بقلم: يحيى بياض

الرفاهية ليست فقط سلوك معيشة، ولكنها أيضًا حالة نفسية مؤثرة على القرار, فالاستمتاع بمتع الحياة الدنيا (الحلال طبعًا) يُصَعِّبُ الأمر أمام الانخراط في تكاليف دعاية من أمرٍ بمعروفٍ ونهي عن منكر, تكاليف تبدأ من التوبيخ وقد تصل إلى ما وصل إليه (قطب) أي إعدام، ولما أراد البدوي صُحبة المصطفى صلى الله عليه وسلم في الجنةِ سأله عن المقابل فقال له المصطفى صلى الله عليه وسلم: "يُعقر جوادك ويُراق دمك"، والنص واضحٌ وصريحٌ فلا تأويلَ فيه لأصحابِ الاجتهاداتِ والخياراتِ قليلة أو معدومة لثمن هذه الصحبة، وإن كان هناك خيارات أقل في درجاتِ الجنة, ومعلوم للكافة أنَّ بالجنة درجاتٍ تختلف باختلاف أعمال المرء واستمساكه بعقيدته.

 

فأجهزة تكييف السيارات والدور والقصور وما شاكل ذلك من متاع الدنيا (المباح) في عصر القنوات والدشوش التي تنقلك بين القاراتِ في ثوانٍٍ معدودات, تُصَعِّبُ من دفع فاتورة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وتضع أمامها الكثير من العقبات- حتى ربما تسد الطريق-، "وإنِّ الأمةَ إذا رتعت في النعيم وأنست بالترف وغرقت في أعراضِ المادة ونسيت احتمال الشدائد ومقارعة الخطوب والمجاهدة في سبيل الحق, فقلْ على عزتها وآمالها العفاء" (رسالة إلى أي شيءٍ ندعو الناس).

من أجل هذا كانت هذه الكلمات..

 

بداهةً أقرر أنني مع مَن يقول إن سيد قطب بشرٌ ليس معصومًا بل يخطئ ويصيب، يؤخذ من كلامه ويرد بالضوابط الشرعية، ثم إنه- رحمه الله- غير محتاج لكلمات من مثلي يدفع عنه مُدَى وسُيوفَ الأشاوس عن جسد بَلِيَ وغاب صاحبه، فتحولوا إلى أفكاره وكتبه رغم مرور أربعين عامًا على قَتلَة الغِيلَةِ لكتم ما يتوهمونه آخر الأنفاس.

 

وبداهةً أنا لا أتكلم عن أصحاب أفكار (التأسلم) لا لأني أحادي الفكر، أو استقصائي لآراء الغير ولكن البديهيات المقطوع بصحتها- بعد نشر جريدة الأهرام وغيرها وثائق أل كي. جي بي. من كشوف العملاء على مستوى العالم- ومنها مصر- ومرتباتهم الشهرية فلم ينكر السادة الأفاضل (الشغل الآن على المكشوف) ومن قبل ما كان ينشره صاحبها من الفكر الماركسي الإلحادي، فلما دالت دولة السوفيت نقل الولاء إلى الفكر الجديد وحالات الخوار، لكن الحقيقة- التي تحمد له!!!- أن له موقفًا ثابتًا رغم تذبذبه بين الشرق والغرب، لكنه ثابت ثبوت الجبال الرواسي في عدائه للإسلام والأغرب من ذلك قوله (إن حسن البنا المرشد العام الأول للجماعة بأنه البذرة الصالحة وسيد قطب بأنه الثمرة الناضجة للإرهاب الحالي) مقال بالعربية 29 سبتمبر 2006م.

 

ولأن هؤلاء العملاء- وبالبلدي أو الشرعي- من يدينون بالولاء للشرق أو الغرب- أي الولاء لأعداء الإسلام-، واضحون، فنحن لا ننشغل بهم.. ولا يغضب الأحباب أصحاب نظريات الطبطبة والخوف من لفظ العملاء وأنه لا بد أن نكفي على اللفظ (مأجور) حتى لا تخرج الروائح- روائحهم هم- وبالتالي يغضب الحاج (بوش) وأخونا في الإنسانية (بنديكت) وتمطر سماء الجبن لعنات النظام أحادي القطبية فنهرع إلى الجحور، دُستور يا أسيادنا دُستور، طالبين العفو والسماح من حورس وبتاح وإنا إلى الأسرة الدولية راجعون، تائبون، عن جهادنا وتاريِخِنَا ونِشر الدعوة نادمون.

