كمال الإخلاص :

إن العمل الجماعي وصية الرسول صلى الله عليه وسلم للمسلمين: "يد الله مع الجماعة ومن شذ شذ في النار"، "فعليكم بالجماعة فإنما يأكل الذئب من الغنم القاصية"، "من أراد بحبوحه الجنة فليلزم الجماعة".

يقول عبد الله بن مسعود رضي الله عنه عن الجماعة: إنها حبل الله الذي أمر به، وإن ما تكرهون في الجماعة والطاعة خير مما تحبون في الفرقة.

ويقول علي رضي الله عنه: كدر الجماعة ولا صفاء الفرد.

والجماعة – كما قلنا- أفراداً وقيادة ومنهجاً، تنشئ أمة تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر وتؤمن بالله، ونصرها محقق بوعد الله لها: بالفهم السليم والإخلاص لهذا الدين: ) وإن جندنا لهم الغالبون( [الصفات: 173] )ومن يتول الله ورسوله والذين آمنوا فإنّ حزب الله هم الغالبون( [المائدة: 56] .

فالإسلام دين يؤمن به أفراد يكونون جماعة يتحرك بهم قائد، كطليعة تتحمل العبء وتعزم على العمل المخلص وتواصل الليل بالنهار، كما قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه لمعاوية بن خديج عندما جاء مبشراً بفتح الإسكندرية، "لئن نمت النهار لأضيعن الرعية، ولئن نمت الليل لأضيعن نفسي، فكيف بالنوم مع هذين يا معاوية".

إنه أمر فنى عليه الكبير، وكبر عليه الصغير، وفصح عليه الأعجمي، وهاجر عليه الأعرابي، حتى حسبوه ديناً لا يرون الحق غيره، وهو لا يقف عند القول للمخطئ إياك والخطأ، ولكن يتعدى ذلك إلى أن يهيئوا للمخطئ مجتمعاً، ويرسموا له طريقاً يعينه على الصلاح يقوم على التعاون على البر والتقوى ليرفع الكلام إلى الأفعال، والنظريات إلى التطبيق، فهل يتحقق ذلك بالفرد ولو كان مخلصاً في عباداته أم بجماعة مترابطة متراصة؟.

لذلك فإنه لا يتم ذلك البناء إلا بالتعارف، والتفاهم، والتكافل الذي يحقق التعاون المطلوب لتحقيق الأهداف السامية للجماعة بروح الأخوة، وعزم الرجال.

ولهذه الحكمة البالغة – جعل الله سبحانه وتعالى الأمة الإسلامية- كلها –أمة دعوة، فينما بعث الله النبي محمد صلى الله عليه وسلم إلى هذه الأمة، وإلى البشرية كافة، ابتعث هذه الأمة المسلمة إلى سائر الناس، والفرق بين البعث والابتعاث، أن الأول خاص بالنوبة، والثاني خاص بالأمة الإسلامية بجهادها ومجاهدتها ودعوتها.

لهذا قال الصحابي الجليل ربعي بن عامر لرستم قائد الفرس حين سأله: ماذا جاء بكم؟.

أجابه على الفور: "إن الله ابتعثنا لنخرج من شاء من عبادة العباد إلى عبادة الله وحده، ومن ضيق الدنيا إلى سعتها، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام".. ذلك لأن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول للمسلمين: "بلغوا عني ولو آية" فهم مبلغون عن الرسول صلى الله عليه وسلم .

فالإخلاص الذي يتحلى به المسلم ليس لذاته وإن كان مثاباً عليه كفرد، لأن صلاح المسلم وإخلاصه في ذاته كالماء الطاهر، فهو طاهر في ذاته غير مطهر لغيره، والإسلام يطلب من المسلم أن يكون طهوراً وليس طاهراً فحسب، ليكون طاهراً في ذاته مطهراً لغيره، فلابد أن يكون لبنة صالحة يتحلى بأخلاق المسلمين لأنه لا يمكن أن يسود التآلف والترابط والمحبة، والتعاون والإيثار وغير ذلك من الأخلاق الفاضلة التي هي دليل على الإخلاص، ولا يتم التوافق الاجتماعي إلا إذا وجدت الوحدة الأخلاقية، ووجد اتفاق بين الأفراد في السلوك والاتجاه وفهم الأخلاق. وكل ذلك لا يتحقق إلا في إطار جماعة تضعه موضع التنفيذ.

