د. أيمن منصور ندا

مما يُروى عن شاعر العرب الأعظم أبي الطيب المتنبي أنَّ رجلا قال له: لقد رأيتك من بعيد فحسبتك امرأة! فقال له المتنبي: وأنا رأيتك من بعيد فظننتك رجلاً!.. كثيراً ما تختلط الأمور لدينا .. وكثيراً ما يتشابه البقر علينا.. فنرى الأشياء على غير حقيقتها.. إعلامنا من بعيد نراه شيئاً.. وعندما نقترب من تفاصيله نكتشف شيئاً آخر..

إعلامنا في معظمه ينطبق عليه الوصف القرآني "وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً".. البغل هو كائن هجين من الخيل والحمير.. فلا يملك جمال الخيل وشممها وشيمها، ولا يملك طاعة الحمير واستكانتها وخضوعها.. هو كائن "مسخ" مثل كثير من الأشياء في حياتنا.. إعلام البغال هو إعلام أقرب إلى "لوسي ابن طانط  فكيهة".. لا يمكن الإشادة به كرجل، ولا يمكن الإعجاب به كسيدة.. هو إعلام بلا نخوة، ولا شهامة، ولا قوة، ولا فعالية.. وتصدق عليه مقولة الفنان "يوسف وهبي": "بالذمة مش حرام يتحسب علينا راجل؟"..!! لماذا يتم تسويق البغال لنا على أنها خيول عربية أصيلة؟ لماذا لا نسمي الأشياء بمسمياتها الحقيقية؟ لماذا ندفع ثمن الخيل ونرضى بالبغال؟!

وظيفة البغال كما حددها النص القرآني: الركوب والزينة.. ولا شيء آخر.. وهو ما يقوم به إعلامنا حرفياً.. إعلامنا مطية "يركبها" من يملك المال أو من يتولى الحكم أو هما معاً، ولا عزاء للمواطنين .. وإعلامنا زينة وديكور لزوم القعدة في كل الأحوال.. مثل "النيش" في معظم بيوتنا؛ نحرص على وجوده، دون أن يكون مستخدماً.. ومثل "طقم الصيني" الذي لا يتم الاقتراب منه وتتوارثه الأجيال!! إعلامنا لا يمثلنا، ولا يعكس هويتنا الثقافية، ولا يلبي احتياجاتنا المجتمعية، وغير قادر على التعبير عن أحلامنا وطموحاتنا.. وسائل إعلامنا لها "أجسام البغال وأحلام العصافير".. والعصافير في وسائل إعلامنا على كل شكل ولون.. وأكثرهم موجودون على الشاشات، ولهم رتب معلومة، وأقدار محفوظة، وحسابات بنكية عامرة!!

إعلامنا ليس إعلاماً قوياً ومحترفاً مثل الخيول العربية .. وليس ضعيفاً مستكيناً راضياً بحاله مثل الحمير .. ولكنه أقرب إلي إعلام البغال؛ إعلام الحنجلة.. تننازعه أحياناً صفات الخيول فيكون جامحاً ولكن على الشعب وضد الشعب (أسدٌ عليَّ وفي الحروب نعامةٌ).. وأحيانا كثيرة صفات الحمير فيبدو مستكيناً لصاحبه ولمن يقوده.. وفي غالبية الأحيان، لا يكف عن "الرفس" العشوائي لكل المحيطين به.. هو إعلام لا لون له ولا طعم ولارائحة أشبه بتعريف الماء في الكتب قديماً، قبل أن يتغير ويختلط بماء الصرف الصحي ومخلفات المصانع في مصرنا الحبيبة فيصبح له طعم ولون ورائحة!..

