بقلم: د. أشرف دوابة

ظهرت الصكوك الإسلامية بديلاً عن السندات الربوية عندما طرحت للبحث في المؤتمر العلمي الأول للاقتصاد الإسلامي عام 1976م، ثم تبعته عدة محاولات حتى برزت فكرة سندات المقارضة وإقرارها في المملكة الأردنية في العام 1981م، من خلال قانون «سندات المقارضة» للاستفادة منها في إعمار أراضي الأوقاف، وتم عرضها بعد ذلك على مجمع الفقه الإسلامي الدولي في دورته الرابعة بجدة عام 1988م، ونتج عن ذلك وضع تصور منضبط شرعياً لسندات المقارضة، ثم أفردت المعايير الشرعية لهيئة المحاسبة والمراجعة للمؤسسات المالية الإسلامية (أيوفي) معياراً كاملاً لها في العام 2003م وسمتها «صكوك الاستثمار».

يبرز التوجه العالمي نحو الصكوك أهميتها وقدرتها على توفير السيولة والمساهمة في عملية التنمية، ومع ذلك يكشف الواقع العملي انجذاب العديد من تجارب الصكوك للسندات التقليدية والسير على نهجها من حيث ضمان رأس المال والعائد، فضلاً عن صورية التصكيك من خلال بيع العينة ببيع الأصول وعودتها بذاتها وحالها لمالكيها بمبلغ أكبر.

مفهوم التوريق:

ارتبط التوريق أو التسنيد (Securitization) بعمليات توريق أو تسنيد الديون، ومن هذا المنطلق برز التصكيك ولكن بصورة شرعية بعيداً عن مفهوم وآليات التوريق التقليدي.

والتوريق والتسنيد والتصكيك مصطلحات ثلاثة لكنها ذات مدلول واحد، نتاجها أوراق مالية، ويتوقف الحكم الشرعي على طبيعة هذه الأوراق؛ فإذا كان توريقاً أو تسنيداً للديون بصورته الحالية فهو غير جائز شرعاً.

وقد شاع مصطلح التصكيك ليعبر عن التوريق الإسلامي ممثلاً في صكوك الاستثمار، وقد عرَّف مجمع الفقه الإسلامي الدولي التصكيك (التوريق الإسلامي) بأنه “إصدار وثائق أو شهادات مالية متساوية القيمة تمثل حصصاً شائعة في ملكية موجودات (أعيان أو منافع أو حقوق أو خليط من الأعيان والمنافع والنقود والديون) قائمة فعلاً أو سيتم إنشاؤها من حصيلة الاكتتاب، وتصدر وفق عقد شرعي وتأخذ أحكامه”.

مفهوم التصكيك الكفء:

الكفاءة في اللغة تعني: القدرة على العمل وحسن تصريفه.

وفي الاصطلاح تعني: القدرة على تحقيق الأهداف، كما تعرف كذلك بأنها: فعل الأشياء الصحيحة بطريقة صحيحة، وكذلك استخدام الموارد المتاحة بأفضل طريقة ممكنة أو ما يعرف بالتخصيص الأمثل للموارد.

ولما كان العديد من عمليات التصكيك يشوبها إشكاليات الحيل المذمومة التي تمس مصداقيتها الشرعية وكفاءتها الحقيقية، ومن ثم تحقيق أهدافها بصورة مثالية وصحيحة، فإن الأمر يتطلب مراعاتها للحوكمة الرشيدة، التي تحقق مبدأ المشروعية كيفاً وكماً ومقصداً.

إن الكفاءة الحقيقية لعملية التصكيك ترتبط ارتباطاً وثيقاً بتصكيك الموجودات الحلال (الطيبات)، وإيلاء أهمية للمشروعات التي تمس متطلبات المجتمع واحتياجاته، مع تطبيق قاعدة الكفاءة الحقيقية الربانية؛ (يَمْحَقُ اللّهُ الْرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ) (البقرة: 276)، فالربا في ظاهره نماء للمال ولكن في الوقت نفسه هو ممحوق البركة ومن ثم فاقد للكفاءة من المنظور الرباني، وعلى العكس منه الصدقات.

