بقلم: عبده دسوقي

كان مولد الشيخ علي مصطفى الطنطاوي في دمشق بسوريا يوم 23 جمادى الأولى 1327هـ (12 يونيو 1909م) لأسرة عُرِفَ أبناؤها بالعلم، وأسرة الشيخ علي الطنطاوي أصلها من طندتا، المعروفة حاليًّا بطنطا عاصمة إقليم الغربية في مصر، نزح منها عام 1255هـ جدُّه وعمُّه.

أبوه مصطفى الطنطاوي كان واحدًا من العلماء المعدودين آنذاك في الشام، ووصفه علي الطنطاوي بأنه: "من صدور الفقهاء، ومن الطبقة الأولى من المعلمين والمربين".

وقال عنه أيضًا: "كنت منذ وعيت أجد- إذا أصبحت- مشايخ بعمائم ولحى يقرءون على أبي"، وقد توفي والد الشيخ في عام 1925م، وقد كان عمر الشيخ آنذاك 16 سنة وثلاثة أشهر".

كما أنَّ خاله هو الشيخ محب الدين الخطيب، الذي استوطن مصر، وأنشأ فيها صحيفتَي "الفتح" و"الزهراء" وكان له أثرٌ في الدعوة فيها في مطلع القرن العشرين.

كان علي الطنطاوي من أوائل الذين جمعوا في الدراسة بين طريقي التلقي على المشايخ والدراسة في المدارس النظامية؛ فقد تعلَّم في هذه المدارس إلى آخر مراحلها، وحين توفي أبوه- وعمره 16 سنةً- صار عليه أن ينهض بأعباء أسرة فيها أمٌّ وخمسة من الإخوة والأخوات هو أكبرهم، ومن أجل ذلك فكَّر في ترك الدراسة واتجه إلى التجارة، غير أنه أكمل دراسة الثانوية في "مكتب عنبر"؛ حيث نال البكالوريا (الثانوية العامة) سنة 1928م.

التحق بكلية دار العلوم بمصر، فكان أولَ طالب من الشام يؤم مصر للدراسة العالية، ولكنه لم يتم السنة الأولى، وعاد إلى دمشق في السنة التالية (1929م) فدرس الحقوق في جامعتها حتى نال الليسانس (البكالوريوس) سنة 1933م، وقد رأى- لما كان في مصر في زيارته تلك لها- لجانًا للطلبة لها مشاركة في العمل الشعبي والنضالي، فلما عاد إلى الشام دعا إلى تأليف لجان على تلك الصورة، فأُلفت لجنة للطلبة سُميت "اللجنة العليا لطلاب سوريا" وانتُخب رئيسًا لها، وقادها نحوًا من 3 سنين، وكانت لجنة الطلبة هذه بمثابة اللجنة التنفيذية للكتلة الوطنية التي كانت تقود النضال ضد الاحتلال الفرنسي للشام، وهي (أي اللجنة العليا للطلبة) التي كانت تنظم المظاهرات والإضرابات، وهي التي تولت إبطال الانتخابات المزورة سنة 1931م.

وبعد التحاقه بالعمل ظلَّ مضطهدًا من قِبَل المستعمر الفرنسي، فظلَّ ينقله من مكانٍ لآخر حتى انتقل إلى العراق عام 1936م؛ ليعمل مدرسًا في الثانوية المركزية في بغداد، ثم في ثانويتها الغربية ودار العلوم الشرعية في الأعظمية.

انتقل إلى بيروت للعمل فيها عام 1937م غير أنه عاد مرةً أخرى للعراق؛ ليظل بها حتى عام 1939م حتى عاد لسوريا، فعُيِّن مدرسًا بالمدرسة الثانوية عام 1940م، غير أنه ظلَّ مجاهدًا ضد المستعمر فلم تفتر همته.

