سؤال يبدو وجيها بالنسبة للبعض، وقد لا يكون كذلك بالنسبة لبعض الأنظمة الدكتاتورية التي تعتقد أن بوسعها عبر سياسة الحديد والنار، والقبضة الأمنية الشرسة أن تحاصر المجتمع وتركّعه بالكامل.

الأنظمة لا تريد معارضة. هذه هي الحقيقة، والأيديولوجيا لا أهمية لها في السياق، فأنت عدو ما دمت تعارض وتنتقد. وأنت عدو ما دمت تطالب بتعددية حقيقية، ومشاركة شعبية في السلطة والثروة.

الأيديولوجيا ليست مهمة، إذ يمكن أن يكون المعارض المستهدف إسلاميا أو يساريا أو علمانيا. ويمكن أن يكون جزءا من حزب أو جماعة، أو مجرد فرد، أو حتى مجموعة نخب يوقّعون عريضة تطالب بالإصلاح. ألا يعرف أي مشتغل بالسياسة عشرات أو مئات ممن يقبعون في السجون راهنا، ممن لا ذنب لهم سوى توقيع عريضة تطالب بالإصلاح؟!

سنردد كلاما يشبه الشعر إذا قلنا إنه ليس بوسع الأنظمة سحق المعارضات؛ أيا تكون أيديولوجيتها، بما في ذلك الجماعات الإسلامية، مثل الإخوان على سبيل المثال. والسحق هنا هو الذي يحمل المعنى الأمني، بمعنى أن يكون بوسع هذا النظام أو ذاك، أو يزرع الخوف في المجتمع ويطارد الجماعة أو الحزب الذي نافسه على قلوب الناس، ويسحقه لسنوات، وربما لأكثر من ذلك. كما يشمل ذلك تحقيق الانتصار على مجموعة حملت السلاح ضده (ضد النظام).

هذا الأمر يعتمد على عوامل عديدة، وليس على مجرد قرار من قبل هذا النظام أو ذاك.

هناك تأتي فكرة ميزان القوى التي يفهمها البعض كما لو كانت متعلقة بالحروب وحدها، فيما هي تتعلق بكل الصراعات الإنسانية، ومن ضمنها الصراع السياسي؛ فضلا عن العسكري.

قدرة هذا النظام أو ذاك على سحق معارضته تعتمد على عوامل خارجية وداخلية، وما إذا كانت تلك العناصر تصبّ في صالحه أم في صالح خصومه.

السحق الأمني، أو ما دونه لا يعني نهاية الجماعات السياسية ذات الأيديولوجيا وسعة الانتشار والجذور الاجتماعية

النظام حين يكون شابا وقويا ومتماسكا على صعيد دولته العميقة، يختلف عن النظام الشائخ الذي تنخره الصراعات. والنظام حين يحظى بظهير إقليمي ودولي يختلف عما إذا لم يكن كذلك. والنظام حين تكون معارضته قوية جدا، يختلف عما إذا كانت معارضته ضعيفة أو عاجزة على صعيد الحشد وإدارة معركتها السياسية. والكلام فيه كثير من التفصيل.

النتيجة أن قدرة أي نظام على السحق الأمني لا تتعلق فقط بشعبية معارضته، بل بجملة عناصر أخرى، ومن ضمنها مجمل موازين القوى، وإدارة المعركة برمتها. ونتذكر هنا مثلا حالة الإسلاميين في الجزائر مطلع التسعينات، ثم تجربة الربيع العربي، بخاصة في مصر وسوريا، ثم الجولة الثانية منه في الجزائر والسودان.

غير أن السحق الأمني، أو ما دونه لا يعني نهاية الجماعات السياسية ذات الأيديولوجيا وسعة الانتشار والجذور الاجتماعية، والسبب أن قوة تلك الجماعات لا تقاس بعدد أفرادها، بل بظهيرها الشعبي، أو حاضنتها الشعبية، والدليل أنه ما إن تتغير الظروف أو يُسمح للناس بالتنفس والاختيار، حتى تتصدر تلك الجماعات الانتخابات.

بوسعنا أنت نتذكر مثلا حالة "النهضة" في تونس بعد الثورة، وهي التي كانت مسحوقة أمنيا قبل ذلك، ثم حالة إخوان مصر في أكثر من محطة.

أما الأهم، فيتمثل في أن محاولات بعض الأنظمة صناعة جماعات أو أحزاب تأخذ مكان الإسلاميين، قد باءت بالفشل، لأنها تمثيلية لا تنطلي على الناس. وحتى حين حدث ذلك بشكل عادي، لم تسجل تلك التيارات ذات الحضور الذي كان للإسلاميين، والسبب بالطبع هو وجود صحوة دينية، ولو كانت هناك ظروف مختلفة، وعبّرت تلك التيارات الجديدة عن ضمير الجماهير، فإن إمكانية تحقيقها لبعض النجاح واردة.

العام الماضي؛ قال قيادي فيما يعرف بـ"الحركة المدنية الديمقراطية" في مصر إن أحزاب وشخصيات الحركة فشلت تماما في ملء الفراغ السياسي والانتخابي الذي خلّفته جماعة الإخوان المسلمين بعد إقصائها من المشهد السياسي.

علقت على ذلك في حينه بتغريدة في "تويت"ر قائلا: "السياسة ليست سوقا للدجاج. تغيب شركة توريد، فتملأ الفراغ شركة أخرى".

وفي الأردن، حين أعطي ترخيص جماعة الإخوان لمجموعة خارجة عنها، كانت النتيجة هي عجز المجموعة الجديدة عن تحقيق حضور ذي قيمة، وبقيت الأصيلة هي الأكثر حضورا في مختلف الجولات الانتخابية الطلابية والنقابية والنيابية.

نفتح قوسا كي نشير إلى أنه يحدث أن تؤدي مطاردة جماعة سلمية، إلى حلول أخرى مكانها من ذات الأيديولوجيا، ولكن بعمل مسلح، ولكن النتيجة هي الوصول إلى طريق مسدود في أغلب الأحيان.

هكذا تحافظ الجماعات السياسية ذات الجذور الأيديولوجية على حضورها الشعبي، ما بقيت أفكارها سائدة، وما بقيت قضيتها الجوهرية حاضرة، حتى لو تم ضربها أمنيا، ما يعني أن هستيريا "الثورة المضادة" بمطاردة ما يسمى "الإسلام السياسي" ستنتهي إلى الخيبة، ليس فقط لأن جذوره حاضرة في وعي الناس ويمكن أن تتجدد وحسب، بل لأن المطالب التي عبّر عنها في الربيع العربي، ممثلة في الحرية والتعددية والعدالة الاجتماعية ورفض الفساد، مع نصرة قضايا الأمة الكبرى، ما زالت باقية، بل تزداد إلحاحا في ظل التراجعات الاقتصادية، بجانب الفشل الخارجي.