وعلى ذلك يمكن تعريف التصكيك الكفؤ بأنه: الأداء الأمثل لعملية التصكيك من خلال وجود حوكمة رشيدة للتأكد المعقول من مشروعية عملية التصكيك والحيلولة بينها وبين التحايل المذموم الذي يفقدها مشروعيتها، ومن ثم كفاءتها الحقيقية.

مفهوم وأهداف الحوكمة الرشيدة:

مصطلح الحوكمة الرشيدة تم البدء في استخدامه مع بداية التسعينيات من القرن الماضي، وتزايد استخدامه في السنوات الأخيرة، وأصبح شائع الاستخدام وحاز على اهتمامات المنظمات الدولية والإقليمية والمحلية، والحوكمة بمفهومها العام تقوم بهذا الدور، وقد عرفت منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية (OECD) الحوكمة بأنها: تمثل مجموعة من العلاقات بين إدارة الشركة ومجلس إدارتها والمساهمين فيها، وأصحاب المصلحة الآخرين.

وعرف “Schmidt & Brauer” الحوكمة الرشيدة بأنها: مزيد من مختلف الشرائح، أي أنها توليفة من الإدارة الرشيدة للسوق والحكم الصائب لأصحاب الملكية والرقابة الداخلية بالإضافة إلى النظام المستقر.

كما عرفت هيئة السوق المالية السعودية حوكمة الشركات بأنها: القواعد التي يتم من خلالها قيادة الشركة وتوجيهها، وتشتمل على آليات لتنظيم العلاقات المختلفة بين مجلس الإدارة والمديرين التنفيذيين والمساهمين وأصحاب المصالح، وذلك بوضع إجراءات خاصة لتسهيل عملية اتخاذ القرارات، وإضفاء طابع الشفافية والمصداقية عليها بغرض حماية حقوق المساهمين وأصحاب المصالح، وتحقيق العدالة والتنافسية والشفافية في السوق وبيئة الأعمال.

كما أبرزت هيئة السوق المالية السعودية هدف حوكمة الشركات في تعزيز مستوى الثقة والاطمئنان لدى المساهمين على استثماراتهم؛ لأن ذلك يعد مؤشراً على دراية مجلس الإدارة والإدارة التنفيذية بالمخاطر التي تحيط بالشركة، وبالتالي قدرتها على إدارة هذه المخاطر والحد منها؛ ما يساعد المستثمر على اتخاذ قراره الاستثماري مع مراعاة المعايير الأساسية الأخرى للاستثمار.

وبناء على ذلك، يمكن تعريف الحوكمة الرشيدة لعملية التصكيك بأنها: وجود نظم تحكم العلاقات بين الأطراف الأساسية في عملية التصكيك بهدف تحقيق الشفافية والعدالة والنزاهة والمساءلة ومكافحة الفساد -وفي مقدمة ذلك الفساد الشرعي التحايلي- بما يحقق كفاءتها الحقيقية، من خلال تنظيم العلاقة بين الأطراف بصورة تقسم المسؤوليات والحقوق وتمنع التحايل والصورية وعدم الاستقلالية، تطبيقاً لمبدأ المشروعية.

ولا تعني الحوكمة الرشيدة إغفال ما يتعلق بالجوانب غير الشرعية، فمبدأ المشروعية يتطلب تكامل الأطراف المتعلقة بعملية التصكيك مع توزيع الصلاحيات والمسؤوليات والمهام بما يتوافق مع الأدوار والأهداف المرجوة بشكل واضح ومحدد، وتوافر الضوابط اللازمة للمراقبة والمتابعة لضمان الالتزام بتطبيق القوانين واللوائح والتعليمات.

