منذ أعلن الإمام البنا في الناس أن الإسلام نظام شامل يتناول مظاهر الحياة جميعًا، ومنذ صرَّح بضرورة الاستقلال الاقتصادي وقال: "لن يستشعر أحد العزة والكرامة، ويتذوق طعم الحياة الكريمة إلا إذا شبع بطنه، واستغنى عن غيره، وتوفرت له ضروريات حياته".

ومنذ وضع الإمام البنا- رحمه الله- رسالته الشهيرة "مشكلاتنا في ضوء النظام الإسلامي"، وتناول فيها الأوضاع الاقتصادية في مصر وبيَّن مشروع النهضة الاقتصادية كما وضعه الإسلام.

ومنذ أقرَّ أن الإخوان هي شركة اقتصادية؛ لأن الإسلام يعني بتدبير المال وكسبه من وجهه.

منذ ذلك كله والإخوان يعملون على النهوض بالأمة في جميع نواحيها السياسية والاقتصادية والاجتماعية والفكرية والتربوية والثقافية، ويقدمون الدراسات والأبحاث، ويعقدون الندوات والمؤتمرات، لنشر الوعي، وتصحيح المفاهيم، وتقديم الرؤى والمشروعات البناءة والفاعلة.

ولقد برزت أعلام كثيرة من الإخوان المسلمين في جميع المجالات والأنشطة الاجتماعية والمدنية والأدبية والثقافية والحقوقية والعلمية والأكاديمية.

من هؤلاء الأعلام العالم الاقتصادي، والخبير المصرفي والتنموي الأستاذ الدكتور عبد الحميد الغزالي- رحمه الله- الذي اشتغل بالتدريس والتأصيل لنظريات المصرفية الإسلامية، محاولاً إيجاد اقتصاد إسلامي موازٍ للصيرفة التقليدية.

مولده

ولد الدكتور عبد الحميد حسن الغزالي في 23 فبراير 1937م في قرية ميت شهالة، مركز الشهداء، محافظة المنوفية بمصر، في أسرة عريقة، فكان خال والده فضيلة الشيخ عبد المجيد سليم أحد علماء الأزهر الشريف، اهتم والده بتعليمه؛ فألحقه بكتاب القرية؛ ليتعلم مبادئ القراءة والكتابة، ثم التحق بالتعليم الابتدائي.

معرفته بالإخوان

تعرف الدكتور الغزالي على الإخوان وهو في المرحلة الابتدائية، حتى ملأت الدعوة جوانب حياته في شعبة الإخوان في الشهداء، وكان مسئول الطلاب في هذه الشعبة في شبابه، ثم عضو مجلس شورى الإخوان ومسئولاً عن القسم السياسي قرابة ثمان سنوات، والمستشار السياسي للمرشد العام للإخوان الأستاذ مهدي عاكف.

كما أتاح له موقعه بكلية الاقتصاد والعلوم السياسية في جامعة القاهرة الإشراف على نشر دعوة الإخوان المسلمين في جامعة القاهرة، وإعداد الكوادر الطلابية، وقد تربَّى على يديه كثير من شباب الحركة الإسلامية في السبعينيات في ذلك الوقت.

بلاؤه وجهاده

نال الدكتور الغزالي نصيبًا مفروضًا من التضييق والحرمان والاعتقال من قِبَل أجهزة أمن الدولة، وذلك في عهود رؤساء مصر الثلاثة؛ عبد الناصر، والسادات، ومبارك، فتمَّ اعتقاله بسبب انتمائه للإخوان المسلمين ثلاث مرات؛ الأولى في عهد جمال عبد الناصر سنة 1954م وهو في المرحلة الثانوية، والثانية في عهد أنور السادات سنة 1971م في انتفاضة الطلبة، ثم في عهد حسني مبارك في عام 1995م مع مجموعة ما يسمى بحزب الوسط، وحكم عليه بثلاث سنوات.

كما تعرض الدكتور الغزالي رحمه الله إلى التضييق، ومنعه من السفر وحرية التنقل، والبحث العلمي، وحضور المؤتمرات العلمية والفكرية.

كما منعت سلطات الأمن بمطار القاهرة الدكتور عبد الحميد الغزالي أستاذ الاقتصاد بكلية الاقتصاد والعلوم السياسية بجامعة القاهرة؛ من السفر للمرة الرابعة عشرة منذ العام 1999م.

يقول الفقيد الراحل: منذ خروجي من المعتقل في العام 1999م تمَّ منعي من السفر 14 مرة، وسافرت 10 مرات، وفي كلِّ تلك المرات لم تكن هناك قواعد واضحة لمنعي من السفر من عدمه، فالأمر لا يخضع لأية معايير.