 

كذلك المدعو برنارد لويس وأشباهه، ليسوا داخلين في حساباتنا، لا لشيء إلا لأنهم وهبوا حياتهم لحرب الإسلام وأهله مغطين كل الدعاوى بغطاء التحقيق العلمي والدقة، مع العلم بأن كل هؤلاء المبشرين كانوا- وهم رجال دين للكنيسة- كانوا حراب الحملات العسكرية وسُيوفها، موظفين كل ما جمعوا من معلومات في خدمة هذه الحملات، ثم بعد نجاح الاحتلال لبسوا أثواب العلم والمعرفة والتحقيق، والقسيس (دانلوب) مؤسس التعليم العلماني التغريبي ومستشار وزارة المعارف، مثل أوضح من أن يناقش، هؤلاء ليسوا داخلين في حساباتنا.

 

أما من نُدخلهم، وهم المنوط بهم هذا الحديث، هم من ينتسبون للدعوة الإسلامية خاصة بل وقد يتصدرونها، فأقول: يا أحبتي قد يقف جهدي عند حد ما لا أستطيع إكماله- إن جهدًا وإن قَدرًا- وتذكروا معي موقف جبريل عليه السلام في رحلة الإسراء لما توقف عند قَدرِّ معين طالبًا من المصطفى- صلى الله عليه وسلم- إكمال الصعود وبالقياس مع الفارق- ولا أقول بتكفيرهم أبدًا- حتى لا يساء الفهم- فإذا كان إخواننا قد وقفت إمكانياتهم عند إنشاء جمعية منع المسكرات، أو جمعية تنمية المجتمع، أو معونة الشتاء- وكلها أعمال بر وخير لا تنكر- أو حتى جعجعات أمام الميكروفونات تطالب بالرجوع لأخلاق الإسلام، وقديمًا وقف المفتش الإنجليزي- أثناء سيره في الريف المصري ومعه أغنامه دخلت حقل فلاح، وقف في الجانب الآخر من الأرض رافعًا يديه إلى السماء يدعو عليه فسأل (غفيره) المرافق عما يقوله الذي يدعو، فخشي الغفير على قريبه فقال للمفتش إنه (يهلوس) فسأله المفتش هل هذه الهلوسة تَضُرُّ الغنم فأسرع قائلاً: لا أبدًا لا، فقال المفتش إذًا لا بأس دعه يهلوس.

 

كما أني- تأديةً للأمانة- أدرك أثر التعذيب على إحناء هامات الرجال واقرؤوا معي كلما شاهدت على شاشة التلفاز توبة واحد من أولئك (العلماء في بلد عربي) أمام الشيطان (رجل الأمن)- تداعت إلى ذاكرتي على الفور أنماط التعذيب التي يمكن أن تكون قد مُورست عليه.. أنماط التعذيب التي أثبتتها الوثائق الرسمية وتقارير الطب الشرعي وحيثيات أحكام المحاكم.. ولننتقل على الفور لنموذج من نماذج التعذيب:

 

قبل التعذيب توضع الغمامة على عيون الضحايا، ثم يجبرون على الجري بالضرب بالعصا فيسقطون على السلالم عدة مرات، وقبل دخول غرفة التحقيق يجري ما يسمى (تسخين الضحية) للتعذيب بالضرب على القفا والوجه والإلية بالعصا وتستهدف أسئلة المحقق الحصول على المعلومات مع اللجوء إلى السب والتوبيخ والتهديد بهدف تحطيم المعنويات ثم يبدأ التعذيب بعد نزع ملابس الضحية، وتستخدم الأساليب التقليدية المعروفة في التعذيب من الضرب بالسياط والكابلات الكهربائية والتعليق في أوضاع مركبة من المعصمين لأعلى مع رفع القدمين قليلاً عن الأرض، أو في وضع (الشبح) أو (الذبيحة) أو (الخروف المشوي) واستخدام الصدمات الكهربائية في أجزاء حساسة من الجسد كالخصية والأعضاء التناسلية واللسان وحلمتي الثدي وشحمة الأذنين ومقدمة الإصبع، فضلاً عن نتف اللحية وشعر العانة.