التصكيك والحوكمة الرشيدة:

شهد التطبيق العملي للصكوك مخالفات شرعية تعكس غياب الحوكمة الرشيدة؛ حيث جاءت هذه المخالفات نتيجة للهندسة المالية الشيطانية أو فقه الحيل المذمومة، وتدخل هذه المخالفات ضمن المخاطر الشرعية التي تمثل أهم أنواع مخاطر التشغيل وأشدها بأساً، التي لم ولن تكون نتيجتها في كل الأحوال سوى المَحْق والإذن بالحرب من الله تعالى، وهي وإن كانت تدخل في المخاطر الشرعية لكنها في الوقت تمس كذلك المخاطر الأخرى سواء أكانت مخاطر الائتمان أم السوق، باعتبار المخاطر الشرعية ذات اتصال وثيق بغيرها من المخاطر.

 ومن أمثلة هذه المخاطر ما يلي:

1- النص في نشرة إصدار الصكوك على التعهد بشراء الصكوك بقيمتها الاسمية أو بقيمة محددة سلفاً بما يؤدي إلى ضمان رأس المال، أو إلى نقد حالّ بنقد مؤجل أكثر منه سواء تم ذلك بصورة مباشرة من الجهة المصدرة، أم من خلال المنشأة ذات الغرض الخاص؛ حيث إن ضمان رأس مال حملة الصكوك لا يجوز شرعاً، وكذلك لا يجوز التعهد بضمان قدر معين من الربح بصورة مقطوعة أو في صورة نسبة مئوية من رأس المال لحملة الصكوك.

2- النص في نشرة إصدار الصكوك على تعهد الجهة المصدرة أو مدير الصكوك (مضارباً أو شريكاً أو وكيلاً) بإقراض حملة الصكوك عند نقص العائد الفعلي على الصكوك عن العائد المتوقع؛ حيث إن ذلك يؤدي إلى سلف وبيع أو قرض بفائدة.

3- بيع مصدر صكوك الإجارة للمنشأة ذات الغرض الخاص الأصول القابلة للتأجير أو منافعها بثمن حالّ (ثمن الصكوك)، ثم إعادة استئجارها منها تأجيراً مقترناً بوعد بالتمليك، أو يستأجرها منها مع إصداره وعداً ملزماً بإعادة شراء الأصل بالقيمة الإسمية له؛ فهذا من العينة الإيجارية لما يترتب عليها من ضمان رأس مال حملة صكوك الأعيان المؤجرة ومن ثم لا تجوز شرعاً.

وبمزيد من التحايل والوقوع في العينة الإيجارية أيضاً قد تقوم المنشأة ذات الغرض الخاص بشراء الأصل أو منافعه من المصدر ثم بيعه إلى حمَلة الصكوك (أو من يمثلهم) ثم يستأجر المصدر الأصل من حملة الصكوك تأجيراً مقترناً بالوعد بالتمليك أو يستأجره مع إصداره وعداً ملزماً بإعادة شراء الأصل بالقيمة الإسمية، وكأنه وفقاً لهذا التحايل أصبح بائع الأصل والمتعهد شرائه بالقيمة الإسمية طرفان، وهما في الحقيقة طرف واحد.

4- النص في نشرة إصدار الصكوك أو القيام بإجراءات أو آليات أو عمليات تحول بين حملة الصكوك وحق تملك موجودات الصكوك أو التصرف فيها تصرف الملاك شرعاً وقانوناً، كأن يكون محل التصكيك أصولاً يمنع تملكها تملكاً حقيقياً كالمطارات ومباني البرلمان ومجلس الوزراء، أو أن يتم تقويم الصكوك عند بيعها لحملة الصكوك بمبالِغ مُبالَغ فيها (أضعاف قيمتها السوقية) لمنع حملة الصكوك من التصرف فيها إلا من خلال مصدر الصكوك، أو النص في نشرة الإصدار على أنه لا يحق لحملة الصكوك بيع أي من موجودات الصكوك أو التصرف فيها إلا وفقاً لتعهد الشراء أي إعادة البيع للمصدر، أو النص كذلك في نشرة إصدار صكوك الأعيان المؤجرة على أن للمصدر وفقاً لتقديره المطلق أثناء سريان مدة الصكوك الحق الملزم في تملك الأصول المملوكة لحملة الصكوك وإعطائهم أصولاً أخرى مماثلة، وعليه يتم فسخ عقد الإجارة في العين المستبدلة، ويتعهد المصدر باستئجار العين البديلة بمثل شروط وأحكام وأجرة العقد السابق؛ فلو كانت قيمة الأصل المملوك لحملة الصكوك عند الإصدار مليون دولار وبعد 3 سنوات أصبحت قيمته السوقية 3 ملايين دولار فيتم الاستبدال وفق القيمة التاريخية مليون دولار ويستحق المصدر الفرق بين السعرين (مليوني دولار)، وهذا يعكس صورية ملكية حملة الصكوك للأصول.

