قاطع، وحكمٌ من الله جامع، متى استقرت حقيقة الإيمان في نفوس المؤمنين، وتمثلت في واقع حياتهم منهجا للحياة ونظاما للحكم، وتجردا لله في كل خاطرة وحركة وعبادة لله في الصغيرة والكبيرة، فلن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا. وهي دعوة لاستكمال حقيقة الإيمان في قلوبنا تصورا وشعورا، وفي حياتنا واقعا وعملا، وألا يكون اعتمادنا كله على عنوانها، فالنصر للحقيقة وليس بيننا وبين النصر في أي زمان وفي أي مكانٍ إلا أنْ نستكمل حقيقة الإيمان، ونستكمل مقتضيات هذه الحقيقة في حياتنا وواقعنا كذلك، ومن حقيقة الإيمان أنْ نأخذ العدة ونستكمل القوة، ومن حقيقة الإيمان ألا نركن إلى الأعداء، وألا نطلب العزة إلا من الله.

وفي قصة موسى عليه السلام ﴿قُلْنَا لَا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلَى﴾ (طه:68)، لا تخف إنَّك أنت الأعلى؛ فمعك الحق ومعهم الباطل، معك العقيدة ومعهم الخرافة، معك الإيمان بصدق ما أنت عليه، ومعهم الأجر على المباراة ومغانم الحياة، أنت متصل بالقوة الكبرى وهم يخدمون مخلوقا بشريا فانيا مهما يكن طاغية جبارا، لا تخف إنك أنت الأعلى. والمسلمون بعد أحد ظنوا أنَ النصر لم يعد يعرف طريقا إليهم، فبيّن لهم سبحانه أن النصر والهزيمة يخضعان لنواميس لا تتحول، وقوانين لا تتخلف، وسنن لا تتبدل؛ ﴿وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا﴾ (الفتح :23)، ﴿قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ﴾ (آل عمران:137) ومنها ألا يستسلموا للضعف والهزيمة، ولا ييسوا من نصر الله، بل عليهم أنْ يواجِهوا الموقف بقوة وصلابة ورباطة جأش؛ وذلك لأن مكانتهم في الدنيا والآخرة أسمى وأرفع وأعلى، ويتعلموا أن قوانين الله في خلقه جارية لا تتخلف، وباقية لا تتبدل، وأن الأمور لا تمضي جزافا، وإنما تتبع قوانين محددة، وسننا ثابتة، فإذا هم درسوها، وأدركوا معانيها، وأخذوا بأسبابها، وعملوا بمقتضاها، كان النصر حليفَهم، والتوفيق قائدهم، والعزة طريقهم، وأن من أهم تلك السنن أن النصر دائما إنما يكون حليفا لمن يقِيم شرع الله، ويعمل على هدي رسول الله. كيف لا؟ وكلمة الله دائما هي العليا ومنهج الله هو الأحسن؛ وأفضل عمل على الإطلاق هو إنارة القلوب بنور الدعوة، وأحسن العاملين هم القائمون بالدعوة مقام المرسلين والله يقول لهم عبر نبيهم: ﴿لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلَادِ. مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ﴾ كيف لا والله تعالى يرد على موسى عليه السلام يطمئنه عند القلق، ويثبته عند اللقاء، ويؤمّنه عند الخوف﴿فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى. قُلْنَا لَا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلَى﴾.

﴿وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾ عقيدتكم أعلى ومنهجكم أعلى؛ فأنتم تسِيرون على منهج من صنع الله، ودوركم أعلى؛ فأنتم الأوصياء على هذه البشرية كلها والهداة لهذه البشرية كلها، ومكانكم في الأرض أعلى؛ فلكم وراثة الأرض التي وعدكم الله بها، وهم مصيرهم إلى الفناء والنسيان، إنما هي سنة الله أن تصابوا وتصيبوا على أن تكون لكم العقبى بعد الجهاد والابتلاء والتمحيص، إنما هي سنة الله في المدافعة بين الكفر والإيمان، والحق والباطل، وأن العاقبة للمتقين، والخزي والسوء لاحق بالكافرين، وإن كان ظاهر الأمر يدل على خلاف ذلك فإنما هو من باب الاستدراج للكافرين، والابتلاء للمؤمنين، فإن للباطل جولة، ثم لا يلبث أن يندحِر، وسرعان ما يندثر، ويبوء بالفشل والخذلان، وهذا ما تؤكده وقائع التاريخ الماضي والحديث.

معركتنا معركة إرادة:
قال تعالى: ﴿الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ * الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ * فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ * إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾.

جرح وقرح، تبعه صمود ونهوض، بدل الهزيمة نصرًا. هذه قصة المسلمين مع الإرادة تلك القوة الكامنة في داخل ذواتنا مصدرها الرغبة في التغيير للأفضل وتحقيق ما نطمح له ومبعث الراحة التي تزيل السلبيات في حياتنا. وهي تبعث على التحرك والعمل حيث تكون هي الشرارة الأولى بعد وجود الفكرة الأساسية.

