من فضل العلم: أنه يثمر اليقين، الذي به حياة القلب وطمأنينته، وبه مدح الله المتقين المهتدين بكتابه، حيث قال: {وَبِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ} (البقرة:4)، وهم الذين فصل الله لهم الآيات، سواء أكانت آيات تنزيلية مسطورة، أم آيات تكوينية منظورة، يقول تعالى: {قَدْ فَصَّلْنَا الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} (الأنعام:97)، {يُدَبِّرُ الأَمْرَ يُفَصِّلُ الآيَاتِ لَعَلَّكُم بِلِقَاء رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ} (الرعد:2)، {وَفِي خَلْقِكُمْ وَمَا يَبُثُّ مِن دَابَّةٍ آيَاتٌ لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ} (الجاثية:4).

أثنى الله على خليله إبراهيم بقوله: {وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ} (الأنعام:75)، وذم من لا يقين عنده بقوله: {أَنَّ النَّاسَ كَانُوا بِآيَاتِنَا لا يُوقِنُونَ} (النمل:82).

ولقد جعل القرآن اليقين أحد عنصرين يرتقي الإنسان بهما إلى الإمامة في الدين، كما قال تعالى: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ} (السجدة:24).

والإنسان إذا كان إيمانه ويقينه مزعزعا، ناوشته الشبهات من كل جانب، وعرضت له الشكوك عن يمين وشمال؛ وذلك لضعف علمه، وقلة بصيرته، فيغدو كالريشة في مهب الريح، لا تستقر على حال.

أما صاحب اليقين، فهو ـلرسوخه في علمه، وقوة إيمانه ـ كالطود الراسي، لا يتزعزع ولا يتزلزل، ولا تؤثر فيه رياح الشكوك والشبهات، بل هو لو وردت عليه من الشبه بعدد أمواج البحر ـ كما قال ابن القيم ـ ما أزالت يقينه، ولا قدحت فيه شكا، لأنه قد رسخ في العلم، فلا تستفزه الشبهات، بل إذا وردت عليه ردها حرس العلم وجيشه مغلولة مغلوبة.

وإنما سميت الشبهة شبهة، لاشتباه الحق بالباطل فيها، فإنها تلبس ثوب الحق على جسم الباطل، وأكثر الناس أصحاب حسن ظاهر، فينظر الناظر فيما ألبسته من اللباس، فيعتقد صحتها، وأما صاحب العلم واليقين فإنه لا يغتر بذلك، بل يجاوز نظره إلى باطنها، وما تحت لباسها، فينكشف له حقيقتها.

ومثال هذا: الدرهم الزائف، فإنه يغتر به الجاهل بالنقد، نظرا إلى ما عليه من لباس الفضة، والناقد البصير يجاوز نظره إلى ما وراء ذلك، فيطلع على زيفه، فاللفظ الحسن الفصيح هو للشبهة بمنزلة اللباس من الفضية على الدرهم الزائف، والمعنى كالنحاس الذي تحته.

وإذا تأمل العاقل الفطن هذا القدر وتدبره، رأى أكثر الناس يقبل المذهب والمقالة بلفظ، ويردها بعينها بلفظ آخر.. وكم رد من الحق بتشنيعه بلباس من اللفظ قبيح.

إن صاحب العلم واليقين، الذي رزقه الله البصيرة النافذة، والنور الكاشف، لا يلتبس عليه الحق بالباطل، ولا تروج عنده الشبهات، كما لا تغريه الشهوات، فهو مزود بسلاحين قويين يرد بهما جيوش الباطل، فهو يرد جيش الشهوات بسلاح الصبر، وجيش الشبهات بسلاح اليقين، كما قال تعالى: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ}.

قال ابن القيم: "واليقين والمحبة هما ركنا الإيمان، وعليهما ينبني، وبهما قوامه، وهما يمدان سائر الأعمال القلبية والبدنية، وعنهما تصدر، وبضعفهما يكون ضعف الأعمال، وبقوتهما قوتها، وجميع منازل السائرين، ومقامات العارفين، إنما تفتح بهما، وهما يثمران كل عمل صالح، وعلم نافع، وهدى مستقيم.

قال شيخ العارفين الجنيد: اليقين هو استقرار العلم الذي لا ينقلب ولا يتحول، ولا يتغير في القلب.

وقال سهل: حرام على قلب أن يشم رائحة اليقين، وفيه سكون إلى غير الله!

وقيل: من علاماته الالتفات إلى الله في كل نازلة، والرجوع إليه في كل أمر، والاستعانة به في كل حال، وإرادة وجهه بكل حركة وسكون.

وقيل: إذا استكمل العبد حقيقة اليقين صار البلاء عنده نعمة، والمحنة منحة، فالعلم أول درجات اليقين، ولهذا قيل: العلم يستحملك واليقين يحملك، فاليقين أفضل مواهب الرب لعبده، ولا تثبت قدم الرضا إلا على درجة اليقين".

واليقين إنما هو علم راسخ في القلب لا يعتريه شك ولا وهم، وهو قابل للزيادة والترقي في علم اليقين، إلى عين اليقين، ثم إلى حق اليقين.

فأنت إذا أخبرك جماعة من الثقات بأن صديقك رجع من سفره، وهو قادم إليك، فخبرهم هذا يورث عندك علم يقين بقدومه. فإذا كلمك بالهاتف (التليفون) وقال: أنا قادم إليك، فقد أصبح عندك عين اليقين، فإذا قدم عليك بالفعل، وتلاقت الوجوه وتصافحت الأيدي، فهذا هو حق اليقين.

ومن هنا وجدنا خليل الرحمن إبراهيم عليه السلام يسأل ربه أن يريه كيف يحيي الموتى، لينتقل من علم اليقين إلى عين اليقين، أو إلى حق اليقين: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن قَالَ بَلَى وَلَكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِّنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِّنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} (البقرة:260).

