بقلم: الشهيد سيد قطب رحمه الله 

إن المعركة الطويلة الأمد لم تكن بين الإسلام والشرك بقدر ما كانت بين الإسلام وأهل الكتاب من اليهود والنصارى، ولكن هذا لا ينفي أن موقف المشركين من المسلمين كان دائما هو الذي بصورة هذه الآيات: {كيف وإن يظهروا عليكم لا يرقبوا فيكم إلا ولا ذمة يرضونكم بأفواههم وتأبى قلوبهم وأكثرهم فاسقون . اشتروا بآيات الله ثمنا قليلا فصدوا عن سبيله إنهم ساء ما كانوا يعملون. لا يرقبون في مؤمن إلا ولا ذمة وأولئك هم المعتدون}

لقد كان هذا هو الموقف الدائم للمشركين وأهل الكتاب من المسلمين، وسنتكلم أولا عن المشركين ثم عن أهل الكتاب:

وإذا نحن اعتبرنا أن الإسلام لم يبدأ برسالة محمد - صلى الله عليه وسلم - إنما ختم بهذه الرسالة، وأن موقف المشركين من كل رسول ومن كل رسالة من قبل إنما يمثل موقف الشرك من دين الله على الإطلاق، فإن أبعاد المعركة تترامى، ويتجلى الموقف على حقيقته، كما تصوره تلك النصوص القرآنية الخالدة، على مدار التاريخ البشري كله بلا استثناء!.

إن الواقع التاريخي الحديث لا تختلف صوره عن الصور في التاريخ القديم !.. إن ما وقع من الوثنين الهنود عند انفصال باكستان لا يقل شناعة ولا بشاعة عما وقع من التتار في ذلك الزمان البعيد .. إن ثمانية ملايين من المهاجرين المسلمين من الهند - ممن أفزعتهم الهجمات البربرية المتوحشة على المسلمين الباقين في الهند فآثروا الهجرة على البقاء - قد وصل منهم إلى أطراف باكستان ثلاثة ملايين فقط! أما الملايين الخمسة الباقية فقد قضوا في الطريق.. طلعت عليهم العصابات الهندية المنظمة المعروفة للدولة الهندية جيدا ، والتي يهيمن عليها ناس من الكبار في الحكومة الهندية، فذبحتهم كالخراف على طول الطريق، وتركت جثثهم نهبا للطير والوحش بعد التمثيل بها ببشاعة منكرة لا تقل - إن لم تزد - على ما صنعه التتار بالمسلمين من أهل بغداد!.. أما المأساة البشعة المروعة المنظمة فكانت في ركاب القطار الذي نقل الموظفين المسلمين في أنحاء الهند إلى باكستان، حيث تم الإنفاق على هجرة من يريد الهجرة من الموظفين المسلمين في دوائر الهند إلى باكستان، واجتمع في هذا القطار خمسون ألف موظف.. ودخل القطار بالخمسين ألف موظف في نفق بين الحدود الهندية الباكستانية.. وخرج من الناحية الأخرى وليس به إلا أشلاء ممزقة متناثرة في القطار!. لقد أوقفت العصابات الهندية الوثنية المدربة الموجهة القطار في النفق، ولم تسمح له بالمضيء في طريقة إلا بعد أن تحول الخمسون ألف موظف إلى أشلاء ودماء!. وصدق قول الله سبحانه: {كيف وإن يظهروا عليكم لا يرقبوا فيكم إلا ولا ذمة} .. وما تزال هذه المذابح تتكرر في صور شتى حتى الآن..

ثم ماذا فعل خلفاء التتار في الصين الشيوعية وروسيا الشيوعية بالمسلمين هناك؟.. لقد أبادوا من المسلمين في خلال ربع قرن ستة وعشرين مليونا .. بمعدل مليون في السنة .. وما تزال عمليات الإبادة ماضية في الطريق .. ذلك غير وسائل التعذيب الجهنمية التي تقشعر له ولها الأبدان ، لقد جيء بأحد الزعماء المسلمين، فحفرت له حفرة في الطريق العام، وكلف المسلمون تحت وطأة التعذيب والإرهاب ، أن يأتوا بفضلاتهم الآدمية - التي تتسلمها الدولة من الأهالي جميعا لتستخدمها في السماد مقابل ما تصرفه لهم من الطعام!!- فيلقوها على الزعيم المسلم في حفرته .. وظلت العملية ثلاثة أيام والرجل يختنق في الحفرة على هذا النحو حتى مات!.

