بقلم: السيد شعيب

تعرَّف خلال المرحلة الثانوية على جماعة الإخوان المسلمين، والتقى بمرشدها ومؤسسها، وفي السادسة عشرة من عمره كان في صفوف كتائب المجاهدين في فلسطين، بعد أن احتال لضمه إلى كتائب الإخوان في تلك السن الصغيرة، ومنذ ذلك التاريخ لم يُلقِ عبد الرحمن سلاحه، وأمضى باقي حياته مجاهدًا، إلى أن وافه الأجل في العشرين من فبراير 2011.

ولد عبد الرحمن البنان عام 1932م في حيّ مصري قديم يُعرف بالناصرية في باب الخلق بالقاهرة، وكغيره من الأحياء الشعبية المصرية تميَّز حيّ الناصرية بالطابع المحافظ على العادات الاجتماعية والشعائر الدينية؛ فنشأ البنان بين رائحة البخور والعطارة، وابتهالات التوحيد، والصلاة على المصطفى، واختلاط الأذان بأصوات الباعة الجائلين، وصيحات الأطفال أثناء لعبهم بالحواري والأزقة.

والده هو محمد أفندي رئيس قسم في النيابة العامة؛ وكان يحظى باحترام أهل الحارة وإجلالهم لطيب نفسه، وتواضعه، ولكونه موظفًا مرموقًا في ذلك الحين، أما والدته فقد كانت مثالاً للطيبة ورضا النفس، لا تعرف معنى للشر ولا السوء، ولا تعرف إلا الخير، وحب بيتها وأولادها والناس جميعًا، وتوسط إخوته بعد "فاطمة" (الأخت الكبرى)، و"علي" (الشقيق الأكبر)، ثم عبد الرحمن، قبل الشقيق الأصغر "عبد العزيز".

لم يمضِ وقت طويل حتى شاءت الأقدار أن ينتقل البنان إلى "فيلا" جدته في ضاحية مصر الجديدة التي عرفت التأثير الغربي الأكبر، خاصةً مع سكن الإنجليز هناك إبَّان الاحتلال البريطاني، الذين حرصوا على نقل طباعهم وأخلاقهم المتحررة، وحتى نشر الصور الخليعة والكتب والمجلات الإباحية بين الشباب والطلبة.

وتمتع البنان منذ الصغر بفطرة سليمة، لم يدنسها بهرج المدينة ولوثاتها؛ ما أهَّله لتشرب مبادئ الإسلام بسهولة ويسر، فعفه الله، وعصمه من مقارفة الكبائر، مثل شرب الخمر وغيرها من تلك المعاصي التي انتشرت بين الشباب حينها أو حتى حضور الحفلات الليلية بما فيها من آثام.

التعرُّف على الإخوان

تعرَّف البنان على الإخوان المسلمين من خلال أحد طلاب الإخوان الذين كانوا شامةً بين الناس بأخلاقهم القويمة، وثقافتهم الواسعة، وطباعهم الهادئة، وكان وائل شاهين طالبًا في "إعدادي طب" ومعروفًا بثقافته، واطلاعه، وشخصيته المتزنة، مع مرحه وخفة ظله، فلمس البنان في حديثه أن له هدفًا واضحًا محددًا في الحياة، ورغم أنه يكبره بنحو سنتين أو ثلاث سنوات فقط، إلا أنه كان يرى في لقاء شاهين شخصيةً كبيرةً، ويستمتع بحديثه الشيق العذب البسيط والجاد في الوقت نفسه.

ومثَّل اتصال البنان بالإخوان المسلمين نقطة تحول في حياته انعكس على شخصيته، وثقافته، وعلاقاته بأسرته وزملائه، فازدادت صلته الأسرية بعد أن كان بعيدًا كلَّ البعد عن إخوته وأمه وأبيه، ورقت مشاعره معهم، وتهذب حديثه، وزاد احترامه وتقديره لأمه وأبيه، بل تكوَّنت صداقة حميمة رائعة بينه وبين أبيه، فأصبح يتناقش معه في العلم والدين والأدب، وكان يقرأ عليه كلَّ يومٍ قصائده الرائعة، التي يكتبها في كلٍّ المناسبات.

