بقلم.. طه سليمان عامر

إن سيرة رسولنا العظيم صلى الله عليه وسلم ليست ككل السِّيَر، إنها سيرة خاتم الأنبياء والمرسلين، وقدوة الأنام إلى يوم يأذن الله لصفحات الحياة أن تُطوى، وللأرواح أن تُقبض، إلى يوم تُبدل الأرض غير الأرض والسماوات.

وإننا لنفخر بأن سيرة الرسول الأعظم صلى الله عليهم وسلم كاملة وحياته وضَّاءة كالشمس في وسط السماء في يوم رائق دافئ، ولأمرٍ قدَّره الله تعالى جاءت سيرته صلى الله عليه وسلم ظاهرة صافية؛ فلا توجد صفحة من صفحات حياته ولا مرحلة من عمره إلا ونحن نعلمها، ولا جانب منها إلا وقد رواه لنا أصحابه العظام.

لقد أحاطت كتب السيرة النبوية بتفاصيل حياته، ووصفت لنا كتب الشمائل أدق صفاته الخَلقية، وطباعه وصفاته وماذا يحب من الطعام والشراب واللباس.

ولا غرو أن اعتنى المسلمون منذ القرن الأول بكتابة السيرة، وتوالت المؤلفات بعد ذلك، ولا عجب حيث إن الصحابة الكرام كانوا يُعَلمون أبناءهم سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم كما يعلمونهم القرآن العظيم، فالسيرة هي التطبيق العملي الميداني لتوجيهات وتعاليم القرآن الكريم، وهذا هو المقصود بقول السيدة عائشة رضى الله عنها حينما سئلت عن خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم قالت: «كان خلقه القرآن».

السيرة النبوية ضرورة عصرنا وكل العصور، وكل من رام فهم الإسلام فعليه أن يقتفي آثار رسولنا الكريم وصحابته الغُرّ الميامين، وكل من التمس طريق الرضا والقبول والسعادة والفلاح في الدارين فعليه بسيرته العطرة.

والآن أسطر هذه الكلمات الموجزة في أهداف أو مقاصد مدارسة السيرة النبوية لأبنائنا في الغرب والوسائل المعينة على ذلك.

لا يخفى على أحد أن زماننا يختلف عن كل زمان مضى، وأن طبيعة المجتمع تختلف عن المجتمعات الإسلامية في مكوناته وتحدياته، وكذلك فرصه وآفاقه، وأولاد اليوم يختلفون عن أولاد الأمس، من حيث سرعة النضج والنمو، ومن حيث طريقة التفكير والتعبير، ومن حيث التجربة، فقد جاء كثير من أبناء مسلمي أوروبا من وطن إسلامي مع أسرهم لدار جديدة عليهم في كل شيء، ونشأت مشكلة من نوع آخر مع الأجيال الجديدة، فهم أبناء هذا الوطن الأوروبي من حيث المولد وأبناء آباء وفدوا من أوطان إسلامية، فيَشُدُّهم حنين وطن الآباء من جانبٍ، ويجذبهم حبهم لبلدهم الأوروبي من جانب آخر؛ فكيف يوازن الطفل والشاب المسلم بين حبه لبده هنا ووفائه لوطن آبائه؟

سيجيب هذا المقال بإيجاز عن هذا السؤال مع طرح بعض الحلول والأفكار والمقترحات.

كيف تقدم السيرة النبوية لأولادنا؟

ستقدم الكثير والكثير، وذلك مرهون بفهمنا لأبعاد السيرة النبوية، وحسن قراءتها وتوظيفها بما يراعي خصوصية الواقع الذي نعيشه ويعيشه أبناؤنا.

إن إبداعنا في عرض السيرة النبوية بلغة العصر وروحه هو أعظم برهان على أن الإسلام يقدم الحلول لكل المشكلات التي تعترض حياة المسلم في الشرق والغرب وفي زماننا وفي كل العصور.

أولاً: السيرة النبوية ومقصد التأسي:

من أعظم مقاصد دراسة السيرة النبوية لأبنائنا هو الاقتداء بالرسول صلى الله عليه وسلم كما قال جل شأنه: (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً) (الأحزاب: 21).