وفي تصرف مستفزّ قامت أجهزة الأمن بإنزال الغزالي من الطائرة؛ حيث كان متجهًا إلى اليمن للمشاركة في ندوة دولية بجامعة "الإيمان" عن الأمن الغذائي العربي؛ والمقرَّر أن يكون الدكتور الغزالي محاضرًا رئيسيًّا لها، كما أنه مشاركٌ في الندوة بثلاث أوراق في الندوة، ويأتي قرار المنع رغم حصول الغزالي على تصريح بالسفر من جامعة القاهرة.

الخبرات والمناصب العلمية

شغل الدكتور الغزالي العديد من المناصب الهامة في مجال الاقتصاد الإسلامي، وتنقل بين العديد من الدول العربية والإسلامية والأوربية محاضرًا وخبيرًا ومشرفًا ومستشارًا.. إلخ، فكان مدير المعهد الإسلامي للبحوث والتدريب التابع للبنك الإسلامي للتنمية بجدة سابقًا 1411- 1415هـ، ومدير مركز الاقتصاد الإسلامي التابع للمصرف الإسلامي الدولي للاستثمار والتنمية بالقاهرة سابقًا 1985 ـ 1990م، وعضو مجلس إدارة المصرف الإسلامي الدولي للاستثمار والتنمية 1980 ـ 1990م، ومستشارًا اقتصاديًّا للمصرف الإسلامي الدولي 1985 ـ 1990م، ونائب جمعية الاقتصاد الإسلامي المصرية، وعضو مجلس إدارة مركز الشيخ صالح كامل للاقتصاد الإسلامي بجامعة الأزهر سابقًا، وخبير البرنامج الإنمائي للأمم المتحدة بدولة اليمن سابقًا، وخبير برنامج الأمم المتحدة للتنمية الصناعية بدولة الكويت سابقًا، ومستشار مجلس الوحدة الاقتصادية العربية سابقًا، ورئيس لجنة تنسيق البحوث بين البنوك الإسلامية 1991 ـ 1995م، وعضوًا بالعديد من المؤتمرات السياسية والاقتصادية في داخل مصر وخارجها، ورئيس شعبة الاقتصاد الإسلامي بجامعة أم القرى سابقًا، ووكيل نقابة التجاريين بمصر.

بالإضافة إلى ذلك أشرف على تنفيذ برامج تدريبية لرفع كفاءة العاملين في المصارف الإسلامية، واشترك في العديد من الندوات وورش العمل والمؤتمرات حول المصرفية الإسلامية.

الإنتاج العلمي في مجال المصرفية الإسلامية وغيرها

أثرى الدكتور عبد الحميد الغزالي المكتبة العربية والإسلامية بالكثير من المؤلفات المتفردة في الاقتصاد الإسلامي؛ حتى لُقِّب بـ"أبو الاقتصاد الإسلامي"، ومن أبرزها:

- دراسة جدوى المصرف الإسلامي 1978م.

- الأرباح والفوائد بين التحليل الاقتصادي والحكم الشرعي 1990م.

- حول أساسيات المصرفية الإسلامية، 2001م.

- مذكرات في اقتصاديات السكان.

- مقدمة في الاقتصاديات الكلية.

- مقدمة في اقتصاديات النقود والتوازن الكلي.

- أزهى عصور السلام.

- أساسيات الأصول النقدية وصفيًّا وإسلاميًّا مع الإشارة إلى الأزمة العالمية.

مع الإخوان

اهتم الدكتور الغزالي بإبراز مشروع النهضة الاقتصادية لدى الإخوان المسلمين، وكتب في ذلك بحوثًا ومقالات شتى، ففي دراسة بعنوان "الفكر الاقتصادي عند الإمام الشهيد حسن البنا" أعدها مركز الإعلام العربي ضمن المشروع الإصلاحي للإمام حسن البنا 2007م تساؤلات لقرن جديد" أوضح الغزالي أن الإمام البنا قدم فكرًا ومشروعًا اقتصاديًّا متكاملاً وتطبيقًا عمليًّا لهذا الفكر على أرض الواقع؛ حيث أعاد الإمام البنا المعرفة الاقتصادية إلى مدرسة الاقتصاد السياسي، كأحدث المدارس المعاصرة بديلاً عن مدرسة علم الاقتصاد بتأكيده على التزاوج بين السياسي والاقتصادي، خاصة فيما يتعلق بقضيتي النهضة والتنمية.

