أيها الإخوان الأباة : تذكروا أن سنة الله جارية على خلقه ، يجمع للناس بين الخير والشر ابتلاءً منه وامتحانًا، ﴿وَنَبْلُوكُم بِٱلشَّرّ وَٱلْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ) (الأنبياء:35)، فلا يخلو المرء من كوارث تصيبه ونوازل تحل بساحته في نفسه أو ولده وأهله.ويعظم البلاء ويشتد في حياة الدعاة والمصلحين الذين يدعون إلى الله، ويعملون على تحكيم شريعته، ويجاهدون لإعلاء كلمته، فينقم عليهم أهل الأهواء ويعاديهم أنصار الباطل ويحاربهم المستبدون ولكن اعلموا أن البلايا والمحن تكشف عما في القلوب وتظهر مكنونات الصدور، ينتفي بها الزيف والرياء، وتنكشف الحقيقة بكل جلاء، تطهير لا يبقى معه زيف ولا دخل، وتصحيح لا يبقى فيه غش ولا خلل. وهو تمحيص وتطهير للمؤمنين: ﴿وَلِيُمَحّصَ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ وَيَمْحَقَ ٱلْكَـٰفِرِينَ * أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ ٱلْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ جَـٰهَدُواْ مِنكُمْ وَيَعْلَمَ ٱلصَّـٰبِرِينَ (آل عمران:141- 142)، ويقول تعالى: ﴿وَلِيَبْتَلِىَ ٱللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَٱللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ ٱلصُّدُورِ (آل عمران:154)، ولقد سئل المصطفى: أيّ الناس أشد بلاءً؟! فقال: "الأنبياء، ثم الأمثل فالأمثل، يبتلى الرجل على حسب دينه، فإن كان دينه صلبًا اشتد بلاؤه، وإن كان في دينه رقة ابتلاه الله حسب دينه، فما يبرح البلاء بالعبد حتى يمشي على الأرض وما عليه من خطيئة". (رواه الإمام أحمد والترمذي).إن البلاء إذا أصاب المؤمنين في ذات الله فصبرت وصابرت ابتغاء مرضاة الله، تخرج من البلاء كالذهب الخالص بريقًا ولمعانًا و دام لها العزة والكرامة.

أيها الجبال الشم  الرواسي : تذاكروا علماء هذه الأمة و نبهائها الشم الرواسي و الذين ضربوا أروع الأمثلة في الصبر والتضحية استجابة لربهم و لأداء رسالته و تليغ دعوته ، ولم يزدهم كيد الكائدين وتدبير الخائنين إلا قوة وثباتا، ولم يثنهم عن قول كلمة الحق لا ضرب السياط ولا إراقة الدماء، لأنهم على الحق فماذا بعد الحق إلا الضلال؟! وليكن للباطل سلطانه، وليكن له هيلمانه، ولتكن معه جموعه وجنوده، إن هذا لا يصد المؤمن ولا يغير من الحق شيئا.إنها المسة الإيمانية في قلب المتصل ببارئه، فإذا هو قوي قويم، وإذا بكل قوى الأرض ضئيلة أمامه، وكيف يخشى من قلبه متصل بالله؟! ويأمل في حياة الخلد عند مليك مقتدر، ﴿إِنَّمَا ذٰلِكُمُ ٱلشَّيْطَـٰنُ يُخَوّفُ أَوْلِيَاءهُ فَلاَ تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِن كُنتُمْ مُّؤْمِنِينَ (آل عمران:175). لسان حالهم ومقالهم: "ماذا يفعل أعدائي بي؟! أنا جنتي في صدري، أين اتجهت فهي معي، أنا سجني خلوة، وقتلي شهادة، وإخراجي من بلدي سياحة." إنها -والله- همم تتقاصر دونها همم ، ويعجز عن بلوغها من عمر قلبه بحب الدنيا والركون إليها.

نعم نرددها مع العالم الفقية المجاهد إبن تيمية "ما يفعل بنا أعدائنا، فسجنا خلوة ونفينا سياحة وقتلنا شهادة"، ابتلي ابن تيمية بمحن كثيرة لم تخل فترة حياته منها ولم يكد يخرج من واحدة ألا وابتلى بأُخرى وكذلك هي حياة الحر الذي عرف أهمية الكلمة ولم تثنه المخاوف والتهديدات عن الجهر بكلمة الحق وإعلاء منهج الله والتمسك بالصواب ودحض الكذب والباطل وبيان عواره وزيفه، وما ابتلي رحمه الله بمحنة إلا وخرج منها منتصراً ويصبح بسببها أكثر قبولا ومحبة أكثر مما كان من قبل ويتضح للناس به الحق فكان يرى .حريته الحقيقية على مستواها النفسي والفكري، ويرى نفسه في خلوة لا يمكن لها أن تقيد أو تكبح جماح أفكاره أو همته أو عمله أو تحقيق حلمه، ولو أمسكت بجسده وحبست جثمانه.