"وقوة الإرادة" تهيّئ القلب والعقل بشدة وعزم لإحداث الفعل أو تركه، ولا شك أن الإرادة القوية والعزيمة الماضية من العوامل الحاسمة في أي معركة، خاصة تلك المعارك التي لا يستطيع أحد طرفيها أن ينتصر على الآخر من أول جولة، أو يحسم الصراع فيها بالضربة القاضية، وهذا النوع من المعارك يحتاج إلى النفس الطويل، والصبر الجميل، والإرادة الصلبة، والمعركة بين الحق والباطل من هذا النوع؛ فهو صراع ممتد بطول الزمان وعرض المكان، والصراع بين المشروع الإسلامي والمشروع الصهيوأمريكي من هذا النوع كذلك، ومعركتنا الحالية مع الانقلاب المجرم حلقة من حلقاته، وهي معركة وجود ومصير، والنجاح للأطول نَفَسًا، والأصلب عودًا، والأمضي عزمًا، والأقوى إرادة.

يقول الإمام الشهيد حسن البنا رحمه الله "إن تكوين الأمم، وتربية الشعوب، وتحقيق الآمال، ومناصرة المبادئ: تحتاج من الأمة التي تحاول هذا أو الفئة التي تدعو إليه على الأقل، إلى قوة نفسية عظيمة تتمثل في عدة أمور: إرادة قوية لا يتطرق إليها ضعف، ووفاء ثابت لا يعدو عليه تلون ولا غدر، وتضحية عزيزة لا يحول دونها طمع ولا بخل، ومعرفة بالمبدأ وإيمان به وتقدير له يعصم من الخطأ فيه والانحراف عنه والمساومة عليه، والخديعة بغيره"، ولا شك أن انكسار الإرادة وضعف العزيمة وسقوط الهمة وفقدان الأمل أبرز عوامل الهزيمة، ولذلك يحاول الانقلابيون كسر إرادتنا عبر ممارسات وحشية مقصودة من اعتقالات أو سجن أو ترويع أو قتل أو تضيق ؛ لبناء جدار الخوف، وخنق الأمل، ودفعنا إلى التسليم، ولكن هيهات أن يبلغ المجرمون مرادهم، من شباب وكهول شعارهم "الموت في سبيل الله أسمى أمانينا" ونشيدهم: "في سبيل الله ما أحلى المنون"، وحداؤهم:  إذا الشعب يومًا أراد الحياة  *****  فلابد أن يستجيب القدر، فلا بديل من الصمود في معركة الوجود التي تحدد مصير الوطن والأمة والمشروع الإسلامي كله.

الإرادة تهزم غرور القوة:
غرور القوة مكسور لا محالة أمام الإرادة القوية التي لا يتطرق إليها ضعف ولا يصيبها وهن، وأمام العزيمة الماضية التي لا يشوبها اضطراب ولا تردد، وأمام الثبات والصمود، وفي التاريخ الإنساني والإسلامي أمثلة فوق الحصر على انكسار القوة الغاشمة المغرورة أمام الإرادة الصلبة القوية المتمسكة بمبادئها وأهدافها وحقوقها.

وفي كفاح الشعوب المستعمَرة أمثلة مضيئة، فقد انكسرت قوة استعمار بريطانيا العظمى أمام الهند المستعمرة وكانت تجبر الهند على زراعة المخدرات وتجبر الصين على استهلاكها، ولكن بريطانيا انكسرت أمام إرادة الشعب الهندي الذي قاده غاندي، وقد انكسرت آلة الدمار الأمريكية في فيتنام أمام إرادة المقاومة الفيتنامية وإرادة الشعب الفيتنامي، وكذلك انكسرت القوة العسكرية المغرورة الإيطالية في ليبيا أمام إرادة الشعب الليبي المسلم.. وما أجمل كلمات عمر المختار في ذلك وهو يقول: "الإرادة هي ما يدفعك للخطوة الأولى على طريق الكفاح، أما العزيمة فهي ما يُبقيك على هذا الطريق حتى النهاية، كل الشدائد والعقبات التي واجهتها في حياتي زادت من عزيمتي، قد لا تدرك هذا وقتما تلاقيك المحنة، ولكن ركلة على أسنانك قد تكون أفضل ما يحصل لك في العالم".

الإرادة أخذ بقانون السببية:
يقول الله تعالى عن طلاب الآخرة وعشاق الجنة: ﴿وَمَنْ أَرَادَ الْآَخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا﴾ (الإسراء:19)، ويقول عن المنافقين المخذلين: ﴿وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً﴾ (التوبة: من الآية 46)، فالإرادة لا بد أن تقترن باستفراغ الوسع والطاقة، والأخذ بالأسباب، والإعداد لكل أمر عدته التي لا يمكن تحقيقه بدونها وإلا أصبح الأمر دعوى فارغة وأوهام وظنون ﴿إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا﴾ (النجم: من الآية28)، ويقول ديل كارينجي: "الفارق بين المستحيل والممكن يتوقف على عزيمة المرء وإصراره".

