في هذه الليلة المباركة التي هي خير من ألف شهر، بل هي أفضل الليالي، يتطلَّع المسلم والأمَّة كلها إلى مشروع كبير في الدنيا والآخرة؛ لاستثماره في بنك الدنيا وحسنات الآخرة، ويجتهد المسلم في الدعاء والقيام والعبادة في تلك الليلة، بل ويتنافس الكثير في تحرِّي هذه الليلة، ويعتكف الملايين في المساجد؛ للفوز بهذا الفضل العظيم، وذلك عبر آلاف السنين في حياة المسلمين.

ويتساءل الناس: لماذا لا يستجاب لدعائنا؟ وهل يوجد ضمن المليار ونصف المليار مسلم رجل واحد لو أقسم على الله لأبرَّه؟! ويأمل المسلمون في عامهم هذا استجابة الدعاء ورفع البلاء وطيب الرجاء، بعد أن وصلت أحوال البلاد والعباد إلى درجة غير مسبوقة في الفقر والوباء والتخلُّف والفساد والاستبداد والديكتاتورية والظلم، وكيف أصابنا التنافس المذموم على الدنيا، وفساد ذات البين، واستعلاء المشروع الصهيوأمريكي على أمتنا، واحتلال أجزاء عزيزة من جسدنا الإسلامي؛ أبرزها فلسطين والعراق، يضاف إلى ذلك فرض حكومات لا تعمل لمصالح شعوبها وخدمة دينها، بل كل ولائها لمن أتوا بهم على أسنَّة الرماح؛ لإجهاض المشروع الحضاري الإسلامي.

وهناك كثير من الأسباب لعدم استجابة الدعاء؛ أركِّز على واحد منها ينطلق منه العلاج الذي قد يكون سببًا في الاستجابة، بقدر الله ورحمته:

وأذكر ما ورد في السنة النبوية المطهرة عن أبي سعيد، قال: اعتكف رسول الله صلى الله عليه وسلم العشر الأواسط من رمضان وهو يلتمس ليلة القدر، فلما انقضى أمر بالبناء فنقض، فأبينت له أنها في العشر الأواخر من رمضان، فخرج إلى الناس، فقال: "أيها الناس إني قد أبينت لي ليلة القدر، فخرجت أحدثكم بها، فجاء رجلان يختصمان ومعهما الشيطان فنسيتها، فالتمِسوها في السابعة، والتمسوها في الخامسة" (صحَّحه ابن حبان)، ولقد حذَّر الرسول صلى الله عليه وسلم من التهاجر والتشاحن والتدابر في أحاديث كثيرة نذكر منها:

- عن أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "لا تَبَاغَضُوا وَلَا تَحَاسَدُوا وَلَا تَدَابَرُوا وَكُونُوا عِبَادَ اللَّهِ إِخْوَانًا، وَلَا يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ أَنْ يَهْجُرَ أَخَاهُ فَوْقَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ" (رواه البخاري).

- عَنْ جَابِرٍ قَالَ سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: "إِنَّ الشَّيْطَانَ قَدْ أَيِسَ أَنْ يَعْبُدَهُ الْمُصَلُّونَ فِي جَزِيرَةِ الْعَرَبِ، وَلَكِنْ فِي التَّحْرِيشِ بَيْنَهُمْ" (رواه مسلم).

- عنْ أَبِي صَالِحٍ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ رَفَعَهُ مَرَّةً قَالَ: "تُعْرَضُ الْأَعْمَالُ فِي كُلِّ يَوْمِ خَمِيسٍ وَاثْنَيْنِ فَيَغْفِرُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ لِكُلِّ امْرِئٍ لَا يُشْرِكُ بِاللَّهِ شَيْئًا، إِلَّا امْرَأً كَانَتْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَخِيهِ شَحْنَاءُ، فَيُقَالُ اترْكُوا هَذَيْنِ حَتَّى يَصْطَلِحَا ارْكُوا هَذَيْنِ حَتَّى يَصْطَلِحَا" (رواه مسلم).

والشحناء: هي التناحر والخصام.

- عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "ثَلاثَةٌ لا تَرْتَفِعُ صَلاتُهُمْ فَوْقَ رُءُوسِهِمْ شِبْرًا، رَجُلٌ أَمَّ قَوْمًا وَهُمْ لَهُ كَارِهُونَ، وَامْرَأَةٌ بَاتَتْ وَزَوْجُهَا عَلَيْهَا سَاخِطٌ، وَأَخَوَانِ مُتَصَارِمَانِ" (رواه ابن ماجه)، ومتصارمان: أي متقاطعان متباغضان متنافران.