يقول الغزالي عن فكر الإمام البنا الاقتصادي

لقد حاولت جاهدًا أن أتخفف من عاطفتي تجاه جماعتي ومؤسسها، وأن أتحلى بقدر من العلمية والموضوعية في عرضي لفكر الإمام الاقتصادي تقييمًا لهذا الفكر، وتقويمًا لمدركاته ومفاهيمه ومصطلحاته، فلم أجد سوى نور الإسلام، وفطرة الرسالة، وحكمة الشرع تحكم هذا الفكر، وتؤطره في بساطة عرض، وجزالة لفظ، وعمق تحليل، ودقة وصحة نتائج، وقلت في بداية فحصي: لقد دخل الإمام البنا في فرع من فروع المعرفة، وهو شديد التخصص وشديد التعقيد، وبالذات جانب التنمية منه، وهو- أي الإمام- ليس من أهله، فلعلي نتيجةً لذلك أجد ما أرده وأصححه، وبعد قراءة نقدية فاحصة لم أجد صورًا حِرَفيةً فنية في التناول ومهنية متخصصة في التحليل وعمق وشمول مناسبين في المعالجة واستخدامًا صحيحًا لأصح المصطلحات وأحدثها أفضل مما رأيت عند الإمام البنا.

كما اضطلع رحمه الله بإبراز أفكار مرشدي الإخوان جميعًا، مؤكدًا التزامهم بفكر الإمام الشهيد حسن البنا، وخطه الإصلاحي العام، فقال عن الأستاذ حسن الهضيبي: بعد استشهاد الإمام سار المرشد الثاني على الدرب نفسه، شديد الالتزام بدعوته، عميق الفهم لعقيدته، حارسًا أمينًا لقوام ووسطية الإسلام، فَتَحْتَ الاعتقال والتعذيب والسجن نادى البعض بدعوى "التكفير"، فرفض المرشد هذه الدعوى الباطلة، وقال كلمته الجامعة: "نحن دعاة ولسنا قضاة"، فأكد طريق الجماعة في الدعوة، وعبر عن منهجها أدق وأبلغ تعبير.

لقد كان مرشدنا بحقٍّ أمين هذه الدعوة وحارسها، والمحافظ الصلب على قوام منهجها، ووسطية توجهها، واعتدال حركتها.

وقال عن الأستاذ عمر التلمساني: لقد حمل عبء الدعوة، كما دعا إليها المستشار حسن الهضيبي: إسلامية صحيحة، سلفية العقيدة، عملية التطبيق، روحانية السلوك، محمدية الخلق، عالية المحتوى، حملها مرشدنا بنفس صافية، وسريرة نقية، وكلام طيب، وعرض جميل، وحوار حسن، ومجادلة لا مراء فيها، فتسابق الشباب على الانضمام إلى صفوفها زرافات ووحدانا، فكان بحق داعيةً موهوبًا، تتلمذ على يد الإمام البنا، وتخرَّج في مدرسته، وانتظم في سلك جماعته، متحملاً ابتلاءاتها بنفس مطمئنة، وصلابة وثبات.

وقال عن الأستاذ أبو النصر: تولى مرشدنا الأستاذ محمد حامد أبو النصر، مسئولية الإرشاد ليتابع بإيمان عميق والتزام شديد مسيرة الدعوة المرتكزة بقوة ودقة على صحيح الإسلام، تستمد منه تعاليمها ونظمها وضوابط حركتها، ووسائلها وغايتها، وله تجاهد، وفي سبيل إعلاء كلمته تعمل، لا تعدل بالإسلام نظامًا، ولا ترضى سواه إمامًا، ولا تطيع لغيره أحكامًا، فكان مثال الدعوة الملتزمة، والرجولة الصحيحة، والأخوة العاملة، المتحلية بالصبر والمثابرة والجد والعمل الدائب، والدائم لنصرة دعوته، ابتغاء وجه الله تعالى، وتحصيل مثوبته ورضوانه.

ومن كتابه "حقيقة الخلاف بين الإخوان المسلمين وعبد الناصر"، الذي يعد شهادة "عدل وصدق" للتاريخ، لا يرجو من ورائها إلا وجه الله تعالى.

وذكر أن صاحب "فقه الدعوة" الأستاذ مصطفى مشهور المرشد العام الخامس للجماعة سار على طريق الدعوة، غير مبدل ولا مغير، يكمل مسيرة سلفه من المرشدين السابقين، بكلِّ إيمان وفهم، وإخلاص وتجرد، والتزام وانضباط، وتضحية وصبر، وحلم وتواضع، فكان بحقٍّ نموذجًا للداعية السلفي المستنير، ومثلاً للقدوة المربي المسئول.