الصمود يستنهض القعود:
صمود القادة في مواطن الشدة يثبّت الخائف، ويقوّي الضعيف، ويشجع المتردد، ويجمع الشتات، ويمنع الاضطراب، ويستنهض الهمم، ويعيد النظام، ويبعث الأمل، ويجدد العزم، ويضرب القدوة والمثل، وقد استنهض رسول الله صلى الله عليه وسلم بصموده وثباته يوم حنين همم أصحابه الذين انفرط عقدهم وخارت قوتهم ﴿وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ﴾ (التوبة: من الآية25).

وصمود الرئيس الشرعي الدكتور محمد مرسي عليه رحمة الله في وجه العسكر وتهديداتهم حتى لقي الله، وكذلك صمود قادة الإخوان وشبابهم ورموز الثورة كان من أبرز أسباب استمرارنا وصمودنا، وهؤلاء استمدوا صمودهم من صمودنا واستمرارنا صمودًا جديدًا وعزمًا حديدًا، وبأسًا شديدًا؛ فالصمود يولد صمودًا، والضعف والتراخي والوهن يميت الحق ويطوح بأهله إلى وادي النسيان.

من ينتصر في معركة الإرادة؟
الإرادة والعزيمة عمل قلبي وباعث داخلي، وإذا فقد القلب عزمه خارت قوى الجسد مهما كان قويا، وقد تكون قوة الأعضاء متواضعة، ولكن تقويها عزيمة القلب، وتصلبها إرادته، ويدعمها طموحه. والأقرب إلى النصر في معركة الإرادة والصمود هو الأقرب إلى الله لأنه يستمد العون من الله ويربط الإرادة والصمود والعزيمة بالتوكل عليه ﴿فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ﴾ (آل عمران: 159). يقول الإمام البنا رحمه الله "يظن كثير من الناس أن الشرق تعوزه القوة المادية من المال والعتاد وآلات الحرب والكفاح لينهض ويسابق الأمم التي سُلبت حقه وهضمت أهله، ذلك صحيح ومهم، ولكن أهم منه وألزم: القوة الروحية من الخلق الفاضل والنفس النبيلة والإيمان ومعرفتها والإرادة الماضية، والتضحية في سبيل الواجب والوفاء الذي تنبني عليه الثقة والوحدة، وعنهما تكون القوة. لو آمن الشرق بحقه وغيّر من نفسه واعتنى بقوة الروح وعُني بتقويم الأخلاق، لأتته وسائل القوة المادية من كل جانب وعند صحائف التاريخ الخبر اليقين".

والأقرب إلى النصر في معركة الإرادة والصمود هو الأطول نَفَسًا والأكثر تحملًا. والأقرب إلى النصر في معركة الإرادة والصمود هو الأمضي عزيمة. ورسولنا يقول لزيد يوم الطائف: "يَا زَيْدُ إِنَّ اللَّهَ جَاعِلٌ لِمَا تَرَى فَرَجًا وَمَخْرَجًا، وَإِنَّ اللَّهَ نَاصِرٌ دِينَهُ وَمُظْهِرٌ نَبِيَّهُ" وفي الأثر: تفاءلوا بالخير تجدوه".

الإرادة والتدافع قانون الوجود:
التدافع بين الحق والباطل قديم قدم الوجود الإنساني وممتد حتى تطوى صفحة الحياة الدنيا ويقوم الناس لرب العالمين، التدافع يحمي الحق ويفجر الطاقات ويحفز الإبداع ويصقل التجربة ويحقق التطور والتنوع واطراد العمران.
حلقة من حلقات الصراع بين الحق والباطل، والحرية والعبودية، والعدل والظلم، وهي في الحقيقة معركة بين المشروع الإسلامي السني الوسطي المعتدل المقاوم للتبعية والخضوع برصيده الإنساني والحضاري، وبين المشروع الصهيوأمريكي المادي المتطرف برصيده من الصلف وغرور القوة والرغبة في التوسع والهيمنة والاستغلال والاستحواذ والسلب والنهب. وقد استيقظت شعوبنا العربية والإسلامية وستفرض إرادتها على الجميع بإذن الله تعالى، فهو سبحانه القائل: ﴿ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أن الأرض يرثها عبادي الصالحون إن في هذا لبلاغًا لقوم عابدين﴾.

اللهم اجعلنا من جند الحق، وأتباع الرسل، وأنصار الله، اللهم ارزقنا الإخلاص في القول والعمل، ولا تجعَل الدنيا أكبَر همنا ولا مبلغ علمنا، وصل اللهم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلِّم، والله أكبر ولله الحمد.