كان ابن تيمية فذا في كل شيء في الحفظ والعلم والمناظرة والتأليف والعبادة والعمل والجهاد. و كان عصره في سلسلة الحروب الصليبية ، شاهد الاحتراب الداخلي بين المماليك المسلمين، والتآمر مع الصليبيين وغيرهم من الغزاة. وعايش تراجع العلم و الاجتهاد بل توقفه وانتشار التقليد و الزيف و التحريف وعانى كغيره من الظلم والاستبداد، لكنه لم يكن يقبل الركون إلى الواقع، بل كان متحفزا عالما مجاهدا عاملا فكثر مناوئوه وتعدد خصومه و أقيمت له محاكمات عديدة و سجن سبع مرات لم يكن إلا بسبب آرائه الفقهية والعلمية كما انتدبه أهل الشام للتفاوض مع غازان سلطان التتار فأبى لما وجد منه الكذب و الخيانة و الزيف و التآمر على المسلمين و في آخر أيامه اعتقل ابن تيمية لمدة سنتين في قلعة دمشق، ومنعت عنه الزيارة وسحبت كتبه وأقلامه وترك وحيدا حتى مرض وتوفي وهو في السابعة والستين وكان يستغل فترات سجنه للتأليف والدرس، وألف أثناء سجنه رسالة في إصلاح السجون شرح فيها حقوق السجين وواجبات الدولة نحوه، والتفت ابن تيمية إلى المجتمع المسلم فواجه الشيعة والقدرية والجهمية والاتجاهات المختلفة . و  نذر وقته ونفسه وحياته كلها لله يجاهد في سبيل الله بالقول والقلم والنفس والمال، و كانت حياته كلها لله تعالى علماً وتعلماً وتعليماً وجهاداً ونشراً للحق والدفاع عنه ودحضاً للباطل وبياناً لعواره وزيفه. فلم يقف عاجزاً مكتوف اليدين، و حقا ولولا من يُقيضه الله لدفع الضرر بهؤلاء و ثباتهم و تضحياتهم  لفسد الدين، ولقد استغل فترة سجنه في التأليف والدرس و حرص على القيام بسد ثغرة لم يقم بها غيره في زمانه ، وأصبحت مقولته نبراساً لكل أسير حبس أو أُوذي دون كلمة الحق

و كان تلميذه ابن القيم رحمه الله - يقول: كنا إذا ضاقت بنا الدنيا وسبلها، ونحن طلقاء قمنا بزيارة إبن تيمية وهو مسجون في سجن القلعة في دمشق ، فوالله ما هو إلا أن نراه حتى يسرى ما بنا من هموم، وهو المسجون، لكنه مع الله، تجد المتروكين تأتي لهم الهموم، والذي مع الله وهو مسجون يعيش في آفاق واسعة من الراحة والأمن.فإذا سلمنا عليه قال لنا: المسجون من سجن عن خالقه، والمأسور من أسره هواه وشيطانه، ويقول: ماذا يفعلون بي؟ هل عندهم أعظم من هذا، إما أن يكون سجناً، أو ترحيلاً، أو قتلاً، وكلها أمنيات للمؤمنين.

أخي الحر الأبي تأسى بن تيمية :

ابحث عن السعادة  الحقة. انظر إلى من ضل وانكب على وجهه تجد أنك تمشي على صراط مستقيم . ﴿ وقليل من عبادي الشكور .وطمأنينة القلب هي من أعظم نعم الله على المؤمن، وذلك أن سكون النفس واستقرارها هو الدافع للخير والشعور بالغبطة والسعادة، وبقيمة الحياة وهدفها، والثقة بالله ووعده. ﴿الَّذِينَ آمَنُواْ وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللّهِ أَلاَ بِذِكْرِ اللّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ (الرعد:28). فدائماً أجعل لسانك رطباً بذكر الله , فهناك أذكار تجعلك سعيداً راضياً وأذكار تفتح لك ما بينك و بين الله, ودائماً التجأ إلى الله فلا منجأ ولا ملجأ إلا إليه فهو مفرج الكرب , وهو ميسرنا إما إلى طريق الفوز والنجاة وإما إلى طريق الخسارة والهلاك. و إنه لتمر علينا ساعات نقول فيها :" إن كان أهل الجنة في مثل ما نحن فيه إنهم لفي عيش رغيد ".و يرشدنا ابن القيم رحمه الله (في القلب شعث لا يلمه إلا الإقبال على الله ، وفيه وحشة لا يزيلها إلا الأنس بالله ، وفيه حزن لا يذهبه إلا السرور بمعرفته ، وصدق معاملته ، وفيه قلق لا يسكنه إلا الاجتماع عليه والفرار إليه ، وفيه نيران حسرات لا يطفئها إلا الرضا بأمره ونهيه وقضائه ومعانقة الصبر على ذلك إلى وقت لقائه ، وفيه فاقة لا يسدها إلا محبته والإنابة إليه ودوام ذكره وصدق الإخلاص له ، ولو أعطي الدنيا وما فيها لم تسد تلك الفاقة أبدا ) . فالسعادة لا يمكن أن تحصل إلا بالإيمان واليقين في المقام الأول . و هو السياج الذي يحمى المسلم من القلق والضياع. وهو الذي يدفعه إلى عمل الخير وتحقيق السلام والطمأنينة مع النفس ومع الناس، ومع جميع الكائنات. فلا يعرف الخوف والقلق، ولا يخشى الموت، ولا يخاف فوات الرزق؛ ولا يقنط ولا يأسى على ما فات, ولا يهتم بما هو آت، فهو في معية الله – تعالى - وفي كنفه ورعايته. . اللهم اجعلنا من السعداء في الدنيا والآخرة .لذلك بمقدورك أن تحوّل الحزن إلى فرح، والقلق إلى طمأنينة، والعسر إلى يسر، والمكروه إلى أمر محبوب وفيه الخير، وأن تحوّل طعم الليمونة الحامض إلى عسل وشهد، فقط إذا عزمت فتوكل على الله

