السؤال: أعرض عليكم مشكلة حدثت لي منذ أيام. فقد وسوس الشيطان في نفسي وصار يعرض في أفكاري صورا شتى تدور حول الشك في العدالة الإلهية، وتساءلت: لماذا يغني الله بعض الناس ويفقر بعضهم الآخر؟ مما جعلني أتردد في ضلال وحيرة… وتركت الصلاة… وأخيرا أفقت إلى نفسي… وعذبني ضميري… ولازلت في ألم نفسي وريب خلفته تلك الوساوس والأفكار… فما حيلتي لاسترداد الثقة واليقين، وطرد همزات الشيطان اللعين؟

 جواب فضيلة الشيخ:

بسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد:
المؤمن، قد تعرض له وساوس، وقد تهجس في نفسه هواجس، ولكنه إذا كان صاحب إيمان ويقين وكان موفقا من الله عز وجل، سرعان ما تزول تلك الوساوس وتختفي الهواجس، ويعود إليه منطق الإيمان ونور العقيدة القويمة… والاطمئنان.

هذا الشاب، حين عرضت له تلك الوساوس، بناها على خطأين كبيرين:
الأول: هو اعتقاده أن الغنى المادي هو كل شيء أو أعظم شيء في هذه الحياة وأن العدل يقتضي أن يسوي الله بين الناس، في الفقر والغنى، وفي المال والثروة وهذا هو الخطأ الأول.

وليعلم ذلك الأخ أن المال ليس هو كل شيء في هذه الحياة، كلا… فكم من الأغنياء يعوزهم الذكاء، أو تعوزهم الحكمة، أو تعوزهم الصحة، والعافية، أو تعوزهم الأسرة الهنيئة، أو يعوزهم الولد، وإذا كان عندهم الولد يعوزهم الولد البار، والزوجة الصالحة… يعوزهم أشياء كثيرة.

كثير من الأغنياء أصحاب الملايين، يشتهون أن يأكلوا كما يأكل فقير لا يملك إلا دريهمات معدودة، قد حرم عليهم الأطباء أن يأكلوا الدهنيات أو السكريات، أو غير ذلك، وعنده الخزائن تموج بالذهب والفضة. ماذا يصنع بهذه الخزائن؟ وهب أنه كان صحيحا، هل يملك أن يأكل أكثر من ملء بطنه؟ وما البطن، وما المعدة؟ شبر في شبر.. أو أقل… هب أن الإنسان عنده كنز من النضار فهل يأكل الإنسان النضار؟ وهل يأخذه معه إلى القبر؟ كلا… إن المال وسيلة للإنسان.

الذي يملك منه الكثير، يزيد على غيره أنه حمل مسئولية أكبر، وسيكون حسابه يوم القيامة أعظم {يَوْمَ لا يَنفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ * إِلاَّ مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} (الشعراء؛88-89)، "يوم لا تزول قدماه. حتى يسأل عن أربع: عن عمره فيم أفناه؟ وعن شبابه فيم أبلاه؟ وعن ماله من أين اكتسبه، وفيم أنفقه؟ وعن علمه ماذا عمل به؟". (رواه الطبراني بإسناد صحيح عن معاذ بن جبل)

ليس ملك المال إذن هو كل شيء.. قد يملك الإنسان أشياء أخرى كثيرة غير المال… وهي أغلى منه وأثمن والإنسان المتعجل، المتسرع، السطحي ينسى النعم التي أنعم الله بها عليه، لو عد الإنسان ما يملك لأعياه ذلك وما استطاع أن يحصيه: نعمة البصر… كم تقدرها؟ لو قيل لك: خذ كذا ألفا أو مليونا وتفقد بصرك… هل ترضى؟!
والسمع، الشم، الذوق، الأنامل، الأسنان، الأجهزة التي في داخل جسمك، فضلا عن الذكاء والنطق، والقدرة على التعبير والعمل والتصرف… وغير ذلك…

لو حسب الإنسان هذه الأشياء والنعم التي يملكها في جسمه وحده وأمكنه تقديرها وإحصاؤها لبلغت مئات الملايين، والحقيقة أن تلك النعم لا تقدر ولا تحصى {(وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ اللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا} (النحل:18)؛ ولكن النظر في المادة وحدها هو الذي يجعل الإنسان يخطئ الخطأ الكبير، فتنتابه الوساوس والهواجس المؤلمة.