إن غرام الناس بأصحاب البطولات وأهل مكارم الأخلاق والنبل والشرف لا ينتهي، إننا نتعلق بشكل كبير بمن نرى فيهم أعظم المكارم التي نهفو إليها متمثلة فيهم، وحية في أخلاقهم وسلوكهم، ولا ينسى الكثير منا القصص التي كان يرويها لنا آباؤنا وأمهاتنا ونحن صغار فتعلقنا بالبطل الفارس المغوار، أو بالرجل الطيب النبيل الكريم الذي كان يُشفق على الضعفاء من الناس، تلك القصص ألهمتنا الكثير وتركت أثرها فينا.

فما بالنا بخير القصص؟ فما بالنا بسيرة النبي الأعظم؟ أولادنا في أوروبا بحاجة إلى القدوة التي يتمثلونها وتتعلق قلوبهم بها، وهو صلى الله عليه وسلم القدوة الكاملة.

ثانياً: السيرة النبوية وتكوين الهوية:

تقدم السيرة النبوية حلولاً لمشكلة تعاني منها الأجيال الجديدة في أوروبا والغرب عامة، وهي مشكلة الهوية، بمعنى: من أنا؟ هل أنا مسلم ألماني أم ألماني مسلم؟ هل يمكن أن يكون هناك تعارض بين الانتماء للإسلام والانتماء للوطن الأوروبي؟ أم يمكن أن تتعدد الانتماءات، مسلم ألماني فرنسي إيطالي عربي، هندي، أفريقي.. إلخ؟

ما طبيعة علاقتنا بالمجتمع؟ هل يمنع اختلاف الدين من المودة والمحبة بين زملائه أو معلميه لأنهم غير مسلمين؟

وتلكم محاور مهمة تساهم في تكوين الهوية الإسلامية للمسلم الأوروبي طفلاً كان أو شاباً أو فتاة، من خلال السيرة النبوية:

1- حب الرسول صلى الله عليه وسلم لمكة وشوق الصحابة لها بعد الهجرة؛ فحب الأوطان أمر فطري ركبه الله فينا والوفاء لها من الإيمان؛ فلا مانع أبداً من تعدد الانتماءات فيكون مسلم ألماني مغربي، مصري، سوري.. إلخ.

2- هجرة معظم الصحابة من المدينة المنورة، وانطلقوا في كل مكان وعاشوا في أوطان معظمها غير مسلمين، ونشروا الخير والحب والعلم والإيمان.

3- علاقة المسلم بغير المسلم داخل الوطن الألماني والأوروبي قائمة على السلام الاجتماعي والمودة والاحترام والأخوة، مع احترام الخصوصيات الدينية لجميع مكونات المجتمع، وقد أقام الرسول صلى الله عليه وسلم مجتمع المدينة المنورة على أساس التعايش بين الناس جميعاً.

4- المسلمون إخوة في كل مكان برابط العقيدة والأخوة الإسلامية، والنصوص النبوية كثيرة في هذا الباب، وعلينا أن ننمي شعور الأخوة في نفوس أبنائنا تجاه إخوانهم المسلمين حول العالم.

5- حياة الصحابة زاد عظيم لأبنائنا في التربية الإيمانية والأخلاقية والإنسانية، علينا أن نقدم لهم قصص الصحابة باللغات التي يتقنونها؛ فما أجمل أن يتعقلوا بصفاتهم وأخلاقهم، فيأخذوا مِن أبي بكر الصديق رضي الله عنه حلمه ورفقه وصدقه، ومِن عمر شجاعته وفقهه وفراسته، ومِن علي زهده وذكاءه وفصاحته، ومن عثمان لينه وحياءه وعفته، ومن خالد براعته وإقدامه، ومن عمرو بين العاص سياسته ودهاءه، ومن كل أصحاب رسول الله رضوان الله عليهم خلقاً ونبلاً وعظمة، فهؤلاء تاريخنا وجذورنا، ومن لا أصل له فمهدوم، ومن لا جذر له فزائل.

وأما بناتنا فيالعظمة أمهات المؤمنين والصحابيات الكريمات؛ أمنا خديجة رضي الله عنها العقل الرشيد والرأي السديد والأدب الرفيع والصبر الجميل، وعائشة رضي الله عنها الفقيهة العالمة المربية الزاهدة، وسيدة نساء أهل الجنة السيدة فاطمة الزهراء رضي الله عنها؛ الزوجة البارة العظيمة والأم التي أنجبت سيديْ شباب أهل الجنة الحسن، والحسين، رضى الله عنهما، ومع السيدة أسماء بنت أبي بكر وقصتها الفريدة في الهجرة، البنت النادرة والأم الصبورة المربية والزوجة العظيمة، وغيرهن كثير ممن ساهمن في بناء الأمة بجميع مجالات الحياة.