ولقد أسرى الله بعبده محمد صلى الله عليه وسلم من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى، ثم عرج به إلى السموات العلا، ليريه من آياته، ويشهده من ملكوته ما آمن به يقينا من طريق الوحي، فيزداد يقينا مع يقين، كما قال تعالى: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا} (الإسراء:1).

{مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى، أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى، وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى، عِندَ سِدْرَةِ الْمُنتَهَى، عِندَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى، إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى، مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى، لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى} (النجم:11-18) يؤكد ما ذكرناه: أن الله سبحانه وتعالى خلق الخلق لعبادته، الجامعة لمحبته، وإيثار مرضاته، المستلزمة لمعرفته، ونصب للعباد علما لا كمال لهم إلا به، وهو أن تكون حركاتهم كلها موافقة مرضاته ومحبته. ولذلك أرسل رسله، وأنزل كتبه، وشرع شرائعه، فكمال العبد ـ الذي لا كمال له إلا به ـ أن تكون حركاته موافقة لما يحبه الله منه ويرضاه له. ولهذا جعل اتباع رسوله دليلا على محبته. قال تعالى: {قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} (آل عمران:31).

فالمحب الصادق يرى خيانة منه لمحبوبه: أن يتحرك بحركة اختيارية في غير مرضاته، وإذا فعل فعلا مما أبيح له بموجب طبيعته وشهوته تاب منه، كما يتوب من الذنب، ولا يزال هذا الأمر يقوى عنده حتى تنقلب مباحاته كلها طاعات، فيحتسب نومه وفطره وراحته، كما يحتسب قومته وصومه واجتهاده. وهو دائما بين سراء يشكر الله عليها وضراء يصبر عليها، فهو سائر إلى الله دائما في نومه ويقظته.

قال بعض العلماء: الأكياس عاداتهم عبادات الحمقى، والحمقى عباداتهم عادات.

وقال بعض السلف: حبذا نوم الأكياس وفطرهم، يغبنون به سهر الحمقى وصومهم، فالمحب الصادق إن نطق لله وبالله، وإن سكت سكت لله، وإن تحرك فبأمر الله، وإن سكن فسكونه استعانة على مرضاة الله، فهو لله وبالله ومع الله.

ومعلوم أن صاحب هذا المقام أحوج خلق الله إلى العلم، فإنه لا تتميز له الحركة المحبوبة لله من غيرها، ولا السكون المحبب له من غيره، إلا بالعلم، فليست حاجته إلى العلم كحاجة من طلب العلم ذاته، ولأنه في نفسه صفة كمال، بل حاجته إليه كحاجته إلى ما به قوام نفسه وذاته.

ولهذا اشتدت وصاة شيوخ العارفين لمريديهم بالعلم وطلبه، وأنه من لم يطلب العلم لم يفلح. حتى كانوا يعدون من لا علم له من السفلة.

قال ذو النون، وقد سئل: من السفلة؟ فقال: من لا يعرف الطريق إلى الله تعالى ولا يتعرفه!

وقال أبو يزيد: لو نظرتم إلى الرجل، وقد أعطي من الكرامات حتى يتربع في الهواء، فلا تغتروا به، حتى تنظروا كيف تجدونه عند الأمر والنهي، وحفظ الحدود ومعرفة الشريعة.

وقال أبو حمزة البزاز: من علم طريق الحق سهل عليه سلوكه، ولا دليل على الطريق إلا متابعة الرسول في أقواله وأفعاله وأحواله.

وقال محمد بن الفضل الصوفي الزاهد: ذهاب الإسلام على أيدي أربعة أصناف من الناس: صنف لا يعملون بما يعلمون، وصنف يعملون بما لا يعلمون، وصنف لا يعملون ولا يعلمون، وصنف يمنعون الناس من التعلم.

قلت (القائل ابن القيم): الصنف الأول: من له علم بلا عمل، فهو أضر شيء على العامة، فإنه حجة لهم في كل نقيصة ومنحسة.

والصنف الثاني: العابد الجاهل، فإن الناس يحسنون الظن به لعبادته وصلاحه، فيتقدون به على جهله، وهذان الصنفان هما اللذان ذكرهما بعض السلف في قوله: احذروا فتنة العالم الفاجر، والعابد الجاهل، فإن فتنتهما فتنة لكل مفتون! فإن الناس إنما يقتدون بعلمائهم وعبادهم، فإذا كان العلماء فجرة، والعباد جهلة، عمت المصيبة بهما، وعظمت الفتنة على الخاصة والعامة.

والصنف الثالث: الذين لا علم لهم ولا عمل، وإنما هم كالأنعام السائمة.

والصنف الرابع: نواب إبليس في الأرض، وهم الذين يثبطون الناس عن طلب العلم والتفقه في الدين، فهؤلاء أضر عليهم من شياطين الجن، فإنهم يحولون بين القلوب وبين هدى الله وطريقه.

فهؤلاء الأربعة أصناف هم الذين ذكرهم هذا العارف رحمة الله عليه، وهؤلاء كلهم على شفا جرف هار، وعلى سبيل الهلكة، وما يلقى العالم الداعي إلى الله ورسوله ما يلقاه من الأذى والمحاربة إلا على أيديهم، والله يستعمل من يشاء في سخطه، كما يستعمل من يحب في مرضاته، إنه بعباده خبير بصير. ولا ينكشف سر هذه الطوائف وطريقتهم إلا بالعلم، فعاد الخير بحذافيره إلى العلم بموجبه، والشر بحذافيره إلى الجهل بموجبه".

 

..................

 

* من كتاب "الحياة الربانية والعلم" لفضيلة الشيخ.