رمضان هو شهر النفحات الربانية، والفيوضات الإلهية التي تتنزل على عباده المؤمنين، ولقد وقفت معك أخي الحبيب وقفة أولى مع الصيام، ونقف هنا مع الصلاة، ولعلك تدرك أخي الحبيب أن الصلاة التي شرعها الله سبحانه وتعالى هي الصلة التي تسري ما بين العبد ومولاه سبحانه وتعالى، وإذا بقيت هذه الصلة سارية بين العبد ومولاه وخالقه، صلح أمره، وصلح أمر الأمة إن كانت منضبطة بهذا الأمر، والعكس صحيح، والله- عز وجل- حين دعانا في كتابه لم يدعنا إلى الصلاة بل إلى إقامتها، أي إلى تنفيذها على النهج الذي أمر الله سبحانه وتعالى من حيث الكيفية، ومن حيث الميقات، ومن حيث الخشوع وإتمام قيامها وركوعها وسجودها.

وقد وردت آيات كثيرة تبيِّن لنا منزلة الصلاة في الإسلام، قال تعالى: ﴿إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى المُؤْمِنِينَ كِتَاباً مَّوْقُوتًا﴾ (النساء: من الآية 103) وقوله: ﴿وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الخَاشِعِينَ (45)﴾ وقوله: ﴿وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي﴾ (طه: من الآية 14)، وقوله: ﴿وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لاَ نَسْأَلُكَ رِزْقاً نَّحْنُ نَرْزُقُكَ وَالعاقِبَةُ لِلتَّقْوَى (132)﴾ (طه)، وتذكر معي أخي أن "من قام رمضان إيمانًا واحتسابًا غُفر له ما تقدم من ذنبه".

نويت الصلاة

إليك أخي الحبيب صور الصلاة التي نويتها في رمضان:

- نويت الصلاة في رمضان إيمانًا واحتسابًا.. إيمانًا وتصديقًا بفضلها، وبمشروعية العمل فيها‏ من القراءة، والدعاء، والابتهال، والخشوع، ونحو ذلك‏، واحتسابًا بمعنى "خلوص" النية، وصدق الطوية، فلا شك ولا تردد في قلبي، ولا أريد من صلاتي وقيامي شيئًا من حطام الدنيا، ومدح الناس ولا ثناءهم علي ولا مراءاتهم بها، إنما يريد أجره من الله تعالى، فهذا هو معنى قول الرسول صلى الله عليه وسلم‏:‏ "إيمانًا واحتسابًا"‏.‏

- نويت الصلاة في رمضان.. صلاة تعني أن المسلم في لقاء مع الله تبارك وتعالى، وأن الدخول فيها يعني الإقبال على الله عزَّ وجلَّ، فمن أقبل؛ أقبل الله عليه "لا يزال الله عز وجل مقبلاً على العبد ما لم يلتفت، فإذا صرف وجهه انصرف عنه"، وصلاة تجعلني حينما أقول: "الله أكبر" أشعر بأن الله بجلاله وعظمته يقبل علي، فأشعر بجسدي وقلبي يرتجفان لذنب أذنبته؛ خوفًا من الله الواحد القهار، وصلاة تجعلني مستجمعًا قلبي لما قاله الإمام الغزالي رحمه الله "استجمع قلبك في ثلاثة مواضع: عند قراءة القرآن، وعند الصلاة، وعند ذكر الموت".

- نويت الصلاة في رمضان.. صلاة نستحضر فيها المعنى العظيم الذي يجسده الحديث القدسي "قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين ولعبدي ما سأل"، فأجد فيها أنسي، ففيها مناجاة المولى سبحانه وتعالى "إن المصلي يُناجي ربه فلينظر بما يُناجيه"، كما قال ابن القيم: (إذا استغنى الناس بالدنيا فاستغن أنت بالله, وإذا فرح الناس بالدنيا فافرح أنت بالله, وإذا أنس الناس بأحبابهم فأنس أنت بالله, وإذا ذهب الناس إلى ملوكهم وكبرائهم يسألونهم الرزق، ويتوددون إليهم فتودد أنت إلى الله).