هؤلاء فخرنا ومبعث عزتنا ومجدنا وسعادتنا، هؤلاء من عاشوا عصر السعادة الأول، لم يكونوا ملائكة ولا أنبياء بل بشراً ممن خلق الله، لكنهم مشوا على الأرض وقلوبهم نحو السماء؛ فما أجدر أن يكونوا مثالاً لأولادنا ينسجوا على طريقتهم.

وبقي شيء أقوله هنا وهو: لا نريد أن نتوقف عند صحابة الرسول صلى الله عليه وسلم فقط، بل يجب أن نقدم لأولادنا بعض النماذج من جيل التابعين وتابعيهم إلى يومنا من القدوات التي سارت على الطريق فوصلت وتحقق فيهم قول الله تعالى: (ثُلَّةٌ مِّنَ الْأَوَّلِينَ {13} وَقَلِيلٌ مِّنَ الْآخِرِينَ) (الواقعة: 14).

ثالثاً: السيرة زاد روحي في عصر المادة:

علينا أن نصل قلوب أولادنا وأرواحهم برسول الله صلى الله عليه وسلم، وأن نغرس فيهم محبته والشوق إليه والفخر والتعلق به.

دعونا نتصارح:

هل نشعر بالشوق حقاً؟ هل تضطرب قلوبنا عند ذكره؟ هل تلهج ألسنتنا بالصلاة عليه؟ هل نتمثله في حياتنا؟

هل دمعت عيوننا عند قراءة سيرته؟

كثير من شبابنا وأولادنا يقولون: «نحن نحب الرسول صلى الله عليه وسلم»؛ فكيف نشعر بهذا الحب؟

كيف نشعر بأنه أحب إلينا من أنفسنا؟

نحن أمام تحدٍّ مع أنفسنا قبل أداء مهمتنا الكبيرة مع أولادنا.

البداية منا نحن:

هل أحببت شخصاً لم تره عينك؟ ولم تسمع صوته وليس لديك أمل في لقائه؟

منا من مات أبوه وهو صغير لم يدركه، ولم يرتمِ يوماً في أحضانه وهو بعدُ في شوق له وحنين لا ينقطع، ويهفو إلى يوم يجمعه به في جنة السماء.

ومنا من لم يدرك جده أو جدته أو أحد أقاربه، غير أن اللغة التي تحدث بها عنهم الأقربون واللهجة الصادقة والعاطفة المتدفقة ألهبت كوامن الحب فينا نحوهم.

هل يمكن أن نحدث أولادنا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بهذه اللهجة وبهذا الشوق؟

ما أروع السياحة في كتاب «فن الذكر والدعاء عند خاتم الأنبياء» لشيخنا محمد الغزالي، وهو يجول بنا حول عبادة الرسول لربه وحبه وتضرعه وشوقه وذكره وشكره!

يمكن تناول عدة موضوعات في السيرة على النحو التالي:

- كيف تعامل الرسول صلى الله عليه وسلم مع الأطفال؟ هناك مواقف كثيرة في السيرة النبوية يجمل بنا أن نتوقف عندها.

- رفق الرسول صلى الله عليه وسلم بالحيوانات.

- كيف تعامل الرسول صلى الله عليه وسلم مع الجمادات.. الجذع حينما بكى واحتضنه عليه الصلاة والسلام.

- رحمة النبي صلى الله عليه وسلم بالضعفاء والفقراء وأصحاب الاحتياجات الخاصة.

- شجاعة الرسول صلى الله عليه وسلم مصدر إلهام، مع حسن اختيار المواقف المناسبة لعمرهم.

علينا أن نستحضر الظروف والمشكلات والتحديات التي يواجهها أولادنا، وأن نؤسس معرفة علمية تقيهم من فتن الشهوات والشبهات.

رابعاً السيرة والمعادلة الصعبة:

ماذا نقصد بالمعادلة الصعبة؟ أي: الجمع بين الاستمتاع بالدنيا وكسب رضا الله والجنة، وتلك عقدة كبرى حلها الإسلام، وأفصح عن بيانها القرآن الكريم، وربَّى الرسول صحابته الكرام على هذه المعادلة.