ثم هل يعتقد هذا الأخ السائل، أن الحكمة في التسوية بين الناس؟ هل الحكمة أن يكون الناس سواء؟ لا والله… ليست هذه هي الحكمة، ليس من الحكمة في شيء أن يستوي الناس كلهم؛ إنما الحكمة في هذا التباين، ليظهر الابتلاء، ويتحقق الامتحان. ليتميز من يشكر ممن يكفر، ومن يجزع ممن يصبر، ومن يعمل صالحا ممن يعمل غير ذلك.. هذه هي البوتقة التي تصهر فيها نفس الإنسان. هذه هي الحياة… ميدان للجهاد وللكفاح.

لو شاء الله لخلق الناس أجسادا بلا طعام… لا تحتاج إلى أكل وشرب ولا تحتاج إلى المال، ولكن الله ركب في الإنسان الغرائز والدوافع، فجعله يحتاج إلى الطعام والشراب، والتناسل، والاجتماع… وغير ذلك، فسبحان الله الذي خلق الإنسان على هذه الكيفية، ولو كان الناس كلهم سواسية، لما كان للحياة طعم، ولا كانت لها حكمة؛ من أجل أن يعرف الصبر لابد أن يكون هناك ما يصبر عليه ولكي يعرف الإيثار والإحسان، لابد أن يكون هناك من يحسن إليه. فهذه الفضائل الإنسانية لا يمكن أن تظهر إلا إذا كان هناك تفاوت وتفاضل في الحياة. لو كانت الحياة كلها ضياء ونهارا، لما كان هذا الليل الذي يسكن الناس فيه، وقد جعله الله لباسا. لابد من النور والظلمة، لابد من الليل والنهار… لابد من ذلك كله.

فالخطأ الثاني الذي أخطأه الأخ، هو تصوره حكمة الله خطأ. وتصوره عدل الله خطأ. تصور العدل والحكمة على حسب عقله القاصر... هل نستطيع نحن البشر أن نحدد لله مفهوم الحكمة؟ وأن تكون حكمته تعالى على أهوائنا {وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ} (المؤمنون:71).

كل واحد، يظن أن الحكمة ينبغي أن توافق هواه… ولو حدث ذلك بالفعل، لما تأتي للحياة أن تستقيم، فالشاب، الذي يدخل على عروسه في ليلته الأولى يقول: يا رب!… أطل هذا الليل!! بينما المريض يستغيث ويدعو قائلا: يا رب!… متى يطلع الصباح؟! فلمن يستجيب الله فيهما؟. إن الله عز وجل ليس على هوى هذا ولا على هوى ذاك!!. إنما له حكمة، قد نعرفها ولا نعرفها.
وكم لله من سر خفي    يدق خفاه عن فهم الذكي!

أضرب مثلا لهذا الشاب:
حكوا أن رجلا وابنه كانا تحت نخلة في بستان، فأراد الولد أن يجادل أباه، فقال له: يا أبت، انظر هذا التفاوت الذي نراه، أين الحكمة التي تقول لي عنها؟ وإن الله حكيم عليم؟؟ انظر إلى هذه النبتة الصغيرة، نبتة البطيخ، تثمر ثمرة كبيرة جدا، بينما هذه النخلة على طولها وعظمها، فإن ثمرتها صغيرة… ولا نسبة بينها وبين البطيخة…

وكان المفروض أو المعقول أن تكون ثمرة النخلة في عظم البطيخة، لتتناسب مع حجم الشجرة، بينما تكون ثمرة نبات البطيخ في حجم التمرة… فقال له: يا بني. لعل لله حكمة لا نعرفها. ثم استلقى الفتى على ظهره ليستريح، واستلقى أبوه إلى جواره… وما أن أغفت عين الفتى قليلا، حتى سقطت من أعلى النخلة تمرة، فأصابت وجهه وآلمته، وصاح من أثر ذلك… فقال له أبوه: ماذا بك؟ قال: تمرة من فوق النخلة أصابتني قال: يا بني، أحمد الله أنها لم تكن بطيخة!!

هذا مثل لبيان حكمة الله عز وجل، وإن الإنسان قاصر وعاجز دون إدراك هذه الحكمة والإحاطة بها كلها… وما عليه إلا أن يقول كما قالت الملائكة: {سُبْحَانَكَ لاَ عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ} (البقرة:32) أو يقول ما قال أولو الألباب الذين يذكرون الله قياما وقعودا، وعلى جنوبهم، ويتفكرون في خلق السموات والأرض {رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} (آل عمران:191).

على هذا الشاب الذي راوده الشك، وفعل ما فعل يوما ما، أن يستغفر الله، ويتوب إليه، ويجدد إيمانه وثقته بالله، ويعود إلى الصلاة، ويتصل بأهل العلم والدين لعل الله يتقبله، ويجعله من الشباب الصالحين… والله ولي التوفيق.