وما جري في يوغوسلافيا جري في جميع الدول الشيوعية والوثنية .. في هذا الزمان ..

يصدق قول الله سبحانه: {كيف وإن يظهروا عليكم لا يرقبوا فيكم إلا ولا ذمة} ، {لا يرقبون في مؤمن إلا ولا ذمة وأولئك هم المعتدون} ..

فأما اليهود فقد تحدثت شتى سور القرآن عن مواقفهم وأفاعيلهم وكيدهم وحربهم، وقد وعى التاريخ من ذلك كله ما لم ينقطع لحظة واحدة منذ اليوم الأول الذي واجههم الإسلام في المدينة حتى اللحظة الحاضرة!.

ولسنا هنا في مجال عرض هذا التاريخ الطويل، ولكننا سنشير فقط إلى قليل من كثير من تلك الحرب المسعورة التي شنها اليهود على الإسلام وأهله على مدار التاريخ..

لقد استقبل اليهود رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ودينه في المدينة شر ما يستقبل أهل دين سماوي رسولا يعرفون صدقه، ودينا يعرفون أنه الحق..

استقبلوه بالدسائس والأكاذيب والشبهات والفتن يلقونها في الصف المسلم في المدينة بكافة الطرق الملتوية الماكرة التي يتقنها اليهود .. شككوا في رسالة رسول الله - صلى الله عليه وسلم- وهم يعرفونه، واحتضنوا المنافقين وأمدوهم بالشبهات التي ينشرونها في الجو، وبالتهم والأكاذيب. وما فعلوه في حادث تحويل الكعبة، وما فعلوه في حادث الإفك، وما فعلوه في كل مناسبة ليس إلا نماذج من هذا الكيد اللئيم .. وفي مثل هذه الأفاعيل كان يتنزل القرآن الكريم، وسورة البقرة وآل عمران والنساء والمائدة والحشر والأحزاب والتوبة وغيرها تضمنت من هذا الكثير ..

{ولما جاءهم كتاب من عند الله مصدق لما معهم وكانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به فلعنة الله على الكافرين. بئسما اشتروا به أنفسهم أن يكفروا بما أنزل الله بغيا أن ينزل الله من فضله على من يشاء من عباده فباءوا بغضب على غضب وللكافرين عذاب مهين}..[ البقرة 89- 90]{ولما جاءهم رسول من عند الله مصدق لما معهم نبذ فريق من الذين أوتوا الكتاب كتاب الله وراء ظهورهم كأنهم لا يعلمون} .. (البقرة 101).

{سيقول السفهاء من الناس ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها قل لله المشرق والمغرب يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم } ..(البقرة 142).

{يا أهل الكتاب لم تكفرون بآيات الله وأنتم تشهدون. يا أهل الكتاب لم تلبسون الحق بالباطل وتكتمون الحق وأنتم تعلمون؟} .(آل عمران 70-71).

{وقالت طائفة من أهل الكتاب آمنوا بالذي أنزل على الذين آمنوا وجه النهار واكفروا آخره لعلهم يرجعون } . (آل عمران 72){وإن منهم لفريقا يلوون ألسنتهم بالكتاب لتحسبوه من الكتاب وما هو من الكتاب ويقولون هو من عند الله وما هو من عند الله ويقولون على الله الكذب وهم يعلمون } . ( آل عمران 78){قل يا أهل الكتاب لم تكفرون بآيات الله والله شهيد على ما تعملون قل يا أهل الكتاب لم تصدون عن سبيل الله من آمن تبغونها عوجا وأنتم شهداء وما الله بغافل عما تعملون} . (آل عمران 89-99).{يسألك أهل الكتاب أن تنزل عليهم كتابا من السماء فقد سألوا موسى أكبر من ذلك فقالوا أرنا الله جهرة فأخذتهم الصاعقة بظلمهم ثم اتخذوا العجل من بعد ما جاءتهم البينات..} . (النساء 153) .{يريدون أن يطفئوا نور الله بأفواههم ويأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون} .. (التوبة 32).