فالذين يفهمون الإسلام على أنه العبادة الظاهرة فإن أدوها أو رأوا من يؤديها اطمأنوا إلى ذلك ورضوا به وحسبوه لب الإسلام، وأخلصوا لهذا المعنى لا يتعدونه، أنّى لهم بالشعور بوجوب العمل الجماعي، وكذلك الذين لا يرون الإسلام إلا الخلق الفاضل والروحانية الفياضة، والغذاء الفلسفي الشهي للعقل والروح والبعد بهما عن أدران المادة الطاغية الظالمة، هم أيضاً لن يقتنعوا بأهمية العمل الجماعي، أما الذين يعتقدون أن الإسلام دين ودولة ومنهاج حياة هم الذين يؤمنون بوجوب العمل الجماعي.

وهكذا نفهم الإسلام كاملاً متكاملاً رسالة تربية، ومنهج حياة، بعيداً عن جمود الجامدين، وتحلل الإباحية وتعقيد المتفلسفين، لا غلو فيه ولا تفريط، مستمداً من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وسيرة السلف الصالحين استمداداً منطقياً منصفاً بقلب المؤمن الصادق، عرفناه على وجهه، عقيدة وعبادة، ووطنا وجنسية، وخلقا ومادة، وسماحة وقوة، وثقافة وقانونا، واعتقدوه على حقيقته، دينا ودولة، وحكومة وأمة، ومصحفا وسيفا، وخلافة من الله للمسلمين في أمم الأرض أجمعين )وكذلك جعلناكم أمة وسطاً لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيداً( [البقرة: 143] .

لهذا الفهم يكون إخلاصاً، فالإسلام –كما نفهم- دين الجماعة، يربي الفرد ليكون مصلحاً، لا صالحاً فحسب؛ لأن الصالح والفاسد لا يتعدى ذاته، ولكن المصلح والمفسد يتعدى الذات إلى الغير )ذلك أن لم يكن ربك مهلك القرى بظلمٍ وأهلها غافلون( [الأنعام: 131]. ويقول سبحانه: )والله يعلم المفسد من المصلح( [البقرة: 220].

إن الصالح – في فهمنا للإسلام- يعتبر شريكاً بسكوته على المنكر، فما الذي يستفيد منه المجتمع بصلاحه الذي يتحلى به، وهو لا يتعاون مع إخوانه ليحققوا مجتمع الفضيلة، إن الساكت على الحق شيطان أخرس)واتقوا فتنة لا تصيبنّ الذين ظلموا منكم خاصة واعلموا أن الله شديد العقاب( [الأنفال: 25] ولذلك تسأل السيدة عائشة رضي الله عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنهلك وفينا الصالحون؟ قال: "إذا علا الخبث".

وفي الحديث – أيضاً-: "إذا أخفيت الخطيئة لا تضر إلا صاحبها، وإذا ظهرت فلم تغيّر ضرت العامة".

والعمل الجماعي المنظم يقوم على:

 -1 قيادة مخلصة مسئولة (القيادة).

-2 قاعدة (الأفراد) مترابط فيما بينها مخلصة لبعضها (الجماعة).

-3منهاج بمفاهيم واضحة (الدعوة).

وتقوم العلاقات المحددة فيما بينها على أساس من الشورى الواجبة الملزمة والطاعة المبصرة اللازمة، والإخلاص للفهم والحركة، فإن ارتفع الإخلاص فيما بينها أصبحت كأن تجمع قائم على المصالح والمنافع، وليست جماعة لها مقوماتها وخصائصها وأهدافها ووسائلها، تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر وتؤمن بالله، لتحقق الخيرية في زمانها الذي تعيشه، وتقود البشرية إلى رشدها، وتحقق قوله تعالى: )وكذلك جعلناكم أمة وسطاً لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيداً( [البقرة: 143] بوضوح في الفكرة ووحدة في التصور والسلوك، ووحدة الهدف والمصير ووحدة الغاية التي ننشدها.

