لا يحتاج المهتم بأحوال بلاده، سواء كان مسئولا كبيرا أم مواطنا بسيطا، أن يكون بروفسورا في العلوم السياسية، أو يكون صاحب تجربة حزبية، أو مثقفا خطيرا أو إعلاميا مطلعا، ليدرك آثار الانقلابات العسكرية على استقرار بلد، وعلى استتباب أمنه، وعلى موازين ضمان العدالة فيه، وما يستتبع ذلك من آثار على الحريات العامة، السياسية والاجتماعية والاقتصادية، بما فيها حريات الملكية والتنقل والتعبير والتجمع والاحتجاج على أشكال الاستبداد والطغيان والظلم وغير ذلك.
لا يُستبعد، رغم هذه المعلومات المعروفة للعموم، وخصوصا عندما تزداد الأزمات الاجتماعية والاقتصادية في بلد ما، أن يفكّر كثيرون بإمكانية حصول خلاص سريع من أزمات البلاد، فتنتشر الآراء التي تدعو لانقضاض الجيش على السلطة والتخلص من ضياع الوقت الذي يزجيه الساسة في إنجاز تسويات بين الأحزاب أو بين الرئاسة والحكومة والبرلمان، وتسليم شؤون البلاد لزعيم «منقذ» يأمر فيطاع ويقرر فتجري شئون السياسة والاقتصاد والاجتماع كما يجري الجنود إلى الحرب.
تفترض هذه الدعوة طبعا أن قادة الجيوش من طينة أخرى ليست من الطينة التي جُبل منها الساسة وقادة الأحزاب والبرلمانيون والمثقفون والإعلاميون، وأنهم منزّهون عن الفساد، أو أنهم سيقومون بمحاربة خصوم المستجيرين بهم، وسيرفعون من شأن الساسة الذين دعوا لاستلامهم السلطة، متجاهلين أن السلطات العسكرية تحتقر السياسة والساسة عموما، كما تكره الأحزاب والبرلمانات والقضاء، وأنها الباب الأوسع نحو فساد لا أحد يستطيع مجاراته أو محاسبته، وإلى قمع يطال الخصوم والأصحاب (حين تُحيج الحاجة) ولا ضامن للمستجير بهم أو حتى من يستعينون به هم أو أحد الانقلابيين أنفسهم أن يزج به في السجن أو يُضطهد أو يغتال (كما حصل في العراق وسوريا ومصر والجزائر، وقد شهدت الأخيرة اغتيالا على الهواء مباشرة للرئيس محمد بوضياف على يد مرافقه العسكري).
شغلت أحاديث الانقلابات، وقضايا استدعائهم، مباشرة أو مداورة، أكثر من بلد عربيّ، كما حصل في تونس، التي تعاني من أزمة سياسيّة بين الرئيس قيس سعيّد، ورئيس الحكومة هشام المشيشي، وقد تداولت وسائل إعلامية خطة مزعومة نُسبت إلى أطراف داخل جهاز الرئاسة تقترح ما يشبه الانقلاب العسكري، وقد لقي هذا الأمر، الذي نفته الرئاسة، من جهة، لكنّها ألمحت إلى إمكانية استخدام المادة 80 في الدستور التي تمنح الرئيس، في حالة الطوارئ الوطنية، سيطرة كاملة على الدولة.
وكان مضيّ الجنرال الليبي خليفة حفتر في استعراض قواته العسكرية في مدينة بنغازي، شكلا آخر من أشكال الانقلاب العسكري على الحكومة المعترف بها دوليا، حيث صرح أن الجيش «لن يتردد في خوض المعارك من جديد لفرض السلام بالقوة» وهو ما دفع المجلس الأعلى للدولة الليبية لاعتبار قوات حفتر «ميليشيا خارجة عن القانون» ودعوة المجتمع الدولي «لوقف التعامل مع حفتر».
غير بعيد عن ليبيا وتونس كان هناك مثال آخر جديد عن فجاجة الانقلابيين واستهتارهم بالبلاد والشرع الدولية وبالسياسيين، بمن فيهم الساسة الذين يختارونهم هم أنفسهم، حيث قام قائد الانقلاب في مالي الكولونيل اسيمي جويتا، بانقلاب جديد اعتقل خلاله رئيس البلاد المؤقت باه نداو، ورئيس الوزراء مختار وان، ووزير الدفاع سليمان دوكور، وذلك لتجرؤ هؤلاء على القيام بتعديل وزاري لم يوافق عليه الجيش، واكتفى جويتا، على ما يبدو، من اللعب وراء كواليس السياسة وقرّر أن يصبح رئيسا مباشرا للبلاد!
ان استدعاء العسكر، بعد أن خاض الشعبان الليبي والتونسي مسيرة طويلة لإنهاء الاستبداد، هو وصفة مجرّبة لخراب البلدين، ولعودة الطغيان القديم، وهو بلاء كبير لن يتوقّف شرّه عند القضاء على الخصوم السياسيين، فآلة القتل والقمع والبطش لا تتوقّف عند القوانين والدساتير والأعراف، وتلتهم، عندما يستتب الأمر لها، كل أشكال السياسة، ولا تتوقف عند ما يقوله الدستور أو القانون أو الشرعية، لأن شرعيّتها، بالنسبة لها، تأتي من القوة والتغلب، وليس من الدستور والقانون.

نقلا عن "القدس العربي"