أصدر فضيلته ما يقرب من عشرين رسالة حول الدعوة والداعية، ومشكلات مصر والأمة وكيفية معالجتها، ضمها فيما بعد في مؤلفه "من فقه الدعوة"، وحدد في هذه الرسائل طريق الدعوة وأسسها ومراحلها ومتطلباتها، ودورها في النهضة والبناء، فشكلت هذه الرسائل أساسًا وزادًا لا غنى عنه للدعوة والدعاة، كما عدت تطبيقًا أمينًا، وامتدادًا تفسيريًّا لفكر الإمام الشهيد حسن البنا في أمور الدعوة عامة، وفي مشروع النهضة والتنمية في مصر والأمة الإسلامية بخاصة.

كما قال عن المستشار مأمون الهضيبي

اقتفى مرشدنا، المرشد العام السادس للجماعة، المستشار المأمون الهضيبي أثر سلفه المرشدين السابقين على طريق الدعوة، فقاد سفينتها بالتزام وانضباط الجندي، وعمق وشمول الفقيه القانوني، وخبرة ودراية المؤرخ الدقيق، وفهم وحب الداعية المجرب، في إطار صارم من الضوابط الشرعية، المستمدة من الكتاب والسنة، فكان مثالاً في الدعوة لا يعدو عليه تلون ولا غدر، وللتضحية العزيزة التي لا يحول دونها طمع ولا شح، عارفًا معرفة عميقة بالمبدأ، ومؤمنًا إيمانًا خالصًا به، ومقدرًا تقديرًا مسئولاً له، تقديرًا يحول دون الخطأ فيه، أو الانحراف عنه، أو المساومة عليه، أو الخديعة بغيره، كان مثالاً حيًّا لأركان بيعتنا العشرة، سائرًا بفهم عميق للواقع، ومعرفة دقيقة بالتاريخ واستشرافًا بعين الداعية للمستقبل، متمسكًا بأساسيات الدعوة، مؤمنًا بثوابتها، فكان بحقٍّ خير خلف لخير سلف، حيث زادت الجماعة قوة وانتشارًا، ليس على مستوى مصر فحسب، وإنما على مستوى البلدان العربية والإسلامية، والجاليات الإسلامية في بقية دول العالم.

وأخير قال عن الأستاذ مهدي عاكف: مرشدنا، بحقٍّ، نموذج للرجال الذين تربوا وتخرجوا في مدرسة الإمام حسن البنا، ففي التنظيم، لا تذكر المخيمات العالمية في شتى أنحاء المعمورة لشباب الإخوان، إلا ويذكر اسم الأستاذ عاكف، وفي التضحية في سبيل الدعوة والثبات عليها فهو مثال ناصع لشبابنا، فقد كان مرشدنا، وعدد غير قليل من رجالنا- ومنهم ثلاثة مرشدين سابقين، الأستاذ المستشار حسن الهضيبي، والأستاذ عمر التلمساني، والأستاذ محمد حامد أبو النصر ممن حكم عليهم بالإعدام عام 1954م، وخُفِّف الحكم إلى الأشغال الشاقة المؤبدة- ممن وقفوا أمام الطغيان الزاحف على مصر ليغير وجهها الإسلامي، فعذبوا ونزلوا في كلِّ سجون مصر، فما لانت لهم قناة، وما فترت لهم عزيمة، وأعلنوها مدوية في وجه الطاغية وزبانيته: لن نهادن، ولن نبيع دعوتنا بعرض من الدنيا.

فكانوا كالجبال الراسيات، إيمانًا بوسطية الإسلام واعتداله، دعاة لا قضاة أمام "فتنة التكفير"، وإيمانًا بدعوتهم، رجالاً صدقوا ما عاهدوا الله عليه أمام "فتنة التأييد"، فلبث مرشدنا في السجن حتى عام 1975م، صابرًا محتسبًا، ثم عاد ليمارس واجبه الدعوي بالهمة نفسها والإيمان نفسه، كأن شيئًا لم يكن، ثم عاد ثانية، ليكمل الابتلاء إلى ما يقرب من ربع قرن، ليقضي ثلاث سنوات أخرى في سجن النظام، في القضية المسماة بقضية حزب الوسط من عام 1996م إلى عام 1999م.

وفاته

توفي الدكتور عبد الحميد الغزالي يوم السبت الموافق 4/6/2011م
وشيعت جنازته من مسجد مصطفى محمود بالمهندسين، في محافظة الجيزة، عقب صلاة الظهر.

رحم الله أستاذنا الجليل، وأدخله فسيح جناته، ونفع بعلمه المسلمين.