 

من الوسائل الشائعة أيضًا في التعذيب: (المرتبة الكهربائية) وهي عبارة عن مرتبة من الإسفنج مبللة بالماء يربط بها الضحية ثم توصل بها الكهرباء فتسري في جسده.

 

كما تستخدم المياه المثلجة في التعذيب خاصةً في الشتاء القارس؛ حيث تصب على جسد الضحية ورأسه بعد تعرضه لجرعات مطولة من التعذيب لفترة قد تصل إلى 8 ساعات.

 

ومن وسائل التعذيب التي استخدمت في بعض المعسكرات تجريد الرهائن من زوجات الهاربين من ملابسهن، ووضعهن عراة مع متهمين عراة داخل حجرة مغلقة..(مقال د. محمد عباس.. تعبيرًا عن واقع بغيض).

 

لكن يا إخواننا الأكارم- من أراد أن يعقر جواده ويراق دمه، فلا تمنعوه ولا تعطلوه، ولا يحق لكم ذلك- تحت دعاوى التعقل أو الحرص على أرواح تذهب هدرًا، أو الحرص على مجموعات تعيش في الغرب أو حتى لا يساءُ فهم الإسلام من الغربيين الودعاء الطيبين الباحثين عن الحقيقة أينما وجدوها، في أفغانستان بقتل الأطفال والعزل لإخراج الأرواح الشريرة من المسلمين أو في العراق بِرَيّ أرضها بدماء أهلها مطهرينها من معاصي صدام، أو الصومال بعملية إعادة الأمل في نشر ديمقراطية الغرب أو... أو في بقاع الدنيا، يريدون لنا الخير والديمقراطية والحب بدلاً من التشاحن والتدابر.

 

وأنا أعتقد- مع كل التقدير لهذه الأسباب- أنها غير دقيقة، وإنما هي ستار لتغطية الضعف البشري- وهو أي الضعف البشري- رخصة فردية- وليست صفة أمة تقود، فنحن خير أمة أخرجت للناس قدوةً وقيادةً، شامةً في جبن الدهر، تقتدي بأولى العزم من الرسل وأولهم محمد- صلى الله عليه وسلم-، ترفع لواء الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.. ﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنكَرِ﴾ (آل عمران: 110)، وفي الحديث: "لتأمرون بالمعروف ولتنهون عن المنكر أو ليسلطن الله عليكم شراركم فيدعو خياركم فلا يُستجاب لكم".

 

وأول هذه المنكرات اغتصاب حق وضع مناهج تُنظم حياة البشر في سائر شئون الحياة وأولها الصلة به (العقيدة) وأحيل القارئ الكريم إلى كُتَيِّبَين للشهيد سيد قطب وهما (هذا الدين) و(المستقبل لهذا الدين) بخلاف الظلال ففيه تفصيل لهذا المجمل (حق التشريع للعباد).

 

وأما تحميل الشهيد أخطاء ضعفنا وعدم ارتفاعنا وتنسمنا ريح الجنة، فلا يعيب الجنة وإنما يعيبنا تقصيرنا وأُذكِّر بما قال الشاعر (يموت راع الضأن في حقله  ميتة جالينوس في طبه).

 

فكما يموت راع الضأن ولا يخلد، كذا يموت راع المكيفات الصامتة (الإسبِلِت)، ويموت الفلاح الفقير في الهجير فكم المتع ليست مواصفات تغير من طبيعة الموت أو الجزاء بعده، ولو كان ذلك كذلك لكان صاحب الجنتين (في سورة الكهف) أوفر حظًّا وكان قارون أعلى منه قدرًا، إنما الذي يُغيِّر هو إيمان بالمنهج وعمل دؤوب لتطبيقه لا يغيره مللٌ ولا كللٌ، وتضحية عزيزة- قد تصل إلى التضحية بالنفس- في سبيل إنقاذه لا يعدوا عليها غدر ولا خديعة، وكيان (جماعة) يسعى مجتمعًا لتنفيذ هذا المنهج متحملاً كل التكاليف، والآخرون ممن لا يدفَعون هذه الضريبة، مؤمنون لا يكّفرون- أبدًا، لكن الحق سبحانه فََصَلَ في الموضوع حتى لا يظلم أحد بنص صريح فقال عز من قائل: ﴿لا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُوْلِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلاً وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا (95)﴾ (النساء).