وقد حرص مجمع الفقه الإسلامي الدولي في دورة مؤتمره الرابع والعشرين، في نوفمبر 2019م، بدبي، على التحذير من المخالفات الشرعية للصكوك؛ حيث جاء فيه تحت بند «تحوطات لضمان رأس المال في الأسهم والصكوك» أن «هناك جملة من التحوطات والاشتراطات والتعهدات التي تتضمنها إصدارات الصكوك تخالف الضوابط الشرعية، وما أكده قرارا المجمع رقم 30 (3/4) 1988م، بشأن سندات المقارضة وسندات الاستثمار، ورقم 188 (3/20) بشأن استكمال موضوع الصكوك الإسلامية، ومنها:

1- ضمان القيمة الإسمية من قبل المُصدر (سواء كان مضارباً، شريكاً مديراً، وكيلاً بالاستثمار).

2- تعهد المضارب بإقراض محفظة الصكوك لضمان حد معين من توزيع الأرباح.

3- اشتراط عدم تمكن حملة الصكوك من التصرف مثل عدم التصرف في العين المؤجرة في حال العجز عن سداد الأقساط.

4- عدم نقل ملكية أصول الصكوك للمستثمرين أو حملة الصكوك؛ ما يعني عدم دخولها في ضمانهم وعدم استحقاق العائد؛ لأنهم لم يتحملوا الغرم مقابل الغنم، ومما يدل على ذلك بقاء تلك الأصول في ميزانية المُصدر غالباً.

5- اشتراط أن تتضمن نشرة الإصدار إقراض المدير حملة الصكوك في حال نقص الربح الفعلي عن نسبة معينة، وغالباً ما يربط هذا الشرط بأن الربح إذا تجاوز تلك النسبة فيعود الزائد كله للمدير في شكل حافز.

إن هذه المخالفات الشرعية تخل بكفاءة التصكيك التي ترتبط إيجاباً وسلباً بالحوكمة الرشيدة من خلال مراعاة الالتزام بمبدأ المشروعية، فالحوكمة باتت الآن عنصراً مهماً وحاكماً بما تسعى إليه من تحقيق الاستقلالية، والعدالة، والإفصاح والشفافية، والمساءلة، وتحديد المسؤولية، وكل هذا يتفق مع مبادئ الشريعة الإسلامية ومقاصدها، فليس من الحوكمة الرشيدة ما نراه تتبُع الرخص وزلات العلماء والأقوال المرجوحة والتخريجات القائمة على الحيل المذمومة، حتى أصبح العديد من عمليات التصكيك شكلاً بلا مضمون، وعبئاً على الاقتصاد الإسلامي ذاته، من خلال مخاطر السمعة الناشئة عن ذلك.

إن الأزمات المالية العالمية كان منبتها في الأساس الربا والغرر، والتحايل للوقوع فيهما من خلال ضمان الصكوك بل وعائدها، وعودة الأصول لمالكها بصورة تكشف مدى اللغو الذي وصلت إليه بالعينة، وإقرار بيع الدين بالدين لغير من عليه الدين، يكشف عن السير شبراً بشبر وذراعاً بذراع نحو هذه المحرمات التي أهلكت الحرث والنسل في بلاد الغرب، فلماذا يصر القائمون على إصدارات وتداول تلك الصكوك على هذا التوجه الذي لا يرضي رباً ولا يسعد رسولاً ولا يحقق أمناً مادياً أو معنوياً؟!