إعلام البغال يمثل أحياناً دور "الحمار الطموح" الذي يبغي تحقيق أهداف لا يقدر عليها، فيرجع في الغالب مهزوماً جريحاً .. هزائمنا الإعلامية الداخلية كثيرة.. ونكساتنا الخارجية متعددة.. شباكنا الإعلامية بها ثقب أكبر من ثقب الأوزون، وأكبر من حجم الوهم الذي نعيش بداخله.. في المثل العربي يقولون: "ذهب الحمار يطلب قرنين ( لكي ينطح بهما ويزداد قوة) فعاد مصلوم الأذنين (فقد قوته وشكله)" .. وإعلامنا الحالي فقد أذنيه وعينيه ومن قبلُ فقد كرامته وارتهنها راضياً مرضياً، وشروه بثمن بخس.. مصالح شخصية معدودة.. وكانوا فيه من الزاهدين!

إعلام البغال هو إعلام هجين بين الإعلام القمعي والإعلام الحر .. هو إعلام "توفيقي" على حد تعبير البعض، و"تلفيقي" كما أفضل أن أطلق عليه.. التلفيق صناعة مصرية أصيلة في مشوار البحث عن هوية.. إعلامنا الحالي يشبه حياتنا المختلطة بكثير من الزيف والادعاء وقليل من الصدق.. ليس "أرابيسك" كما أراده "أسامة أنور عكاشة"، ولكن "بزرميط" كما يشير إليه المعني الحرفي للكلمة الشعبية!..

تاريخ الإعلام هو تاريخ البحث عن مساحة حرية.. وعن متنفس للتعبير عن هموم الناس وأحلامهم.. في كل عصر كان هناك صراع حول مساحة الحرية التي تستطيع وسائل الإعلام اقتناصها واللعب فيها والتمتع بها.. الأسماء التي حفظها لنا تاريخ الإعلام هي تلك الأسماء التي عملت على توسيع هذه المساحة وعلى حسن استغلالها.. في أيامنا هذه.. الإعلاميون يتطوعون لتضييق هذه المساحة.. ويتسابقون في تخفيض السقف المسموح به.. ويتبارون في تكميم أفواه المعارضين لهم.. "مكارثية" على الطريقة المصرية.. "مكارثية البغال"! .. "نقباء المهنة" هم أكثر الناس حرصاً على تكميمها.. ورؤساء الهيئات المسئولة عن المهنة هم أكثرنا انبطاحاً ودفاعاً عن الاستبداد!!

كان المفكر الجزائري "مالك بن نبي" يرى أن مشكلة الأمة العربية ليست في الاستعمار ولكن في القابلية للاستعمار.. قابليتنا للاختراق و"للاستحمار" عالية جداً، أعلى من نسب السكر والضغط عند معظم المصريين.. وتزداد هذه النسب لدى القيادات الإعلامية، وترتفع لديهم بشدة.. "القابلية للانقياد" صفة أساسية لكل من يتولى منصباً إعلامياً في هذه الأيام، دون الشعور بغُصةٍ في الحلق أو وجع في الخلق: أن تقف "انتباه" وتستمع إلي الأوامر وتنفذها دون نقاش؛ وأن تكون مستعداً للتضحية بالآخرين من أجل تنفيذها.. تماماً مثلما كان العرب مستعدين للحرب مع إسرائيل حتى آخر جندي مصري!

كرم جبر .. رئيس إعلام البغال

"كرم جبر" نموذج مكتمل لمسئولي إعلام البغال.. طريقة قيامه بوظيفته وأداؤه يؤكدان ذلك.. الرجل أسد حين يتكلم ونعامة حين يتخذ القرار.. لا حول له ولا قوة .. تتنازعه رغبات متضاربة لإرضاء أطراف متفرقين أو مجتمعين.. أداء الاستاذ كرم جبر الإعلامي وكرجل مسئول هو أقرب إلي أداء البغال والحمير أيضاً: تبلد الإدارة، وبطء القرارات، وضخامة الخسائر الناجمة عن "الرفس" وعن بعض القرارات الخاطئة.. أداء كرم جبر أقرب إلي شخصية زكي قدرة .. وشعاره الدائم في كل المواقع التي تولاها: "ادبح يا زكي قدرة.. يدبح زكي قدرة.. اسلخ يا زكي قدرة.. يسلخ زكي قدرة".. لا يكلف "كرم جبر" نفسه ما لا يطيقه.. وليس عليه حرج في أفعاله.. هو رجل "متواضع الإمكانيات" و"قليل القدرات"، و"معدوم الخبرات"، ولكنه كبير الحظ في الرضا النفسي بالانقياد وتنفيذ الأوامر الصادرة إليه حتى ممن يعملون تحته..