 

وأما أن كلمة الجهاد تُستَر- على الأقل الآن- فالجهاد هو الفريضة الماضية إلى يوم القيامة والحديث "من مات ولم يغزو ولم يحدث نفسه بالغزو مات ميتة جاهلية"، ولا تحيا الدعوة إلا بالجهاد وبقدر سمو الدعوة وسعة أفقها تكون عظمة الجهاد في سبيلها، وضخامة الثمن الذي يتطلب لتأييدها (رسالة التعاليم)، فَستَرُ (الجهاد) هذا والله إثم كبير، وقول ذلك- تحت دعاوى التنفير من تكفير المجتمعات- تحميلهم تبعات ذلك فإثمه أكبر، ولا أدري بماذا يُفكر إخواننا المرفهون- كيف يتقبلون- أولي الأمر في بلادهم وهم النشيطون في حرب كل مظاهر الإسلام، الحريصون على تجفيف منابعه في بلادهم، أو بالولاء الظاهر أو الخفي للأمريكان والأوروبيين واليهود ومناصرة كل ناعق من ماسونية، أو قومية، أو علمانية العداء للدين- بل والمؤسف تلمسهم الجلوس معهم لتوضيح مسالمة الدعوة الإسلامية لهم وأنها ليست (كُخَّـه) كما يتصورون بل حلوة ولذيذة الطعم ومقلمة الأظافر ولا تهش ولا تنش وتصلح ديكورًا جميلاً للصالون (الدولة) يا أصحاب السمو والفخامة، فقط جربونا ولمرة واحدة- في استجداءٍ مهينٍ لدعوة ودين.

 

والحق تبارك وتعالى خاطب المسلمين في أشد حالات الضنك مثخني الجراح، بعد الانصراف من غزوة أحد فقال لهم سبحانه وتعالى: ﴿وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمْ الأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (139)﴾ (آل عمران)، وقوله سبحانه وتعالى ﴿إِنَّمَا ذَلِكُمْ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِي إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (175)﴾ (آل عمران) فمَن يرفع هذا اللواء لا يتركه ينحني حتى لو قطعت عَضُدَيهِ، واسألوا جعفر الطيار- رضي الله عنه- كم هي حلوة رائحة الجنة، أو زيد بن حارثة- رضي الله عنه- وإن شئتم فارجعوا بدرًا واسألوا عُميرِ بن الحمام- رضي الله عنه- لماذا قال بَخٍ بَخٍ وهو يقول- بعد رمي تمرات كانت في يديه- "لئن عشت لآكل هده التمرات إنها لحياة طويلة. وقد سمعوا قول القائل:﴿وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ (133)﴾ (آل عمران) وقوله سبحانه وتعالى ﴿فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ...﴾ فنادى داع الجهاد ﴿وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى..﴾ فطار إلى الجهاد (حنظلة-غسيل الملائكة ) رضي الله عنه حتى قبل الاغتسال استعذابًا لما عنده سبحانه وتعالى مما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطرَ على قلبِ بشر واستصغارًا لشان دنياهم.. لما سأل عليه الصلاة والسلام أصحابه في مروره على جيفة "أيكم يشتري هذه بدرهم" فتعجَّب صحابته صلى الله عليه وسلم قائلين: أينا يفعل؟.. فقال عليه الصلاة والسلام: "للدنيا أهون عند الله منها".. الدنيا مجتمعة بناطحات سحابها وصواريخها عابرة القارات وأجهزة سوبر كمبيوتر وذهبها وخيراتها أرخص عند الله من هذه الجيفة التي رفض أصحابه شراءها.

 

وأما التراشق باتهامات التكفير وبذل الجهد لحصر ما يتصور أنها سقطات أو زلات لسان والإصرار عليها فأمرٌ محزنٌ وليس مَعِيبًا فقط، بل لا يليق بشيَمِ الرجال، فضلاً أن صاحب الأمر غائب وتلاميذه مغيبون، وحتى لو كان ذلك تحت دعاوى تصحيح المفاهيم.