- نويت الصلاة في رمضان.. صلاة تؤدَى بخشوع وخضوع وتدبر، لا حركات بلا روح؛ احتراسًا من مقولة أبي هريرة (إن الرجل ليصلي ستين سنة ولا تقبل منه صلاة, فقيل له: كيف ذلك؟ فقال: لا يتم ركوعها، ولا سجودها، ولا قيامها، ولا خشوعها)، وصلاة تحقق ما قاله ابن القيم: (يفتح له باب حلاوة العبادة؛ بحيث لا يكاد يشبع منها، ويجد فيها من اللذة والراحة أضعاف ما كان يجده في لذة اللهو واللعب، ونيل الشهوات)، صلاة تعطي المؤمن شحنة اليقين والإيمان، وتأخذه من دنياه للوقوف بين يدي الله سبحانه وتعالى خمس مرات في اليوم والليلة.

- نويت الصلاة في رمضان.. صلاة أقوم إليها متى سمعت النداء لأداء الصلوات الخمس في جماعة وفي المسجد وفي الصف الأول، مع إدراك التكبيرة خلف الإمام؛ حتى أكون من المحافظين على الصلاة بحقها، محققًا قوله تعالى: ﴿حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ (238)﴾ (البقرة).

- نويت الصلاة في رمضان.. صلاة بالامتثال لقوله تعالى: "ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه"؛ وذلك بالمحافظة على السنن الراتبة (12 ركعةً)، والتي صحَّ عن النبي صلى الله عليه وسلم محافظته عليها بشكل راتب يوميًّا، وهي ركعتان قبل الفجر، وأربع قبل الظهر وركعتان بعدها، وركعتان بعد المغرب، وركعتان بعد العشاء.

- نويت الصلاة في رمضان.. بأداء السنن شبه المؤكدة، الوتر (3 ركعات)، الضحى (ركعتان على الأقل)، فعن أبي هريرة (رضي الله عنه)؛ حين قال: (أوصاني خليلي بصيام ثلاثة أيام من كل شهر، وركعتي الضحى، وأن أوتر قبل أن أرقد)، وبأداء سنة العصر (4 ركعات)؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "رحم الله رجلاً صلى قبل العصر أربعًا"، وبالمحافظة على السنن التي لها سبب؛ كسنة الوضوء: "يا بلال حدثني بأرجى عمل عملته عندك في الإسلام منفعة؟ فإني سمعت الليلة خشف نعليك بين يدي في الجنة"، قال بلال: ما عملت عملاً في الإسلام أرجى عندي منفعة من أني لا أتطهر طهورًا تامًّا في ساعة من ليل ولا نهار إلا صليت بذلك الطهور ما كتب الله لي أن أصلي"، وسنة دخول المسجد، وسنة ما بعد الأذان كما أخبرنا الحبيب "بين كل أذانين ركعتا صلاة لمن شاء"... وغير ذلك من السنن.

- نويت الصلاة في رمضان.. بالإكثار من السجود، فعن ربيعة بن كعب الأسلمي رضي الله عنه قال: (كنت أبيت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فآتيه بوضوئه وحاجته فقال لي: "سلني"، فقلت: (أسألك مرافقتك في الجنة)، قال: "أو غير ذلك؟!"، قلت: هو ذاك، قال: "فأعني على نفسك بكثرة السجود"، ولما رواه الإمام مسلم عن ثوبان مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت: أخبرني بعمل أعمله يدخلني الله به الجنة، فقال: "عليك بكثرة السجود، فإنك لا تسجد لله سجدةً إلا رفعك الله بها درجة وحط بها عنك خطيئة".

- نويت الصلاة في رمضان.. صلاة تشبه صلاة حذيفة خلف رسول الله؛ حيث قال: (صليت مع النبي ذات ليلة، فافتتح البقرة، فقلت: يركع بها، ثم افتتح النساء فقرأها، ثم افتتح آل عمران فقرأها، يقرأ مُتَرَسلاً، إذا مرَّ بآية فيها تسبيح سبّح، وإذا مرّ بسؤال سأل، وإذا مرَّ بتعوّذ تعوذ...)، فلن أسأم ولن أمل من تلك الصلاة حتى يقبلني ربي مستشعرًا مقولة ابن القيم: (لا تسأم من الوقوف على باب ربك ولو طردت؛ فإذا فتح الباب للمقبولين فادخل دخول المتطفلين).