كان "عبد الله كمال" له كلمته العليا عندما كانا معاً في روز اليوسف.. كان عبد الله كمال يمشي في طريقه ويتبعه "كرم جبر" .. بنفس الطريقة التي جسدها "ألفريد فرج" في مسرحية "على جناح التبريزي وتابعه قفة"!.. واليوم حلت "رانيا هاشم" (سيدة المجلس وصاحبة النفوذ والعصمة وكلمة السر لكرم جبر).. مع اختلاف الإمكانيات والقدرات بين "عبد الله كمال" الصنايعي المحترف والسياسي المخضرم، و"رانيا هاشم" صاحبة شبكة العلاقات العامة المتنامية الأطراف والمتغلغلة في كافة مفاصل الدولة .. وكأنَّها استنساخ لقصة "لوسي أرتين" جديدة !!

كرم جبر يحب أن يحتمي بغيره.. وأن يكون أداة تنفيذية لآخرين .. ولا خاب من استشار.. الرجل يستشير أصحاب الأمر الإعلامي في كل صغيرة وكبيرة.. ومستعد للموت في سبيل الدفاع عن هذه الأوامر وفي الدفاع عن أصحابها.. الرجل متدين وينفذ التعاليم "وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم"!

"كرم جبر" نموذج بارز جداً للفشل الإعلامي.. لا تستطيع أن تقرأ له مقالاً إلى آخره.. ليس لديه الفكر الذي يبهرك، أو موهبة الكتابة التي تجذبك.. هو رجل بالمفهوم الإنجليزي "مديوكر".mediocre. صحفي بالعافية وإعلامي بالزق .. واللي مش عاجبة يشرب من البحر.. وإدارياً لم يتم ضبطه متلبساً بالنجاح في أي موقع شغله.. سجله القياسي في الفشل في المواقع السابقة يجعل من تعيينه في موقعه الحالي نكتة بايخة.. والاستمرار في شغله هذا المنصب رغم إخفاقاته نكتة "أبوخ" .. حاول كرم جبر وجرب أن يكون مذيعاً وفشل.. وحاول وجرب أن يكون صحفياً وصاحب كلمة مقروءة وفشل.. وحاول وجرب مرات عديدة القيادة وفشل.. هو رجل "مزاجه جاي على الفشل" وهو سعيد به وفخور بنفسه!! بس بصفة عامة، هو "ابن حلال وبيعرف يجيب المصلحة من فم الأسد"!

أحمد موسى .. مذيع إعلام البغال

أداء الأستاذ أحمد موسى الإعلامي الأبرز في المنظومة الحالية، وخليفة الأستاذ هيكل والفائز بجائزته كما يردد، هو أقرب إلى أداء البغال المضطربة .. جرب معي أن تغلق الصوت وترى تعبيراته وحركات يده وطريقة إدارته لجسده على الشاشة.. هي نفسها حركات البغال والحمير.. لا فيها شمم الخيول وجمالها.. ولا فيها وداعة الحمير وسكونها.. هناك اضطرابات في الخلايا الوظيفية الإعلامية لديه.. يرفع الحاجب، ويتشنج، ويضحك، ويبكي، ويكلم نفسه، ثم يوجه حديثه إلى الجمهور في نفس الوقت.. هو كما يطلق عليه البعض "كاركتر".. وفي مجال الفن يقولون : "خليك كاركتر.. تشتغل أكتر".. والرجل قبل النصيحة!