وفي دير الزور ألقى خطبة جمعة نارية كان لها أثرٌ كبيرٌ في نفوس الناس، قال فيها: "لا تخافوا الفرنسيين، فإن أفئدتهم هواء، وبطولتهم ادَّعاء، إن نارهم لا تحرق، ورصاصهم لا يقتل، ولو كان فيهم خير ما وطئت عاصمتَهم نِعالُ الألمان"! فكان عاقبة ذلك صرفه عن التدريس ومنحه إجازة "قسرية" في أواخر سنة 1940م.

تزوَّج الشيخ علي طنطاوي وقد رزقه الله بخمسة أبناء وهم: عنان الطنطاوي، وبنان الطنطاوي- وهي زوجة الأستاذ عصام العطار المراقب العام لإخوان سوريا الأسبق، والتي اغتالها نظام حافظ الأسد-، وبيان الطنطاوي، وأمان الطنطاوي، ويمان الطنطاوي.

ولقد كتب الأديب علي الطنطاوي في صحف بلده في الشام، فاحتل مكانةً مرموقةً فيها ثم أضحى من كبار الكُتَّاب، يكتب في كبريات المجلات الأدبية والإسلامية مثل "الزهراء" و"الفتح" و"الرسالة" و"المسلمون" و"حضارة الإسلام" وغيرها، وكانت له زوايا يومية في عددٍ من الصحف الدمشقية.

علي طنطاوي والقضاء

هذه الحادثة انتهت بعلي الطنطاوي إلى ترك التعليم والدخول في سلك القضاء، دخله ليمضي فيه ربع قرن كاملاً؛ 25 عامًا كانت من أخصب أعوام حياته، في النَّبْك (وهي بلدة في جبال لبنان الشرقية، بين دمشق وحمص) ثم في دوما (من قرى دمشق)، ثم انتقل إلى دمشق، فصار القاضي الممتاز فيها، وأمضى في هذا المنصب 10 سنوات، من سنة 1943م إلى سنة 1953م، حين نُقل مستشارًا لمحكمة النقض، فمستشارًا لمحكمة النقض في الشام ثم مستشارًا لمحكمة النقض في القاهرة أيام الوحدة مع مصر.

وقد ترك الشيخ علي الطنطاوي أثرًا كبيرًا في الناس، وساهم في حلِّ مشكلاتهم عن طريق كتابته ورسائله وأحاديثه، وقد كان له دور طيب في صياغة قانون الأحوال الشخصية في سوريا، وهو واضع مشروع هذا القانون على أسس الشريعة الإسلامية، كما وضع قانون الإفتاء في مجلس الإفتاء الأعلى، وانتُخب عضوًا في المجمع العلمي العراقي في بغداد، وفي كل أعماله كان يبتغي الأجر من ربه، ويسعى إلى واسع مغفرته، يقول: "ينجيني قانون ﴿رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا﴾ (البقرة: من الآية 286)، إني والله أخشى ذنبي، ولكني لا أيأس من رحمة ربي.. وآمل أن ينفعني إذا مت صلاة المؤمنين عليَّ ودعاء من يحبني، فمن قرأ لي شيئًا أو استمع لي شيئًا فمكافأتي منه أن يدعو لي، ولدعوة واحدة من مؤمن صادق في ظهر الغيب خيرٌ من كلِّ ما حصلت من مجد أدبي وشهرة ومنزلة وجاه".

طنطاوي والتدريس مرةً أخرى

في عام 1963م سافر علي الطنطاوي إلى الرياض مدرِّسًا في "الكليات والمعاهد" (وكان هذا هو الاسم الذي يُطلَق على كلّيتَي الشريعة واللغة العربية، وقد صارت من بعد جامعة الإمام محمد بن سعود)، وفي نهاية السنة عاد إلى دمشق لإجراء عملية جراحية بسبب حصاة في الكلية، عازمًا على أن لا يعود إلى المملكة في السنة التالية إلا أنَّ عرضًا بالانتقال إلى مكة للتدريس فيها حمله على التراجع عن ذلك القرار.