- نويت صلاة التراويح في رمضان.. صلاةً أحافظ فيها على الجماعة والصف الأول، وعلى ورد الاستماع إلى القرآن، وفي مسجد يصلي بجزء كل ليلة، حتى أحقق ختم القرآن خلف الإمام مستمعًا.

- نويت قيام الليل في رمضان غير صلاة التراويح، مستشعرًا قول الحبيب: "عليكم بقيام الليل، فإنه دأب الصالحين قبلكم، وقربة إلى الله تعالى ومنهاة عن الإثم وتكفير للسيئات، ومطردة للداء عن الجسد"، وقوله: "واعلم أن شرف المؤمن قيامه بالليل"، وسأقوم من الليل مستشعرًا قول الإمام أحمد: (لا ينبغي لطالب علم وحديث أن يكون ممن لا يقوم الليل)، وكذلك قول الحسن البصري (لم أجد شيئًا من العبادة أشد من الصلاة في جوف الليل)، وسأجاهد نفسي في ذلك مستشعرًا قول الحافظ ابن رجب: (واعلم أن المؤمن يجتمع له في شهر رمضان جهادان لنفسه: جهاد بالنهار على الصيام، وجهاد بالليل على القيام، فمن جمع بين هذين الجهادَيْن وُفِّي أجره بغير حساب)؛ ولأن جوف الليل أحب إلى الله, وأقرب إلى رحماته، وأبعث على حضور القلب، وأبعد عن الاشتغال، وأدنى من الإخلاص، وأدعى لجمع الهمم على الله فضلاً عن نزول الرب سبحانه إلى السماء الدنيا فيه؛ ليجيب دعاء المضطر في الظلم، ويكشف البلوى عمن ناجاه في السحر، وقد كان السلف يبكون عند موتهم على فقدان "ظمأ الهواجر، وقيام الليل".

- نويت صلاة الفجر في رمضان.. صلاة أتذوق فيها حلاوة صلاة الفجر، فما صلى أحد الفجر إلا وقد شعر وتذوق من هذه الحلاوة التي قال الله عزَّ وجلَّ فيها: ﴿وَقُرْآنَ الفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا﴾ (الإسراء: من الآية 78)، أي تشهده ملائكة الليل وملائكة النهار وقيل: إنه القرآن الذي يُصلى به في صلاة الفجر، وقد سئل الإمام الشهيد متى يأتي التمكين؟ قال: (إذا صلى كل الإخوان الفجر يأتي التمكين).

- نويت الصلاة في رمضان.. مقتديًا بحاتم الأصم حينما سُئل: (كيف تخشع في صلاتك؟ قال: (بأن أقوم فأكبر للصلاة، وأتخيل الكعبة أمام عيني، والصراط تحت قدمي, والجنة عن يميني، والنار عن شمالي, وملك الموت ورائي, وأن رسول الله يتأمل صلاتي، وأظنها آخر صلاة, فأكبر الله بتعظيم، وأقرأ، وأتدبر، وأركع بخضوع، وأسجد بخضوع، وأجعل في صلاتي الخوف من الله، والرجاء في رحمته، ثم أسلم، ولا أدري أقبلت أم لا!!)، وسأجاهد نفسي لحملها على الصلاة بروح وحضور قلب، مستشعرًا تجربة ثابت البناني (كابدتُ الصلاة عشرين سنةً، وتنعَّمت بها عشرين سنة)، وكما قال أحد السلف: (ما زلت أسوق نفسي إلى الله وهي تبكي؛ حتى سقتها وهي تضحك).

فلا تنسَ أخي الحبيب استحضار القلب والخشوع التام وقت الصلاة، وتأمل حال سيدنا علي بن أبي طالب (رضي الله عنه) إذا حضرت الصلاة يتزلزل ويتلون وجهه، فقيل له: ما لك؟ فيقول: (جاء والله وقت أمانة عرضها الله على السموات والأرض والجبال، فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملتُها)، وكان بعض السلف إذا صلى لم تنقطع الدموع من خديه على لحيته، ولا تنسَ المناجاة والدعاء أثناء السجود فإنه أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد.

هكذا نويت الصلاة في رمضان، فهل تجدد النية معي أخي الكريم؟ أن نصلي رمضان هذا العام بهذه الكيفية، وأن نجعل قيام رمضان هذا العام مختلفًا عن سابقه.. اللهم أعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك وتقبل منا رمضان.