 

أما الأخ الكريم صاحب مقال (لماذا انحسر فكر سيد قطب) (إسلام أون لاين 10/10/2006م)، فأبشره بخطأ العنوان وأقول كطريقةِ إعلانات وزارة الصحة (انظر حولك) تجد أنَّ الذي اِنحَسَرَ هم الرجال الذين (تَرفهوا)، وجنحوا وآووا إلى ظلٍّ لا ظليل...- يزول في القريب- وأما فكر سيد قطب تلميذ حسن البنا القائل: "بل أنتم روحٌ جديد يسري في هذه الأمةِ فيحييها بالإيمان" (رسالة دعوتنا)، "سيد قطب رحمه الله تعالى هو النتيجة الجيدة، والموقع المتقدم بعد حسن البنا" (أبو قتادة- الجهاد والاجتهاد: تأملات في المنهج)، وأما أن فكره يعني قيام فئة مؤمنة تحمل الحق وتدافع عنه وتموت في سبيله، فهم موجودون يعيشون لآخرتهم لا يضرهم من خالفهم، وكلماته- رحمه الله رحمةً واسعة: "إنَّ كلماتنا تبقى عرائس من الشموع حتى إذا متنا من أجلها دبَّت فيها الحياة وعاشت بين الأحياء".. فكان دم حسن البنا أول هذه الدماء ثم كَمٌ من دماء الشهداء في فلسطين عام 1948م وفي القنال عام 1951م وأنهار الدماء في مذبحتي 1954م و1965م تجسيدًا حيًّا ورِيَّا صحيحًا لشجرةِ الدعوة

 

وبصرفِ النظر عمَّا ورد في المقال من كلمات (مُجَعلَصَةٌ) أي سمينة (السيرورة التاريخية، الإحيائية القطبية- فالرؤيويةُ القطبيةُ انقلابيةٌ- ثوريةً تأصيليةً وإحيائية) فقد تفرَّغ الأخ لإعدام ما بقي من فكرِ سيد قطب- كما يظن- بذكاءٍ شديدٍ إذْ قدَّم في مقدمة المقال إنكاره لإعدامِ الشهيد وخوف الناس من حتى إعلان رأيهم في ذلك خاصةً الطلاب العرب خوفًا من العقوبات ثم راح يطعن الأستاذ الشهيد: {فإنّ "سيدًا" ما كان يملك إجابة عن العمل}، {أنَّ "سيدًا" ما كان عالمًا بالفقه ولا بالحديث} أو{أنّ "سيدًا" ما فكَّر كثيرًا بالنتائج المترتبة على الجاهلية المدَّعاة} أو {بيان "سيد قطب" فرقعةً عنيفةً}، أو {وأُطروحة «الحاكمية» ليست له، بل هي لأبي الأعلى المودودي، زعيم «الجماعة الإسلامية» في باكستان} وهكذا أصبح الشهيد- في نظر الأخ الفاضل- إنسانًا جاهلاً بالفقه وبالحديث فوضويًّا، انقلابيًّا، صاحب (بتاع) فرقعات كلامية، والنتيجة لذلك- لم يُصرِّح بهذا- دَعُوكُم من شطحاتِ الإحياء والدعوة إلى الاجتماع على الاستمساكِ بالحق، وفضونا من حكايةِ قيام الفئة المؤمنة والمجتمع المسلم، وحكايات الحاكمية التي اكتشف الكاتب فجأةً أنَّ الشهيد سرق براءة اختراعها من مولانا أبو الأعلى المودودي، وفضونا من هذه السيرة، وإنا لله وإنا إليه راجعون.

 

أما الأخ الكريم صاحب مقال بعد مائة عام من ميلاده.. ماذا تبقى من فكر سيد قطب؟؟ (إخوان أون لاين- 14/10/2006م) فقد بشرَّنا أيضًا بأنَّ أهم ما بقي لنا من سيد قطب هو الأدب- وبمفهوم المخالفة- لا شيء في الدعوة أو العمل الجهادي أو إحياء الجماعة (أهم ما تبقَّى من فكره بعد أربعين عامًا من استشهاده أنه أديبٌ ألمعي، وناقدٌ أدبي، وشاعرٌ حتى النخاع).

 

ما شاء الله، شكرًا على هذا التقريظ وحتى (الظلال) الذي ما أنكر حلاوته إلا كاره!!!- هو كذلك كتاب أدبي رائع (في ظلال القرآن" الذي يعتبر ثمرةً طبيعيةً لفكره اللغوي والنقدي والأدبي).