وانظر أخي الكريم إلى ملايين القضايا التي تعجُّ بها المحاكم ومجالس الصلح التي تملأ المدن والقرى والنجوع؛ لتدرك حال المجتمع وما وصل إليه، ولتعرف عظم مسئولية أهل الإصلاح في علاج الشحناء بين المسلمين.

وأقدِّم لمشروع ليلة القدر هذا العام بعد هذا البيان، وأقول هيا بنا جميعًا نكون من أهل الإصلاح بين الخصوم.. تعالوا جميعًا لإصلاح ذات البين.. هلمُّوا إلى التقريب بين المتباعدين لعلنا ندعو الله ونحن موقنون بالإجابة في ليلة القدر أن يستجيب لنا.

واستمرارًا لدرجة الصائم القائم بعد رمضان، أخرج الترمذي وصححه من حديث أبي الدرداء قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ألا أخبركم بأفضل من درجة الصيام والصلاة والصدقة؟ قالوا: بلى قال: صلاح ذات البين؛ فإن فساد ذات البين هي الحالقة" ويُروى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "هي الحالقة، لا أقول تحلق الشعر ولكن تحلق الدين".

وعنوان الفساد في الأرض هي القطيعة، واقرءوا ما شئتم ﴿فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِن تَوَلَّيْتُمْ أَن تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ﴾ (محمد: من الآية 22).

ودور المسلم الصادق الذي يريد أن يتقرَّب إلى الله تعالى أن يصلح بين المتخاصمين، وأن يكون دواءً لمرض الشحناء في نفوس البشر، وأن يكون أداةً لإطفاء الفتن التي أمر الله عزَّ وجلَّ بإطفائها وحذرَنا منها، وبيَّن أنها أشدُّ من القتل ﴿والْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ﴾ (البقرة: من الآية 191).

ومما يدل على عظم فضيلة إصلاح ذات البين أنها كانت أول قضية تكلَّم فيها القرآن بعد غزوة بدر ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَنفَالِ قُلِ الأَنفَالُ لِلّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُواْ اللّهَ وَأَصْلِحُواْ ذَاتَ بِيْنِكُمْ وَأَطِيعُواْ اللّهَ وَرَسُولَهُ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ(1)﴾ (الأنفال)، وأمر الله المؤمنين ألا يروا فئتين متخاصمتين إلا ويبادروا بالإصلاح بينهما ﴿وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا﴾ (الحجرات: من الآية 9)، وعَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ "أَنَّ أَهْلَ قُبَاءٍ اقْتَتَلُوا حَتَّى تَرَامَوْا بِالْحِجَارَةِ فَأُخْبِرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِذَلِكَ فَقَالَ: "اذْهَبُوا بِنَا نُصْلِحُ بَيْنَهُمْ" (رواه البخاري)

ومن أسباب إباحة الكذب: الإصلاح بين الناس، فعن أُمَّ كُلْثُومٍ بِنْتَ عُقْبَةَ أَخْبَرَتْهُ أَنَّهَا سَمِعَتْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: "لَيْسَ الْكَذَّابُ الَّذِي يُصْلِحُ بَيْنَ النَّاسِ فَيَنْمِي خَيْرًا أَوْ يَقُولُ خَيْرًا" (رواه البخاري).

وهنا مفسدتان: الكذب والقطيعة، والإسلام يرى أن القطيعة أشد وأكثر تأثيرًا في المجتمع من الكذب، فيبيح الكذب في هذه الحالة؛ ليمنع القطيعة، سواء كان ذلك إصلاحًا بين رجل وامرأته أو بين أخوين متخاصمين أو حتى عائلتين.

والواقع المجتمعي يؤكد ضرورة وأهمية المشاركة في مشروع ليلة القدر لهذا العام على كل المستويات فيمن يعملون في حقل الدعوة ويتحملون عبء إصلاح المجتمع؛ لتعود قوة الرابطة بين الإخوان، ويسود التآلف والأخوَّة محل التنافر والتشاحن، بل على كل مسلم يبتغي مرضاة الله وثوابه؛ لننطلق إلى أحد أسباب إجابة الدعاء في ليلة القدر.

والله أدعو أن يصلح ذات بيننا، ويصلح فساد قلوبنا، ويأخذنا إليه؛ أخذ الكرام عليه.. اللهم آمين.