جرب معي عكس ذلك؛ أن تستمع إليه دون أن ترى طلته الكريمة على الشاشة، فستكون أمام صوت غير مريح إعلامياً، ووقعه على الأذن غير مستحب ومزعج.. والصوت لا يختلف عن الأداء الحركي في دلالاته وإشاراته عن الشخصية الإعلامية.. مؤكد أنه لو خضع لأي اختبار صوت أو كاميرا قبل التحاقه بالعمل الإعلامي كان سيرسب بجدارة!

لا أحدثك عن مهاراته الإقناعية، وقدراته التأثيرية.. الرجل قادر على جعلك تكره ما يقول، وأن تتبنى أي موقف معاكس له.. هو مثل أسلحة 1948.. تصيب من يستخدمها، وتقتل من يدافع عنهم.. غير أن أهم ما يميزه هو اعتقاده في مصداقيته، و"فتحة الصدر" التي يتحدث بها.. أداؤه نموذج مثالي للتدليل على "جرأة الجاهل"؛ "يهرف بما لا يعرف"، ويفتي ويهبد في كل ما لا يحيط به علماً..

وعندما ترجع إلى أرشيف أحمد موسى الصحفى لا تجد له شيئاً ذا بال .. أسلوب كتابته ركيك.. وتعبيراته ساذجة.. وأخطاؤه عديدة.. ولكنه "شطور" يجيد تربيط العلاقات مع مصادره الأمنية.. هو مندوب الأهرام في وزارة الداخلية، أو مندوب وزارة الداخلية في الأهرام كما يطلق عليه بعض الظرفاء وأهل الشر.. وهو يعرف كيف يحصل على الخبر من فم لواء الشرطة، أو من نقيب الصحفيين.. لا فرق بينهما.. وهي مهارة "عصفورية" خاطفة تحسب له.. وعندما تشاهد برامجه التليفزيونية فإننا إزاء ملهاة هزلية ساخرة .. لا تملك أمامها إلا الإبتسام وضرب كف بكف وتقول "عجبت لك يا زمن"! .. وأحمد موسى بالمفهوم الاعلامي ليس صحفياً إلا ببطاقة العضوية، وليس مذيعاً إلا بتواجده على الشاشة.. هو "مسخ" بين هذا وذاك..

في اتصال ولقاء بيني وبين ممثل عن المجلس الأعلى لتنظيم الإعلام خلال هذا الأسبوع، قيل لي ما طلباتك؟ قلت لهم: تطبيق القانون وميثاق الشرف والأكواد الإعلامية التي يتم تطبيقها على جميع الإعلاميين على برنامجيّ "أحمد موسى" و"نشأت الديهي".. لا أريد سوى تطبيق القانون والميثاق الإعلامي على الرجلين، وإتاحة حق الرد لي كما ينص عليه القانون في نفس البرامج وبنفس المدة الزمنية التي تم سبي فيها.. أجابني الرجل: لقد طلبت أمراً إدَّاً، تكاد السموات يتفطرن منه وتنشق الأرض وتخر الجبال هداً.. إقالة المجلس أسهل من الاقتراب من أحمد موسى ونشأت الديهي.. والاقتراب من "أجمد وزير" أهون وأيسر من الاقتراب من هذين الرجلين.. وأخبرني أن أحمد موسى ونشأت الديهي خطان أحمران في النظام الإعلامي.. شكرت الرجل صادقاً.. وأوصيته أن يبلغ السيد كرم جبر نصيحة "سعد زغلول" الخالدة "مفيش فايدة"!!

المبدع الأستاذ "جمال بخيت" له قصيدة مشهورة عنوانها "دين ابوهم اسمه ايه؟".. وهي قصيدة تنطبق كلماتها حرفياً على إعلاميّ هذه الأيام أكثر مما تنطبق على من كُتِبت لهم وعنهم.. لا نعرف لهؤلاء الإعلاميين ملَّة، ولا نكاد نتبين لهم ديناً، ولا نفهم لهم عقيدة.. هم أقرب إلي السؤال الذي طرحه الفنان أحمد زكي في فيلم معالي الوزير : "عمرك شفت سفالة أكتر من كدة؟".. والحقيقة المؤكدة يا سادة: "مفيش أكتر من كدة"!!