وهكذا انتقل علي الطنطاوي إلى مكة ليمضي فيها (وفي جدّة) 35 سنة، فأقام في أجياد مجاورًا للحرم 21 سنة (من عام 1964م إلى عام 1985م) ثم انتقل إلى العزيزية (في طرف مكة من جهة منى) فسكنها 7 سنوات، ثم إلى جدة فأقام فيها حتى وفاته في عام 1999م.

علي الطنطاوي والحركة الإسلامية

ويُعَدُّ الشيخ علي الطنطاوي أحد رموز الدعوة الإسلامية المعاصرة، الذين كان لهم الدور الكبير في الدعوة إلى الله وإصلاح المجتمع، وهداية الناس إلى طريق الحقِّ، والوقوف في وجه المؤامرات التي يحيكها أعداء الإسلام وتلامذتهم من العملاء والمأجورين ضدَّ الإسلام والمسلمين في كلِّ مكان، وبخاصة الاستعمار الفرنسي في سورية والجزائر، والاستعمار الإنجليزي والصهيوني في فلسطين. وكانت له وقفات شجاعة وتحديات جسورة.

عمل الشيخ الطنطاوي على دعمه للحركة الإسلامية المعاصرة بمصر والشام والعراق، وكتابته عن رجالها، وتعاونه مع العاملين في صفوفها ببلاد الشام، كالدكتور مصطفى السباعي، ومحمد المبارك، وعمر بهاء الدين الأميري، وغيرهم.

يقول المستشار عبد الله العقيل: "وكانت جهوده تشمل ميادين الإصلاح في كلِّ جوانبها التشريعية والسياسية والاجتماعية والتربوية والتعليمية والدعوية والفقهية، ومحاربة البدع والخرافات والعادات والتقاليد البالية التي لا يقرها الشرع، والسلوكيات التي تتنافى مع مبادئ الإسلام وقيمه، ويدعو للاعتزاز باللغة العربية، لغة القرآن الكريم، ويتصدى لأعدائها.

ويضيف: ولقد كانت له وقفة شجاعة جريئة ضد الطغيان الناصري بمصر الذي حارب الإخوان المسلمين في أرض الكنانة، وسجن الآلاف المؤلفة من رجالهم، وعلَّق الكثير من قادتهم الأبطال الأفذاذ على أعواد المشانق، وكان "يوم الحداد" يومًا مشهودًا على هؤلاء الشهداء الأبرار، وفي مقدمتهم الشهداء العظام: عبد القادر عودة، ومحمد فرغلي، ويوسف طلعت، وإبراهيم الطيب، وهنداوي دوير، ومحمود عبد اللطيف، وغيرهم، فقد سخَّر قلمه بالكتابة في الصحافة عن جرائم الدكتاتور، وكذا أحاديثه الإذاعية، وخطبه ومحاضراته التي أشاد فيها بحركة الإخوان ومؤسسيها ودعاتها ومجاهديها في مصر وسورية والعراق.

مؤلفاته

1- قصص من الحياة.. يحتوي الكتاب على 28 قصة واقعية، وكما يذكر الشيخ رحمه الله في خاتمة كتابه أن القصص قد لا تكون كلها حقيقية، إلا أنها واقعية، وشبيهاتها تحدث في بلادنا الإسلامية كل يوم.

2- قصص من التاريخ.. يحتوي الكتاب على 23 صورة جميلة من التاريخ.

3- رجال من التاريخ.. يعرض الكتاب حياة 46 شخصيةً تاريخيةً بصورة أدبية رائعة.

4- من حديث النفس.. يحتوي الكتاب على خواطر منوعة.

5- صور وخواطر.. يحتوي الكتاب على خواطر منوعة.

6- مع الناس.

7- من غزل الفقهاء.. يعرض هذا الكتيِّب أمثلةً من شعر الغزل لدى الفقهاء.

وأيضًا..

8- ذكريات علي الطنطاوي (8 أجزاء).

9- فكر ومباحث.

10- صور وخواطر.

11- مع الناس.

12- هتاف المجد.

13- مقالات في كلمات.

14- قصص من الحياة.

15- صيد الخاطر (تحقيق وتعليق).

16- من حديث النفس.