كذلك شهد التاريخ نقض اليهود لعهودهم مرة بعد مرة وتحرشهم بالمسلمين؛ مما أدى إلى وقائع بني قينقاع وبني النضير وبني قريظة وخيبر ، كما شهد تأليب اليهود للمشركين في الأحزاب مما هو معروف مشهور.

 ثم تابع اليهود كيدهم للإسلام وأهله منذ ذلك التاريخ .. كانوا عناصر أساسية في إثارة الفتنة الكبرى التي قتل فيها الخليفة الراشد عثمان بن عفان - رضي الله عنه - وانتثر بعدها شمل التجمع الإسلامي إلى حد كبير .. وكانوا رأس الفتنة فيما وقع بعد ذلك بين علي ومعاوية - رضي الله عنهما -  .. وقادوا حملة الوضع في الحديث والسيرة وروايات التفسير.. وكانوا من الممهدين لحملة التتار على بغداد وتقويض الخلافة الإسلامية..

فأما في التاريخ الحديث فهم وراء كل كارثة حلت بالمسلمين في كل مكان على وجه الأرض، وهم وراء كل محاولة لسحق طلائع البعث الإسلامي، وهم حماة كل وضع من الأوضاع التي تتولى هذه المحاولة في كل أرجاء العالم الإسلامي!.

ذلك شأن اليهود، فأما شأن الفريق الآخر من أهل الكتاب فهو لا يقل إصرارا على العداوة والحرب من شأن اليهود!.

ولقد أخذ الروم يتجمعون في الشمال هم وعمالهم من الغساسنة لينقضوا على هذا الدين، وذلك بعد أن قتلوا الحارث بن عمير الأزدي رسول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى عامل بصرى من قبل الروم، وكان المسلمون يؤمنون الرسل ، ولكن النصارى غدروا برسول النبي - صلى الله عليه وسلم - وقتلوه مما جعل رسول الله يبعث بجيش الأمراء الشهداء الثلاثة زيد بن حارثة, وجعفر بن أبي طالب، وعبد الله بن رواحه، في غزوة (مؤتة) فوجدوا تجمعا للروم تقول الروايات عنه: إنه مائة ألف من الروم ومعهم من عملائهم في الشام من القبائل العربية النصرانية مائة ألف أخرى، وكان جيش المسلمين لا يتجاوز ثلاثة آلاف مقاتل ، وكان ذلك في جمادى الأولى من السنة الثامنة للهجرة.

إن (الحروب الصليبية) المعروفة بهذا الاسم في التاريخ لم تكن هي وحدها التي شنتها الكنيسة على الإسلام.. لقد كانت هذه الحروب مبكرة قبل هذا الموعد بكثير .. لقد بدأت في الحقيقة منذ ذلك التاريخ البعيد .. منذ أن نسي الرومان عداوتهم مع الفرس، وأخذ النصارى يعينون الفرس ضد الإسلام في جنوب الجزيرة ، ثم بعد ذلك في (مؤتة) ثم فيما تلا موقعة اليرموك الظافرة .. ثم تجلت ضراوتها ووحشيتها في الأندلس عندما زحفت الصليبية على القاعدة الإسلامية في أوربا، وارتكبت من الوحشية في تعذيب ملايين المسلمين وقتلهم هناك ما لم يعرف التاريخ له نظيرا من قبل .. وكذلك تجلت في الحروب الصليبية في الشرق بمثل هذه البشاعة التي لا تتحرج ولا تتذمم، ولا تراعي في المسلمين إلا ولا ذمة..