تعلم فن الأنس بالله فهو شعور يمتزج بالهيبة والخشوع، يجد العبد سعادته في خلوته، وهناءه في وحدته، يناجي ربه . . يشكو همه إليه . . يشكره على نعمته . . يتغنى بالدعاء له والثناء عليه والتسبيح والتقديس له عز وجل، معتمداً على الله، ساكناً إليه ، مستعيناً به، وفى الأنس تبقى الهيبة مع الله ، وبذلك يكون الأنس طمأنينة ورضا بالله. ويذكرنا الأستاذ مصطفى مشهور فيقول كيف كان حالهم في محنتهم…."وكان الأخ يدخل في صلاة خاشعة وركوع وسجود طويلين يشعر خلالهما بقربه من الله فيدعو ويلح في الدعاء،كان يقوم في وقت السحر يناجي ربه في هدأة الليل ويطرق باب الكريم بركعات وسجدات ودمعات من خشيته سبحانه وهكذا يعيش جوا من السعادة الروحية ، والأنس بمعية الله وكأنه في الكون الفسيح وليس بين جدران أربعة وباب مغلق ، ويحكي أن السجان كان يرق له فكان ينتهز الفرصة فيفتح له الباب نصف فتحة يقول أن أنسه كان يقل ، ويشعر بوحشة عما كان الباب مغلقا ، و كان أحدهم يدعو فيقول (أستغفرك من كل لذة بغير ذكرك، ومن كل راحة بغير أنسك، ومن كل سرور بغير قربك، ومن كل شغل بغير طاعتك…).

أخي الحبيب اشتغل بالعلم و التعلم و أعد نفسك لمهام الغد و المستقبل و اجعل محبسك مسجدا أو مدرسة أو جامعة تخرج الأفذاذ و يختار من حولك الإقامة عندك و يكثر المترددين عليك واجعل لك تلاميذ أفذاذ يؤمنون بالفكرة و يشتغلون بالدعوة و يجاهدون في سبيل الله على بينة يفهمون شمول الإسلام و يخلصون لله و يشغلون أنفسهم بالدعوة و العمل إليه و يجاهدون في سبيل نشره و يضحون من أجله و يثبتون على طريق الحق و يتجردون له و يتحابون فيما بينهم و و يثقون بالله و منهجه و طريقه .و أخرج لنا مؤلفاتك العديدة و أبهر أعداؤك بصنيعك داخل سجنك وإليك أطرح سؤالا: تُرى لو أن شيخ الإسلام زاحم أرباب السياسات (بحزب) ونازعهم على دنياهم، وترك نشر العلم وتدريسه.. داخل السجن وخارجه، أَكان يكون شيخ الاسلام؟

وإليك تذكرتي أخي الحر الأبي : إنك وافد الناس، فلا تكن شؤما عليهم، وإنك رأس الناس اليوم، فإياك أن تجيب أعداءكأس الناس اليوم، فإياك أن تجيبهم إلى ما يدعونك إليه فتحمل وزرك و أوزار من تفتنهم  يوم القيامة، وإن كنت تحب الله فاصبر على ما أنت فيه، فإنه ما بينك وبين الجنة إلا أن تقتل، وإنك إن لم تقتل تمت، وإن عشت عشت حميدًا،.اللهم اجعلنا من أنصار دينك يا رب العلمين...اللهم ارزقنا الأنس بك و الحياء من و الطمأنية بذكر و حسن التوكل عليك و اليقين بك و الثقة فيك و الضراعة إليك و الخوف منك و الوقوف بباب و التمسك بحبلك و خذ بأيدينا و نواصينا إليك و ابسط علينا رحماتك و اشملنا بعفوك و ادخلنا في كنفك و أنزل علينا رحماتك و أفض علينا من بركاتك و اجعلنا من أهلك و خاصتك و اجعلنا في حرزك و احرسنا بعينك التي لا تنام و كن لنا جار عز جارك و جل ثناؤك و تقست أسماؤك