 

وهكذا انتهينا إلى أنَّ سيد قطب أديبٌ رائع ما أروعه أديبًا، والكاتب بعد أن غربل دمه وجهاده، الحمد لله طلع لَنَا بـشوية (أدب)، ودعوكم من حكايةِ الفئة المؤمنة والحاكمية والجاهلية- وهذا الكلام غير المناسب في زمنِ الشرعية الدولية.

 

عاد الكاتب وناقض ذلك بـ(فإن تفسير سيد قطب تجربة متميزة في تاريخ التفسير القرآني، تستنزل هدايات القرآن ليعالج بها أمراض الواقع مما أبرز القرآن كتابًا حركيًّا يتماشى مع كل الأجيال، ويصلح لكل العصور).

 

ولا أدري ماذا يفعل الأخ الكريم في آيةِ سورة يوسف ﴿إِنْ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ﴾ (يوسف: من الآية 40) وقوله سبحانه وتعالى﴿وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ﴾ (المائدة: من الآية 44) وغيرها من الآيات، فهل هناك مَن يقول بغير ذلك وهل يجيز أي فردٍ ينتمي للإسلام- أي تشريعٍ لغير الله (وبديهي أنني أتكلم عن الأصول لا قانون المرور)، لا أعتقد وقول الحق تبارك وتعالى مخاطبًا أمهات المؤمنين ﴿وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأُولَى﴾ (الأحزاب) وقوله صلى الله عليه وسلم لأبي ذر"إنك أمرؤ فيك جاهلية" وهل نرفع لفظ "الجاهلية" من مناهجنا بناءً على طلبِ العلمانيين والأخت كوثر كوجك مديرة مركز بحوث تطوير التعليم أو الحاجة مونيكا شافيز الأمريكية مدير مشروع جودة المدارس المصرية (كده عيني عينك).

 

ولماذا هذه الحساسية من ألفاظ شرعية- استخدمها الشهيد بوجهٍ من الوجوه- سمِّه ما شئت- ليعبر عن جديةِ الالتزام وأخذًا بعزائم الأمور ورفعةً لشأن (الجهاد ) الذي صار إرهابًا واستمع لقوله- رحمه الله في فصل (نقلة بعيدة من كتاب معالم في الطريق 206): "لن نتدسس إلى الناس بالإسلام تدسسًا ولن نربت على شهواتهم، وتصوراتهم المنحرفة، سنكون معهم صرحاء غايةَ الصراحة، هذه الجاهلية التي فيها خبث، والله يريد أن يطيبكم".. واستشعر معي- أخا الإسلام- حلاوة استعلاء الإيمان.

 

يا أخا الإسلام.. سيد قطب قدَّم روحه راضيًا- بائعًا في سوقِ الجنة ربح فيه مَن ربح وخسر فيه من خسر- قدَّمها لله رب العالمين تجارةً رابحةً لن تبور ولو أراد الشهيد- لا أقول أن ينجو بنفسه- بل ليلتقط أنفاسه بعد عشر سنوات من السجن والتعذيب- لو أراد لقبل عرض الرئيس عبد السلام عارف بتعيينه مستشارًا في الحكومة العراقية وقبلها رفض عرضًا من العبد الخاسر في عام 1953م لتعيينه وزيرًا تابعًا مما ألَّبََهُ عليه، وانظر في محاكمته الأولى وكانت المحاكمة مفتوحةً ويرأس محكمة الشعب فيها جمال سالم وحوله عضوان حسين الشافعي وأنور السادات، ولقد أبدى سيد قطب جرأةً نادرةً أمام ما يُسمَّون بالقضاة، فلقد خلع قميصه أمام المحكمة وقال بسخرية: انظروا يا قضاة العدالة!! ثم قال نحن نريد أن نسأل، أيُّنا أحق بالمحاكمةِ والسجن نحن أم أنتم? إنَّ لدينا وثائق أنكم عملاء للمخابراتِ الأمريكية، وبدأ يسرد الوقائع والوثائق التي تصمهم بالخزي وتسمهم بالصلاتِ المشبوهة بكافري-السفير الأمريكي آنذاك- مما اضطر جمال سالم أن يرفع الجلسة ويُغلق المحاكمة.