استقر في عقول أكثر الناس أن الدنيا والآخرة ضدان لا يجتمعان، كالليل والنهار، والملح والعذب بينهما برزح لا يبغيان، فمن فاز بالدنيا ضاعت عليه الآخرة، ومن آثر الآخرة فليترك الدنيا لأهلها.

وثمرة لسوء فهم طائفة من المسلمين للإسلام ولحقيقة التدين تشوهت صورة الدين في عيون بعض المسلمين وغير المسلمين، وغدا التدين قرين الجهل والفقر والغلظة والحرمان والأحزان.

وحتى نؤسس معرفة زاهية عن الإسلام عند أولادنا في مجتمع تتوافر فيه صور الرفاهية المادية واستثمار المناسبات في صناعة السعادة والبهجة، علينا أن نبرز الجوانب التالية عند عرضنا للسيرة النبوية:

- العلاقة بين العلم والإيمان في السيرة النبوية.

- الفنون في السيرة النبوية (فن الغناء، الشعر.. إلخ).

- اللهو والترفيه في السيرة النبوية.

- التفكير والعقل في السيرة النبوية.

- الابتسامة والضحك في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم والضوابط الحاكمة لذلك.

- النظام والتخطيط والدقة والانضباط في الأعمال في سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم.

- الجمال وآفاقه وأنواعه في السيرة النبوية.

- الحوار وآدابه في السيرة النبوية.

- العلاقات الأخوية بين الصحابة الكرام ومفهوم الحب في الله.

ما أهم وسائل عَرْض السيرة؟

سؤال الكيف يُعنى بالوسائل والأساليب، لذلك سنذكر بعض الوسائل التي تساعدنا في تقريب السيرة النبوية ووصول المعاني والأهداف التربوية، ونذكر منها:

1- اللعب مفتاح للعقول والقلوب: اللعب وسيلة مهمة في ترسيخ المفاهيم، والتربية عن طريق اللعب علم مستقل، وعلينا أن نفيد منه، وأن نبتكر الجديد.

2- المجسمات: حينما يشارك الطفل في بناء مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم بيديه سيشعر وكأنه كان مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويمكن أن نبدع في صناعة أجواء مصاحبة عند مشاركة الأطفال في بناء المسجد؛ موسيقى مناسبة، أنشودة.. إلخ.

وهناك كثير من المجسمات التي يمكن للأطفال تصميمها، وقد أبدع مشروع السيرة النبوية في العديد من الدول الأوروبية في تقديمها لكافة الأعمار وابتكر وسائل جديدة عديدة:

- بناء المسجد النبوي.

- بناء بيوت أزواج الرسول صلى الله عليه وسلم.

- بناء الكعبة المشرفة.

- رسم طريق الهجرة للحبشة مع السفن التي سافر عليها الصحابة.

- رسم وتصميم طريق الهجرة إلى المدينة (الغار، قصة سراقة، خيمة أم معبد، المدينة في استقبال الرسول صلى الله عليه وسلم..)، مع التأكيد على الحرمة القاطعة لتصوير سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم وجميع الأنبياء عليهم الصلاة والسلام.

3- المسابقات المتنوعة للأطفال: المسابقة من عوامل حفز العقول واكتشاف المواهب وتعزيز الملكات عند أولادنا، وعلينا أن نبتكر في هذا الميدان والأمثلة كثيرة، منها مسابقة في: الشعر، الرسم، التصوير، صناعة الفيديو، القصة.. إلخ.

4- السيرة المرئية والمسموعة: وهناك جهود طيبة في تسجيل سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم، يمكن أن يستمع الأطفال إليها قبل النوم، مع حسن اختيار المادة المسجلة بطريقة وأسلوب جاذبين.

5- قصص الصحابة للأطفال: للقصة المكتوبة أثرها العظيم في تشكيل شخصية المسلم منذ الصغر، فاحرص على شراء ما استطعت من قصص الصحابة واقرأها معهم، وتأمل دروسها ومعانيها.

والله الهادي لما فيه الخير، وهو خير مأمول أن يصلح أبناءنا ويجعلهم من الصالحين ويرزقنا وإياهم شفاعة الرسول المصطفى صلى الله عليه وسلم ويجمعنا به في جنات النعيم.

 
نقلا عن "المجتمع"