كما تغيَّر سلوكه مع أساتذته وزملائه في المدرسة، فدخل السنة الثالثة من المرحلة الثانوية بروحٍ جديدةٍ، وبأدب واحترام جمٍّ لأساتذته، بعد أن كان من الطلبة العابثين من مثيري الفوضى والشغب في الفصل، ودفعته الرغبة في التفوق إلى الانتباه لدروسه، والإحساس بالمسئولية تجاه نفسه ومدرسته وزملائه، واختيار أصدقائه من ذوي الأخلاق الحميدة والسلوك المتزن، وشجع أساتذته تغيره المحمود وشجعوا اشتراكه الدائم في المناقشات العلمية، وانتباهه المستمر لما يقولون، وتحوَّلت الفسحة الطويلة بعد الغذاء- التي كان يقضيها من قبل في اللعب والمشاغبات- إلى تجمع صغير من الزملاء والأصدقاء، يدور الحديث فيه حول كلِّ ما يفيد من أحداث سياسية أو اجتماعية.

فلسطين أولاً

حضر البنان لقاء الإمام حسن البنا في المركز العام للإخوان المسلمين؛ فانجذب لأسلوبه البليغ، وصدقه البادي في حديثه، وتعرَّف من خلال كلماته على وضع الأمة وحاجتها لكلِّ طاقات المسلمين، خاصةً مع خطر الاحتلال اليهودي لأرض فلسطين، وواجب المسلمين لصدها، فخرج البنان من المركز مع يقين كامل بأن حياته هينة في سبيل الله، وفي سبيل الدفاع عن ديار الإسلام.

واستطاع أن يصل إلى الأستاذ البنا، ليطلب منه ضمَّه إلى كتائب المجاهدين المتجهة إلى فلسطين، وبعد أن تعرَّف عليه الإمام قال له: "إن الطلبة آخر مَن يذهبون؛ فإن تحصيل العلم نوعٌ من الجهاد"، فلم ييأس البنان رغم ما أحسَّ به من طعنة لحلمه في الجهاد، وأعاد المحاولة بعد أن رفع ياقة قميصه، وقطب وجهه، وقال بصوت خشن: أريد الذهاب إلى فلسطين، إنني من العمال، فنظر إليّهَ الإمام البنا مبتسمًا وأمسك بأذنه، وقال: "لا تكذب يا عبد الرحمن، لقد قلت لك: إن العلم نوع من الجهاد، وسيجزيك الله على صدق مشاعرك"، فانصرف البنان وقد احمرَّ وجهه خجلاً، وتركه متعجبًا من قدرته على تذكر اسمه بين آلاف الموجودين.

وبحث البنان عن صديقه "وائل شاهين" فأخبره بما دار من حوار، مؤكدًا أنه لن ييأس أبدًا، بعد أن نذر نفسه للجهاد، وازداد تصميمه على الذهاب إلى فلسطين والمشاركة في نيل شرف الدفاع عن المقدسات الإسلامية والذود عن حقوق المسلمين، وقتال اليهود الغاصبين.

ويحكي عن تلك الفترة فيقول: "كنت أذهب إلى المدرسة، ولكن كياني كله مشغول بالقضية التي ملأت عليَّ حياتي، وكنت أجلس في الفصل لا أسمع مما يقال حولي شيئًا، لا شرح المدرسين، ولا نقاش التلاميذ، ولقد لاحظ شرودي الدائم أساتذتي الذين كانوا يعرفون عني الانتباه والمشاركة والاستيعاب السريع، ولقد كلمني الكثير عن حالتي تلك، وقد حسبوها حالةً نفسيةً لمشاكل أعيشها في المنزل أو خارج المنزل، ولكني لم أبح لأحدٍ عما في داخلي حتى لأقرب أصدقائي وزملائي، الذين كانوا يحاولون إخراجي من صمتي ومن شرودي بنكاتهم ومرحهم، ولكني لم أستطع حتى الابتسام معهم حتى جاء ذلك اليوم الذي انفجرتُ فيه كبركانٍ ثائر، وما كنت أحسب أنني أملك هذا الكم الهائل من المشاعر تجاه القضية التي أعيش من أجلها، القضية الفلسطينية".

