في أسبوع واحد شهدت مصر عدة كوارث وطنية؛ بدأت بجنوح إحدى السفن العملاقة في قناة السويس ما تسبب في تعطيل حركة الملاحة بالقناة، ثم تلاه حادث تصادم قطارين في محافظة سوهاج جنوب مصر راح ضحيته عديد الموتى والمصابين، ثم جاء انهيار أعمدة أحد الكباري في إحدى المناطق الشعبية، وكذا انهيار مبنى سكني من عشر طوابق في حي شعبي آخر، وحريق في محطة السكة الحديد بالزقازيق. وفي كل الحالات كان هناك ضحايا كثر.

ما كل هذا "النحس" الذي ضرب مصر خلال أسبوع واحد؟ ومن هو المتسبب في هذه الكوارث، ومن يتحمل مسئوليتها الجنائية والسياسية؟ ومن سيدفع فاتورتها؟ وإلى متى تستمر؟

لا يصح هنا التعلل بالقضاء والقدر، لأن ذلك الباب يستخدم لتبرئة المسئولين عن تلك الكوارث. والمسئولية هنا تبدأ بأصغر مرشد ملاحي أو قبطان، أو سائق قطار أو عامل تحويلة، أو مهندس معماري (كمسئولية جنائية)، وتنتهي برأس النظام الذي يتحمل ونظامه المسئولية السياسية الكاملة عن كل نتائج الإهمال والفساد والاستبداد الذي أرسى دعائمه وصنعه على عينه منذ انقلاب الثالث من يوليو 2013 وحتى الآن.

وللمفارقة فقد تبارى كبار الإعلاميين المصريين في تحميل الرئيس مرسي خلال سنة حكمه؛ المسئولية عن حوادث أقل من ذلك بكثير، مستدعين مقولة أمير المؤمنين عمر بن الخطاب "إذا عثرت بغلة بأرض العراق لخشيت أن يسألني الله عنها لمً لم تمهد لها الطريق يا عمر"، ولكن هذه الأصوات خرست تماما تجاه الكوارث الجديدة، بل تبارت في تبريرها، وتبرئة السيسي ونظامه منها بزعم أنها كوارث طبيعية تحدث في كل دول العالم وفي كل الأزمنة، وأن المسئولية تقع فقط على صغار الموظفين أو حتى على مجهولين، كما هو الحال في حادث القطار.

لم تتوقف الحوادث الكبرى التي تسببت في عشرات بل مئات القتلى والمصابين منذ العام 2013 وحتى الآن، ولكنها جميعا مرت دون حساب، بل تمت ترقية المسئولين عن بعضها، ومنهم وزير النقل الحالي كامل الوزير نفسه، وهو رئيس الهيئة الهندسية التي نفذت كل المشروعات الهندسية الكبرى في مصر منذ 2013، وهو الأكثر قربا من السيسي الذي رقاه أمام الكاميرات إلى رتبة الفريق، وعهد إليه بالوزارة كمنقذ، وكنموذج يقتدى به. ومع ذلك فقد شهدت فترة توليه الوزارة منذ  مارس 2019 عدة حوادث، مثل حادث الكرنك (الأقصر) في أكتوبر 2019، وحادث إجبار كمساري قطار (محصل التذاكر) راكبين على القفز من القطار أثناء سيره لعدم امتلاكهما ثمن التذكرة، وحادث خط قلين في كفر الشيخ في 19 أبريل 2019. ورغم تكرار الحوادث في عهده إلا أن السيسي يرفض إقالته، حتى بعد أن هتف أهل سوهاج في وجهه "ارحل"؛ لأنه يعتبر ذلك إهانة شخصية له.

رغم تأميمه لوسائل الإعلام، وفرض سياسة التعتيم على الأخبار الحساسة، إلا أن النظام المصري لم ينجح في إخفاء هذه الكوارث. فالكارثة الكبرى التي حلت بقناة السويس لا تخص مصر فقط، بل تهم العالم كله، حيث تنقل القناة أكثر من 10 في المائة من حجم التجارة العالمية، ولذا كان من غير الممكن التعتيم على الكارثة، رغم أن هيئة قناة السويس أو أجهزة الدولة الأخرى ووسائل إعلامها لم تذع خبرا عن الحادث لأكثر من يومين تقريبا. وقد سبقتها وسائل الإعلام الأجنبية إلى ذلك فلم يجد النظام بدا من التحرك لمواجهة هذا التدفق الإخباري الدولي، وبعد صمت رهيب اضطر رئيس هيئة القناة الفريق أسامة ربيع لعقد مؤتمر صحفي لتبرئة إدارته؛ مستبقا بذلك التحقيقات الرسمية في هذا الأمر.

كما أن حادث قطار الصعيد وما تبعه من حوادث ظهرت فور وقوعها عبر وسائل التواصل الاجتماعي التي لم ينجح النظام حتى الآن في إغلاقها رغم محاولاته المتعددة، ورغم فرضه قانونا يجرم نشر أي رواية غير رسمية عليها، ومعاقبة مرتكب ذلك بعقوبات مشددة. وكانت النتيجة هي انهيار جديد للمنظومة الإعلامية الخاضعة للنظام، وانصراف المشاهدين والمتابعين إلى المنابر الإعلامية المعارضة التي تبث من الخارج أو إلى الإعلام الأجنبي أو وسائل التواصل الاجتماعي.

من المهم في هذا السياق التفرقة بين قناة السويس ذاتها كأحد الأصول الاقتصادية الوطنية الكبرى، وهي ملك للشعب المصري كله بمؤيديه ومعارضيه، وبالتالي فإن الجميع يتألمون لما يصيبها من ضرر لأنه يعود عليهم حتما، وبين إدارة القناة التي ينبغي مساءلتها عن أي قصور أو فشل، دون أن يعد ذلك نوعا من الشماتة المرفوضة.

والمتابع لتاريخ إدارات قناة السويس منذ تأميمها عام 1956 يلحظ أنها أصبحت إقطاعية خاصة للقوات البحرية المصرية، حيث تولى رئاستها عدد من الضباط المهندسين؛ بدءا من محمود يونس ومشهور أحمد مشهور، مرورا بالفريق أحمد فاضل ومهاب مميش، وانتهاء بالفريق أسامة ربيع، وثلاثتهم كانوا قادة القوات البحرية قبل نهاية خدمتهم العسكرية. وهذا لا يمنع من مساءلتهم برلمانيا وشعبيا، لكن المشكلة أننا أمام برلمان هزيل تم تشكيله في أقبية المخابرات الحربية، ولا يجرؤ أي نائب فيه على تقديم استجواب ضد رئيس هيئة القناة أو ضد وزير النقل؛ كما فعل الدكتور محمد مرسي باستجوابه الشهير في العام 2002 ضد وزير النقل في حادث قطار مشابه.

يبدو السيسي (ونظامه) محاصرا بالعديد من الأزمات الداخلية (برا وبحرا) الناتجة عن سوء إدارته، وعن استبداد حكمه، وعن "عسكرته" لكل مناحي الحياة في مصر، ولم تفلح كل عمليات التجميل والمساحيق في إخفاء هذه الأزمات، والتي تولد بدورها المزيد من الأزمات الأخرى للنظام في الداخل ناهيك عن الأزمات الدولية التي تحاصره في الخارج. وبذلك يخرج هذا النظام من أزمة ليقع في أزمة أكبر، ولكن المشكلة أن الشعب المصري هو الذي يدفع أثمان هذه الأزمات من دمائه وثرواته.