هذه مدرستنا التربوية:

ثالثاً: التربية سبيلنا ونبذ العنف مبدؤنا

إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن له منهج إلا القرآن، ولم يكن له من كلية ولا معهد ولا مدرسة تربوية إلا المسجد، وكان تلامذته أبو بكر وعمر وعثمان وعليّ وأضرابهم من أصحابه صلى الله عليه وسلم يتربون في هذه المدرسة، ومن هذه المدرسة المباركة انطلقت حضارتنا الإسلامية تغير الدنيا بمنهاجها، فهل رأيتم مدرسة أزكى وأنبل من هذه المدرسة؟ قوم يجلسون على الحصباء، وجامعتهم مسقوفة بجريد النخيل، يتساقط عليهم المطر، ينتظرون ما يأتيهم من السماء، وحدهم الإيمان، زادت من ترابطهم الوحدة، وهم الحفاة والعراة رعاة الشاه، ولكنهم أعزة بهذا الدين )ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين ولكن المنافقين لا يعلمون( [المنافقون: 8]

ومن هذه المدرسة خرج أنبل من عرفت الدنيا من أساتذة في كل الفضائل الإنسانية والعلوم والمعارف، إنها المدرسة التي تهبط فيها الرحمات، وتتلي فيها الآيات، وتشرق عليها أنوار رب العالمين ليصبح خريجوها أساتذة الدنيا كلها.

ويلح علينا سؤال: فيم كانت تحلم هذه العصبة التي رباها رسول الله صلى الله عليه وسلم وفيم كانت تفكر؟ وماذا تريد؟ وإلى أي مدى يمتد أمل هذه الكوكبة التي تجتمع في خفية وتتناجى سراً؟ ماذا يريد هؤلاء؟ إنهم يريدون أن يضعوا في رؤوس الناس عقلاً جديداً، وأن يقيموا على ظهر الأرض ديناً جديداً، وأن يبنوا كل البشرية بناء جديداً. وأن يصلوا بين السماء والأرض وهم يقولون إياك نعبد وإياك نستعين، وهي القليلة في عددها، العزلاء من كل عدة، تريد أن تُهدي للناس بإذن ربها نظاماً جديداً، وإنسانية جديدة. فجمعت قلوب العباد على رب العباد، ووضعت في القلوب شعوراً جديداً وصنعت بهذا كله خير أمة أخرجت للناس، كما أرادها رب الناس بتربية كان عمادها أموراً ثلاثة، حققوا بها العبودية لله رب العالمين.

أولاً: الإيمان الكامل:

هذا الإيمان الذي جردهم من كل هدف إلا هدف دعوتهم، لقد سمعوا النداء، ففروا إلى الله أولاً، واتخذوا "لا إله إلا الله" شعاراً لهم، وهزءوا بكل ما عداها، وسخروا من كل ما سواها. ما جذبتهم حضارة الفرس ولا الروم، ولا تقدمهم المادي في ذلك الزمان، وما شغلهم تقدم علمي حازه من سبقهم، ذلك لأنهم يؤلهون ما دون الله، والفرس مهما بلغ شأوهم وشأنهم وتقدمهم فهم على ضلال، لأنهم يعبدون شهواتهم وأهواءهم، وأهل الكتاب على ضلال لاتخاذهم أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله، وما على الأرض يدور في مدار ضلال لأنه لم يهتد بهدى الله، ولم يستنر بنور الله، هكذا رأوا كل ما حولهم من حضارات، وهكذا علمتهم مدرسة رسولهم صلى الله عليه وسلم .

علمتهم وربتهم على أنهم الحق الصراح، لأنهم تجردوا من وثنيتهم وأهوائهم وشهواتهم، ووهبوا كل هذا لله، فهم لا يعبدون إلا الله، ولا يخضعون إلا الله، ولا يعتمدون إلا على الله، ولا يسألون إلا الله، ولا يتلذذون إلا بشعورهم بالأنس بالله، وحين يألمون لا يألمون إلا لذنب يبعدهم عن الله، هذا الذي جمع بين قلوبهم، بعد أن علموا أن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده، وأن العاقبة للمتقين، فانمحت الفوارق التي تمزق الجماعات، والتي تباعد بين القلوب لأنهم صبغوا بصبغة جديدة ) صبغة الله ومن أحسن من الله صبغة( [البقرة: 138].