وبالفعل احتال عبد الرحمن في الخروج مع كتائب الإخوان للجهاد في فلسطين وهو ابن السادسة عشرة، وسطَّر هناك صحائف من البطولات العظيمة ضدَّ الصهاينة مع إخوانه الأبطال مثل: كامل الشريف ومحمد فرغلي وسيد عيد ونجيب جويفل وفوزي فارس وعلي نعمان وحسن دوح، وغيرهم في الدفاع عن دينه ووطنه وأمته.

جهاد الإنجليز

وبعد عودته شارك البنان أثناء دراسته بكلية الآداب في القيام بثلاث عمليات فدائية ضدَّ الإنجليز:

العملية الأولى: القيام بنسف القطار الحربي الإنجليزي القادم من بورسعيد إلى السويس، وهو يسير في الأسبوع مرتين، ويكون مملوءًا بالأسلحة والدبابات والذخائر والجنود.

والعملية الثانية: في ضرب الدبابات التي تسير كدوريات على طريق المعاهدة.

والعملية الثالثة: تدمير الكوبري الذي يقيمه الإنجليز على ترعة الإسماعيلية، والذي أقاموه ليقطعوا الطريق على تهريب الأسلحة من مصر إلى منطقة القنال.

جزاء سنمار

ولاقى عبد الرحمن البنان في فلسطين الاعتقال هو وإخوانه المجاهدون بالهايكستب ثم الطور، قبل الإفراج عنه بعد إقالة حكومة إبراهيم عبد الهادي، وهو ما تكرر في عهد عبد الناصر حيث قضى البنان أربعة عشر عامًا في غياهب سجون عبد الناصر، وتعرَّض لكلِّ ألوان الظلم والتعذيب، وعند خروجه من السجن، قرر السفر إلى الخارج وذهب إلى أمن الدولة ليأذنوا له بالسفر، فكان بينهما حوار يرويه البنان: "أخذ الضابط يقلب في الملف الخاص بي، وقال لي: إننا نعرف كلَّ شيء عنك، أولاً لقد اشتركت في حرب فلسطين، ثم في حرب القنال، قلت له: أجل، وهذا يشرفني، إلا إذا اعتبرتم هذه الأعمال من الذنوب والأعمال ضدَّ نظام الحكم، قال لي: ألا تدري أن هذه الأفكار، وهذه الأحاسيس من الكراهية تهمة إضافية لك، إذا سُجِّلت في ملفك؟، ولكني أعتبر نفسي وكأني لم أسمع منك شيئًا، قلت له: هل تريدني أن أكون منافقًا؟ قال: ألا يمكن أن تنسى وتسامح؟ قلت له: إن ذلك ممكن؛ إذا أعدتم لي فترة شبابي الذي قضيته في السجن بدون ذنبٍ ولا مبرر، قال لي: إن خروجك سيسيء إلى سمعتنا، قلت له بابتسامة حزينة: وهل حالنا وما نحن عليه بعد احتلال اليهود لـ"سيناء" و"الجولان" و"الضفة الغربية"، وما نحن فيه من سوء حال لم يسئ إلى سمعتنا بعد؟ أطرق الضابط طويلاً، ونظر إليَّ طويلاً، وقال: إني أعذرك، ولعل الأيام تنسيك ما قاسيت، وإنني أتمنى أن أخدمك، ولكن عندنا تعليماتٍ بمنع سفر أي شخصٍ كان معتقلاً".

إلا أن الله سخَّر له صديق الحرب في فلسطين الأستاذ نجيب جويفل الذي ساعده في استخراج جواز سفر والسفر خارج مصر، وقضى بالخارج فترةً طويلةً ثم عاد فتزوَّج ثم سافر وعاد بعدها ليؤسس حضانة أطفال من أعظم الحضانات في المعادي، والتي بلغت شهرتها أن علية القوم كانوا يرسلون أولادهم لها.

وفي 20 فبراير 2011م رحل عن عالمنا المجاهد عبد الرحمن البنان وما زالت تضحياته زاهية، تتناقلها الأجيال الواعية ويرويها الأجداد للأحفاد؛ في مدن القنال، وعلى أرض فلسطين، وفي غياهب السجون والمعتقلات.