17- من نفحات الحرم.

18- بغداد.. مشاهد وذكريات.

19- في إندونيسيا.

20- أبو بكر الصديق.

21- أخبار عمر.

22- رجال من التاريخ.

23- أعلام من التاريخ (7 أجزاء).

24- قصص من التاريخ.

25- حكايات من التاريخ.

26- دمشق.

27- الجامع الأموي.

28- فصول إسلامية.

29- في سبيل الإصلاح.

30- تعريف عام بدين الإسلام (مترجم للكثير من اللغات).

31- فتاوى على الطنطاوي.

قالوا عنه

يقول عنه الدكتور يوسف القرضاوي: "لقد كان الطنطاوي مشعلاً من مشاعل الهداية، ونجمًا من نجوم التنوير، ولسانًا من ألسنة الصدق، وداعيةً من دعاة الحق والخير والجمال، وكان يجمع في عظاته بين العلم والأدب، أو بين الإقناع والإمتاع، يتجلَّى هذا فيما سطَّره يراعه من كتب ومقالات، وما فاض به لسانه من خطب ومحاضرات أو دروس وإفتاءات، كان يرتجلها لتوِّه، ولا يكتبها أو يحضِّرها، وحين أصدرت كتابي "الصحوة الإسلامية بين الجمود والتطرف" نوَّه به وحثَّ على قراءته".

ويقول الأستاذ زهير الشاويش: "عاش أستاذنا ووالدنا الشيخ علي الطنطاوي حياةً عريضةً طويلة، ذات أبعاد في الأفق، وعمق بجذورها في الأرض، وكان له الأثر الكبير في تنشئة الدعاة والأدباء والقضاة والمجاهدين الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر، وامتاز بالمروءة والنخوة والفضل".

وفاته

عانى الشيخ بضعف قلبه في آخر عمره؛ بسبب الإجهاد والعمل المتواصل، فأُدخل مستشفى الملك فهد بجدة عدة مرات، حتى فاضت روحه- عليه رحمة الله- بعد عشاء يوم الجمعة، 18 يونيو عام 1999م الموافق 4 ربيع الأول 1420هـ، ودُفن في مكة في اليوم التالي بعدما صُلّي عليه في الحرم المكي الشريف.

وكان الشيخ يقول: في سنة 1957م، مرضت مرضةً طويلةً لخيانةٍ من طبيب شاب شيوعي، وضع لي جرثومة يسمُّونها العصيَّات الزرقاء، قليلة نادرة في بلادنا، وكانت شكواي من حصاة في الكلية أقاسي من نوباتها آلامًا لا يعرف مداها إلا مَن قاساها، فانضمَّت إليها أمراض أخرى لم يكن لي عهد بها.. وقضيت في المستشفى، مستشفى الصحة المركزي الكبير في دمشق، ثم في مستشفى كلية الطب، بضعة عشر شهرًا، أُقيم فيه، ثم أخرج منه ثم أعود إليه، وكانوا كل يوم يفحصون البول مرتين، وينظرون ما فيه.. فلما طال بي الأمر، وضاق مني الصدر، توجَّهت إلى الله فسألته إحدى الراحتين؛ الشفاء إن كان الشفاء خيرًا لي أو الموت إن كان في الموت خيرٌ لي، وكان يدعو لي كثير ممن يحبني وإن كنت لا أستحق هذا الحب من الأقرباء ومن الأصدقاء، فلما توجهتُ ذلك اليوم إلى الله مخلصًا له نيتي، واثقًا بقدرته على شفائي، سكن الألم، وتباعدت النوبات، وفحصوا البول كما كانوا يفحصونه كل يوم.. فإذا به قد صفا، وزال أكثر ما كان فيه، وعجب الأطباء واندهشوا واجتمعوا يبحثون، فقلت لهم: لا تتعبوا أنفسكم فهذا شيء جاء من وراء طِبِّكم.. إن الله الذي أمرنا أن نطلب الشفاء من الطب ومن الدواء، قادرٌ على أن يشفي بلا طب ولا دواء".