ولك أن تتصور جماعة حققت كل ذلك فشعرت بعظمة رسالتها، واعتبرت بالانتساب إليها، ووثقت في نصر الله لها، لاشك أن المولى سبحانه وتعالى يؤلف بين قلوب أفرادها )وألّف بين قلوبهم لو أنفقت ما في الأرض جميعاً ما ألّفت بين قلوبهم ولكن الله ألف بينهم( [الأنفال: 63] ويجري النصر على أيديهم ويحقق بهم وعده )وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم وليبدلنّهم من بعد خوفهم أمناً يعبدونني لا يشركون بي شيئاً( [النور: 55].

لهذا كله فإننا نرى إجماع المسلمين من بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم على من يخلفه ليحفظ الدين، وتستمر الدعوة، ويحمي الأمن، وتبلغ رسالة الإسلام إلى سائر أنحاء الدنيا.

يقول علي بن أبي طالب رضي الله عنه: لابد للناس من إمارة برة أو فاجرة. قيل: يا أمير المؤمنين هذه البرة قد عرفناها، فما بال الفاجرة؟ قال: تقام بها الحدود، وتؤمن بها السبل، ويجاهد بها العدو، ويقسم بها الفئ.

ويقول ابن خلدون: إن نصب الإمامة قد عرف وجوبه من الشرع بإجماع الصحابة والتابعين ولم يقل أحد بغير ذلك.

أما الإمام الجويني فيقول: الإمامة إنما تقوم على أصل الإجماع الثابت.

كما يقول الإمام الشهرستاني: قال أبو بكر الصديق رضي الله عنه بعد خطبته في سقيفة بني ساعدة: ولابد لهذا الدين من قائم يقوم عليه، فناداه الناس من كل جانب: صدقت يا أبا بكر. ونفس المعنى يقوله الإمام الماوردي: الإمامة موضوعة لخلافة النبوة في حراسة الدين، وسياسة الدنيا.

ولقد صدق القائل: الدين أصل والسلطان حارس، وما لا أصل له فمهدوم، ومن لا حارس له فضائع، فلكي نحقق أهدافنا وما نصبو إليه كان لابد من تحديد الأهداف التي تسعى لتحقيقها الجماعة وهي:

الفرد المسلم، والبيت المسلم، والشعب المسلم، فالحكومة المسلمة فالدولة التي تقود الدولة الإسلامية وتضم شتات المسلمين، ولذا فإن الجماعة التي تدعو إلى هذا الفهم تعريفاً وتكويناً وتنفيذاً هي التي تعمل على تحقيق هذا الواجب وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب.

فالإسلام – عند الإمام البنا- يقوم بجماعة، ولا جماعة بدون إمارة، ولا إمارة بدون طاعة، لأن الإسلام نظام وطاعة، وأكبر دليل على ذلك الخطاب القرآني ونداؤه الجماعي )يا أيها الذين آمنوا( بل إن صدر سورة البقرة تبين أن تحقيق الهدى لا يكون إلا من المتقين وليس المتقى )ذلك الكتاب لا ريب فيه هدىً للمتقين( ثم عدد ربنا صفاتهم )الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون( فهي صفات جماعية كما رأيت، بل إن المولى يذكرنا بهذا المعنى حين نردد في كل صلاة )إياك نعبد( بصيغة الجمع.

لأن العبادة بمفهومها الشامل لا يتحقق إلا بإياك نعبد وإياك نستعين، بل إن الهداية نفسها لا تكتمل إلا بالجماعة، لذلك فإننا نقول: اهدنا ولا نقول اهدني. فالهداية الحقة الكاملة التي يهدى إليها القرآن والتي هي أقوم تتحقق بالجماعة ولذلك كانت البشارة للمؤمنين جميعاً مجتمعين وليس للمؤمن الذي يعمل بمفرده.