ومما جاء في كتاب (حضارة العرب) لجوستاف لوبون وهو فرنسي مسيحي "كان أول ما بدأ به ريكاردوس الإنجليزي أنه قتل أمام معسكر المسلمين ثلاثة آلاف أسير سلموا أنفسهم إليه، بعد أن قطع على نفسه العهد بحقن دمائهم، ثم أطلق لنفسه العنان باقتراف القتل والسلب، .. فقُتل منهم اثنا عشر ألفا ، وأُلقي الأربعة الآلاف الباقون في البحر منفيين من الجزيرة! ويكفي أن نذكر ماذا وقع في قبرص، حين منع الطعام والماء عن الجهات التي يقطنها بقايا المسلمين هناك ليموتوا.

أين هذا من كم آثار صلاح الدين الأيوبي النبيل الذي رحم نصارى القدس، فلم يمسهم بأذى، والذي أمد فيليب وقلب الأسد بالمرطبات والأدوية والأزواد أثناء مرضهما" (1) .

كذلك كتب كاتب مسيحي آخر اسمه (يورجا) يقول: "ابتدأ الصليبون سيرهم على بيت المقدس بأسوأ طالع ، فكان فريق من الحجاج يسفكون الدماء في القصور التي استولوا عليها ، وقد أسرفوا في القسوة فكانوا يبقرون البطون، ويبحثون عن الدنانير في الأمعاء! أما صلاح الدين فلما استرد بيت المقدس بذل الأمان للصليبين، ووفى لهم بجميع عهوده، وجاد المسلمون على أعدائهم ووطئوهم مهاد رأفتهم، حتى إن الملك العادل شقيق السلطان أطلق ألفا من الأسرى ومنّ على جميع الأرمن، وأذن للبطريرك بحمل الصليب وزينة الكنيسة، وأبيح للأميرات والملكة بزيارة أزواجهن".

ولا يتسع المجال هنا لاستعراض ذلك الخط الطويل للحروب الصليبية - على مدى التاريخ - ولكن يكفى أن نقول: إن هذه الحروب لم تضع أوزارها قط من جانب الصليبية ، ويكفي أن نذكر ماذا حدث في زنجبار حديثا ، حيث أبيد المسلمون فيها عن جوع وعطش، فوق ما سلط عليهم من التقتيل والتذبيح والتشريد!. ويكفي أن نذكر ما كانت تزاوله الحبشة في أريترية وفي قلب الحبشة، وما كانت تزاوله كينيا مع المائة ألف مسلم الذين ينتمون إلى أصل صومالي، ويريدون أن ينضموا إلى قومهم المسلمين في الصومال!. ويكفي أن نعلم ماذا تحاوله الصليبية في السودان الجنوبي!.

ويكفي لتصوير نظرة الصليبيين إلى الإسلام أن ننقل فقرة من كتاب لمؤلف أوربي صدر سنة 1944 يقول فيه :"لقد كنا نخوف بشعوب مختلفة ، ولكنا بعد اختبار لم نجد مبررا لمثل هذا الخوف.. لقد كنا نخوف من قبل بالخطر اليهودي، والخطر الأصفر، والخطر البلشفي ، إلا أن هذا التخويف كله لم يتفق كما تخيلناه! إننا وجدنا اليهود أصدقاء لنا ، وعلى هذا يكون كل مضطهد لهم عدونا الألد!. ثم رأينا أن البلاشفة حلفاء لنا ، أما الشعوب الصفراء فهنالك دول ديمقراطية كبرى تقاومها ، ولكن الخطر الحقيقي كامن في نظام الإسلام وفي قدرته على التوسع والإخضاع، وفي حيويته .. إنه الجدار الوحيد في وجه الاستعمار الأوربي" (2) .

المقال منقول بتصرف

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الهوامش  :

[1] نقلا عن كتاب، الشريعة الإسلامية والقانون الدولي العام للأستاذ علي منصور .

[2] من كتاب جورج براون نقلا عن كتاب: التبشير والاستعمار في البلاد العربية للدكتور مصطفى خالدي، والدكتور عمر فروخ

المصدر : مجلة الجامعة الإسلامية ـ  المدينة المنورة العدد الأول