ثانياً: الحب الوثيق واجتماع القلوب، وائتلاف الأرواح، فعلام يختلفون؟ على عرض زائل من عرض الدنيا؟ على تفاوت في الرتب والوظائف والألقاب وهم يعلمون )إنّ أكرمكم عند الله أتقاكم( [الحجرات: 13] فلم توجد عوامل تدعوهم إلى الفرقة التي تمزق وحدتهم وهم صناع التاريخ والحضارة الربانية؟ لذلك اجتمعوا وتوحدوا، وصاروا إخواناً في الله، فلم يحقر أحد منهم أحداً، بل أحب كلٌ أخاه حباً دونه كل حب، حباً بلغ درجة الإيثار، لأنهم قرأوا قول الله تعالى )قل إن كان آباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم وأموالٌ اقترفتموها وتجارة تخشون كسادها ومساكن ترضونها أحب إليكم من الله ورسوله وجهاد في سبيله فتربصوا حتى يأتي الله بأمره والله لا يهدي القوم الفاسقين( [التوبة: 24] فكان حبهم الله، وبغضهم في الله، وعطاؤهم لله، ومنعهم لله، فاصطبغت حياتهم بهذا الحب الذي سيقاتلون الناس به. على هذا توبوا.

ثالثاً: كما تربوا على التضحية التي دفعتهم إلى تقديم كل ما يملكون من النفس والنفيس لله رب العالمين، حتى أن أحدهم كان يتحرج أن يأخذ شيئاً من الغنيمة التي أحلها الله لهم حتى أنزل المولى فيهم )فكلوا مما غنمتم حلالاً طيباً( [الأنفال: 69]. حتى هذا الحلال تحرصوا منه، وتورعوا عنه، وتركوه حسبة لله تبارك وتعالى، كي لا يكون في أعمالهم شائبة طمع ولا حب دنيا، لذلك خرجوا من الذلة إلى العزة، ومن الغربة إلى الوحدة، ومن الجهالة إلى العلم، فكانوا بناة الحضارة بحق، وهداة البشرية، وعرائس الجنة، كل اكتسبوه بتزكية رسول الله صلى الله عليه وسلم لهم.

هذا الفهم والتجديد:

إن التطور العصري الجديد ليس قادراً على هضم هذه المعاني التربوية التي يقوم عليها البناء، وربما يقول بعض الناس ما لهذا كله والحضارة الإسلامية؟ ذلك لأن التعاليم الأوروبية وربما الحياة الأوروبية والفكر الأوروبي حال بينهم ويبن فهم مقومات الحضارة الإسلامية، وأن هذا الذي نقوم هو أساسها بل وسداها ولحمتها، فإذا خلت هذه المعاني من أمة فقد تودع منها.

إن التقدم في الأحوال السياسية والاقتصادية التي بهرت كثيراً من الناس، حين انفصلت العلوم والمعارف عن الأخلاق والعقائد والقيم، حتى أصبحت عند غيرنا ثقافة وحضارة، وهي بالنسبة لنا دين نتعبد به لتقوم حضارتنا على الإيمان والأخلاق السابقين، مع الترحيب بكل جديد في العلوم والمعارف والمخترعات، لأن الجديد عندنا ليس في ثوابتنا ولا في قيمنا ومعتقداتنا، إن التجديد عندنا له منطلقاته الإسلامية، وهي فكرة نرحب بها ولا نحاربها، ولسنا الذين اخترعنا كلمة التجديد، فالذي شرع لنا التجديد هو رسول الله r في حديثه الذي رواه أبو داود في سننه والحاكم وصححه عدد من العلماء "إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها" فالتجديد الديني مشروع ولكن لابد أن يكون بعيداً عن الثوابت وله أصول وضوابط، فمن يجدد ويغير؟ وما الذي يتجدد ويتغير؟.

يجب تجديد دين الأمة، وتجديد فهمها، لتفهمه الفهم الصحيح وتجديد إيمانها به، بحيث لا يكون مجرد شعار يرفع أو دعوة تدعى، وتجديد علمها بهذا الدين، والتزامها به حتى يصبح الإسلام جزءاً من حياتها، تحيا به وتدعو إليه دعوة تعايش العصر، وتواكب التطور، وتستخدم أساليب الزمن، وتخاطب كل قوم بما يناسبهم، فهذا هو التجديد الذي يربى عليه الأفراد، أما ثوابتنا فلا جديد فيها ولا تجديد لها وهذا ما فعله الإمام البنا رحمه الله في زمانه.

لقد أقيمت الدولة في الإسلام بجهد بشري عبر عملية تربوية طويلة متدرجة، تم خلالها صياغة مجتمع متكامل – كيان أمة- انطلاقاً من عقيدة التوحيد الجامعة، التي رسمت الخطوط الأساسية، والأطر العامة التي يُهتدى بها في عملية تأسيس البناء داحضة مبادئ النظم وقواعدها ومحددة مجالات الممارسة والحركة، لتكون الدولة نتاجاً ومحصلة طبيعية لهذا المجتمع العقيدي.