إننا حين نقول إن الإسلام دين الجماعة، فهذا الفهم دين والمفروض أن يكون من ثوابت أي جماعة من الجماعات التي تدعو إلى الإسلام ولكن حين أهمل هذا الفهم ونساه المسلمون وفصل العلمانيون الدين عن الدولة جدد هذا المعنى الإمام البنا ودعا إلى العودة إليه.

فهو من ثوابت الإسلام نفسه الذي يدعو إلى تحقيق النظام في أقل عدد يتصوره المسلم حتى ولو كان مسافراً، فإن كان بمفرده في سفره فالشيطان معه، وإن كانوا أكثر من ذلك ولو ثلاثة كان لابد من أن يؤمر عليهم أمير "إن كنتم ثلاثة فأمروا أحدكم" فما بالك بمن يريد أن يحي أمة ويقيم دولة ويصنع حضارة، ألا يحتاج هذا إلى تنظيم دقيق وأمير مطاع الجماعة يشعر كل فرد فيها أنه في كيان مطالب أن يقيم دين الله على الأرض عقيدة وشريعة كمنهج حياة يتناول جميع جوانبها؟.

ولا شك أنه إذا قوى إيمان الأفراد اشتد عود الجماعة، وسعت نحو أهدافها تحققها، وإلا تفكك الصف لضعف الإيمان بين الأفراد، أو عدم وضوح الرؤية أو ميل القلب إلى شيء من أمور الدنيا المعوقة عن السير مثل المال، والولد، والأهل، والخلود إلى الراحة، أو اليأس والخوف والفتور الذي يصيب الأفراد أثناء السير، أو الحماس الزائد الذي يتصف به المنبت الذي لا أرضاً قطع ولا ظهراً أبقى، أو عدم الشعور بالولاء.

وإذا كان الذي نقول هو نهاية المآل وهو واجب المسلمين جميعاً لإقامته، فإن الوسيلة الموصلة إليه من الواجب أيضاً، فالدعوة إلى عدم أهمية العمل الجماعي دعوة لإضعاف المسلمين وتفكيك وحدتهم في زمان لا يعرف إلا التكتلات والتجمعات لتحقيق المصالح، فما بالك بالإسلام الذي يعتبر الجماعة إيماناً والتفرق كفراً.

ولا يتم معني الجماعة في نفس الفرد إلا إذا شعر:

أولاً: بالاعتزاز بانتمائه إليها.

ثانياً: الطمأنينة في وجوده فيها.

ثالثاً: أنها حققت أو تحقق أمانيه.

رابعاً: أنه عضو فيها ولبنة من لبناتها يمدها وتمده، ويشدها وتشده.

خامساً: أنه بها وليس بغيرها وهي إن لم تكن به فبغيره ) وإن تتولوا يستبدل قوماً غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم( [محمد: 38] ) يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقومٍ يحبهم ويحبونه أذلة على المؤمنين أعزةٍ على الكافرين يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله واسع عليم( [المائدة: 54].

وهذا هو الفرق بين التجمع الذي لا رابط له ولا رأس ولا منهج، وبين الجماعة التي هي وجدان ووشائج ومشاعر، وترابط وحب، ونظام وأهداف ووسائل، وجند وقيادة غايتها الله، ولذلك كان إصلاح النفس لتكون تقية، وتكوين الأسرة لتكون مسلمة، وإرشاد المجتمع لتسود القيم والمبادئ والأخلاق وشعائر الإسلام ومظاهره في كل أرجائه، والدعوة بالحكمة والموعظة الحسنة لتطبيق شرع الله، بالوسائل السلمية والشرعية عن طريق جماعة حققت قوة الحب وقوة الإيمان هي السبيل الوحيد لإقامة شرع الله، وذلك وجدنا رسول الله r يدعونا إلى الجماعة والسمع والطاعة في كثير من أحاديثه الشريفة، ولا يتحقق السمع والطاعة إلا بتربية متأنية داخل الجماعة.

منقول بتصرف من كتاب – الثوابت والمتغيرات – للأستاذ /جمعة أمين