 

وفي شرحه لقصةِ أصحاب الأخدود يقول: "لقد كان في استطاعة المؤمنين أن ينجوا بحياتهم في مقابل الهزيمة لإيمانهم، ولكن كم كانوا يخسرون هم أنفسهم، وكم كانت البشرية كلها تخسر؟ كم كانوا يخسرون وهم يقتلون هذا المعنى الكبير؟ معنى زهادة الحياة بلا عقيدة، وبشاعتها بلا حرية، وانحطاطها حين يسيطر الطغاة على الأرواح بعد سيطرتهم على الأجساد). المعالم فصل (هذا هو الطريق): ص(532).

 

لكن سيد قطب قدَّم روحه راضيًا يوم قعدت همتي وهمتك عن نصرةِ دينه واختبأ أفضلنا خلف لِحَى طويلة وعباءة بيضاء هفهافة وسيوف خشبية خضراء مشرِّعة نناطح بها طواحين الهواء ورضينا بالضرع والزرع (متاع الحياة الدنيا الحلال من فيلات متعددة الأدوار وفاره السيارات وزوجات أو زوجة حسناء).

 

وقال تلاميذه لماذا كنت صريحًا كل الصراحة في المحكمة التي تملك عنقك? فقال: "لأن التورية لا تجوز في العقيدة، ولأنه ليس للقائد أن يأخذ بالرخص".

 

وأقول لأخي الكريم إنَّ سيد قطب أحد الرجال الذين- فيما أفهم- عناهم الحق تبارك بقول: ﴿مِنْ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ...﴾ (الأحزاب: 23) فهو أحد فرسان هذه الدعوة الخلاقة- دعوة الإسلام- وستبقى الشعلة وهَّاجة إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، رضيت أنا وأنت أم كرهنا، سرت أنا وأنت في ركابها أم تخلَّفنا فسوف يأتِ الله بقوم يحبهم ويحبونه يحملون اللواء حتى تقوم الساعة، ويومئذٍ يفرح المؤمنون.

 

لكن عجبي يزول في بلدٍ تحتفل بذكرى العندليب شهرًا كاملاً تدَبَّجُ فيه الكلمات وتقام فيه الاحتفالات وتُعرض الأفلام وهو الذي كان يغني (قََدَرٌ أَحمِقُ الخُطَى، وأغنية- ولا هرضَى بالمكتوب- هذا بخلاف تهريبه الدولارات) فضلاً عن السندريلا وما أدراك، واقرؤوا كتابات اعتماد خورشيد وغيرها، ثم لما شاخت- السندريلا- انتحرت!!!، وليس آخر المحتفى بهم- في مصرنا الحزينة- شاعر سويدي مغمور وتقام الدنيا ولا تقعد وتتضارب الدعاوى القضائية فيما بينهم على الأحقياتِ لكن لا أحدَ من هؤلاء ينطق بكلمةٍ عن الشهيد، لكن خانك وخذلهم رجلٌ صعيدي ومسيحي من أخميم- سوهاج أقام احتفالية في لندن في ذكرى مئوية ميلاد الشهيد وأربعينية استشهاده- الكاتب وديع فلسطين- تلميذ بار بأستاذية الشهيد وأمانة افتقدوها (أبو الهولات- جمع أبو الهول) الكرتونية، المصرية منها والعربية، حتى ولو في النقد أو في الأدب العربي فكأنما بهذه الاحتفالية ونشره سبعًا من رسائل الشهيد إليه عَرَى هذه الشخوص أو أعواد الشجر الجافة في خريفِ العمر كأنها أعجاز نخل خاوية، فضلاً عما يمثله ذلك استمرارية الصلة بالأخوة المسيحيين قاطعًا أَلسِنَة مُهَيِجِي فيلم (الفتنة الطائفية) (مقال السيدة صافي ناز كاظم، الشرق الأوسط10/10 ).

 

رحم الله الشهيد وجعلنا- يا رب كلنا- على دربِ أولى العزم من المرسلين وأولهم محمد صلى الله عليه وسلم، ومن تبعهم من العاملين الجادين بلا زيف وطنين وفضائيات تضيء بصور ولقاء المشايخ (الحلوين).. وآخر دعونا أن الحمد لله رب العالمين.