إن جوهر وظائف الدولة الإسلامية، هي القيم الإسلامية الأساسية، فتحقيق وممارسة تلك الوظائف بمثابة إنجاز وتحقيق للمقاصد الشرعية، وبديهي أن المقاصد الشرعية مشتقة نم القيم الأساسية، والقيم لا تتحقق إلا برجال آمنوا بفكرتهم ودعوا لها وضحوا من أجلها ،من أجل ذلك كانت التربية ونبذ العنف هما سبيلنا إلى التغيير.

التربية ونبذ العنف:

وإسلامنا لا يقوم صراحة إلا على كواهل رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه، عظمت الآخرة في نفوسهم فلا يعملون إلا الطاعات، وصغرت الدنيا في أعينهم فلا تفتنهم الشهوات، وتحقق اليقين في قلوبهم فلا يتأثرون بالشبهات، فصفت نفوسهم، وطهرت قلوبهم، وسلمت صدورهم، ورجحت عقولهم، وصحت أعمالهم وقالوا: )ربنا آمنا بما أنزلت واتبعنا الرسول فاكتبنا مع الشاهدين( [آل عمران: 53].

فأقبلوا على الله بهمة عالية، وإرادة قوية، وعزيمة فتية، وتصميم لا يلين، تدفعهم عقيدتهم، وتوجههم تصوراتهم، فحققوا فكرتهم على أرض الواقع، لأن الفكرة لا تصبح حقيقة واقعة إلا إذا قوى الإيمان بها، وتوفر الإخلاص في سبيلها، وازدادت الحماسة لها، ووجد الاستعداد الذي يحمل صاحبه على التضحية والعمل لتحقيقها.

والفكرة الجيدة يتوقف نجاحها على أمور ثلاثة:

    أن يتصورها معتنقوها تصوراً "واضحاً".

    أن يؤمن بها أصحابها إيماناً "عميقاً".

    أن تجتمع قلوب أهلها اجتماعاً "قوياً".

فيترجموها على أرض الواقع حتى تصبح حياة معيشة.

وتحتاج الفكرة الصحيحة إلى شخصية إسلامية متفردة تسير وفق منهاج رباني، لا يأتيه الباطل من بين يديها ولا من خلفها، تنزل من حكيم حميد، تضع هذه الشخصية نصب أعينها الأسوة الحسنة وخير قدوة محمداً r الذي حدد لها تفاصيل طريق العمل، ودلها على الحلال فاتبعته، وعلى الحرام فاجتنبته، وعلمها أن الشر والخير فتنة فصبرت عليه، فهي شخصية فاعلة ولها دورها الأساسي في بقاء المجتمع إذ هي أداة التغيير ووسيلة الإصلاح.

إن الرسول صلى الله عليه وسلم بين لنا أنه حين تشتد مصائب الأمة ويتواصى أهل الكفر عليها لا ينقذها إلا رجل، فرد مسلم هو صاحب هذه الشخصية الفذة الملهمة فيقول صلى الله عليه وسلم : "إن الله يبعث على رأس كل مائة عام من يصلح أمر هذا الدين".

إنه فرد مسلم رضي بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبياً ورسولاً، يلتزم بكل ما أمر الله به، فيعمل على تطبيقه فيخرج من حظ فسه وهواه ويصطبغ بصبغة الله حتى يقول بيقين: )إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين (162) لا شريك له وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين( [الأنعام: 162،163].

إنه لكي يحقق ذلك يحتاج إلى قهر هذه النفس فيملكها، ويحسن قيادتها حتى يشعر بأن نفسه التي بين جنبيه ليست له، بل هي وديعة يصرفها صاحبها كيف يشاء ويأخذها أنّى شاء.

هذا الشعور يولد عنده انتماء لدينه يدفعه للالتزام بمنهاج الله في حياته، حتى يكون هواه تبعاً لما جاء به المصطفى صلى الله عليه وسلم، فيتقن رسالته التي خلقه الله لها، بل يتعدى ذلك إلى حبها حباً جماً لأنه يرجو أن يلقى الله وهو عنه راض.

إنها شخصية فعالة تؤمن بما تقول وتعتقد، عملها مبني على الدراسة والتطبيق لمنهج النبوة الذي يجعل للعمل هدفاً وغاية، ليصبح للحياة معنى ورسالة.

منقول بتصرف من كتاب – الثوابت والمتغيرات – للأستاذ  جمعه أمين رحمه الله.