المنهج التربوي الإسلامي:

ولقد رسم الإسلام للدنيا هذا المنهج التربوي؛ فوحد العقيدة أولاً، ثم وحد النظم والأعمال بعد ذلك؛ لأن وحدة المشاعر سابقة على وحدة الشرائع والنظم، ولقد ظهر هذا المعنى العظيم النبيل في كل فروع الإسلام العملية.

ولقد تعود الناس أن ينظروا في الدعوات إلى مظاهرها العملية وألوانها الشكلية، ويهملوا كثيراً النظر إلى الدوافع النفسية والإلهامات الروحية، التي هي في الحقيقة مدد الدعوات وغذاؤها وعليها يتوقف انتصارها ونماؤها، وتلك حقيقة لا يجادل فيها إلا البعيد عن دراسة الدعوات وتعرف أسرارها، وإن من وراء المظاهر جميعاً في كل دعوة لروحاً دافعة وقوة باطنة تسيرها وتهيمن عليها وتدفع إليها، ومحال أن تنهض أمة بغير هذه اليقظة الحقيقية في النفوس والأرواح والمشاعر، وصدق الله القائل: )إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم( [الرعد: 11]؛ ولهذا نستطيع أن نقول: إن أول ما نهتم له في دعوتنا وأهم ما نعول عليه في نمائها وظهورها وانتشارها هو الباعث الذي يحي العقول والقلوب والوجدان والمشاعر، فنحن نريد نفوساً يجعلها هذا الباعث حية قوية فتية كما يجعل القلوب متجددة خفاقة، والمشاعر غيورة ملتهبة مضطربة، والعقول واعية مستوعبة، والأرواح طموحة متطلعة متوثبة، ترى مثلاً عليا وأهدافاً سامية، لتسمو نحوها وتتطلع إليها ثم تصل إليها، ولابد من أن نحدد هذه الأهداف والمثل، ولابد من أن تحصر هذه العواطف والمشاعر، ولابد من أن تركز حتى تصبح عقيدة لا تقبل جدلاً، ولا تحتمل شكاً ولا ريباً؛ ذلك لأننا نتحرى بدعوتنا نهج الدعوة الأولى، ونحاول أن تكون دعوتنا صدى حقيقياً لتلك الدعوة السابقة التي هتف بها رسول الله صلى الله عليه وسلم في بطحاء مكة قبل ألف ومئات السنين، فما أولانا بالرجوع بأذهاننا وتصوراتنا إلى ذلك العصر المشرق بنور النبوة، الزاهي بجلال الوحى والذي رأى العالم نوره بتزكية أفراده وتربيتهم حتى صاروا سادة الدنيا.

إن النبي صلى الله عليه وسلم قذف في قلوب أصحابه الإيمان بعظمة الرسالة، والاعتزاز باعتناقها، والأمل في تأييد الله إياها، فأحيا صلى الله عليه وسلم في قلوب المؤمنين هذه المشاعر، وحدد لهم أهدافهم في هذه الحياة، فاندفعوا يحملون رسالتهم محفوظة في صدورهم أو مصاحفهم، بادية في أخلاقهم وأعمالهم، معتدين بتكريم الله لهم، واثقين من نصره وتأييده، فكانت مدنية المبادئ الفاضلة وحضارة الأخلاق الرحيمة العادلة، بدلوا فيها سيئات المادية الجامدة إلى حسنات الربانية الخالدية، ويأبى الله إلا أن يتم نوره.

هذا الشعور القوي الذي يجب أن تفيض به النفوس، وهذه اليقظة الروحية التي ندعو الناس إليها لابد أن يكون لها أثرها العملي في حياتهم، ولابد أن تسبقها – ولا شك- نهضة عملية تتناول الأفراد والأسر والمجتمعات.

وستعمل هذه اليقظة عملها في الفرد، فيصبح نموذجاً قائماً لما يريده الإسلام في الأفراد، وسيكون لهذا الاصطلاح الفرجي أثره في الأسرة؛ فإنما الأسر مجموعة أفراد، فإذا صلح الرجل وصلحت المرأة وهما عماد الأسرة، استطاعا أن يكونا بيتاً نموذجياً على القواعد التي وضعها الإسلام، فإذا صلحت الأسرة فقد صلحت الأمة لأن الأمة هي مجموعة هذه الأسرة التي وضعت الإسلام موضع التنفيذ في منهاج حياتها.

إننا نريد الفرد المسلم، والبيت المسلم، والشعب المسلم، ولكننا نريد قبل ذلك أن تسود الفكرة الإسلامية حتى تؤثر في كل هذه الأوضاع، وتصبغها بصبغة الإسلام، وبدون ذلك لن نصل إلى شيء.

لقد ورثنا هذا الإسلام الحنيف، واصطبغنا به صبغة ثابتة قوية، تغلغلت في الضمائر والمشاعر ولصقت بحنايا الضلوع وشغاف القلوب، واندمجنا بكليتنا في الإسلام بكليته وعقيدته وشريعته ولغته وحضارته، وهذا كله ميراث عزيز غال لا نفرط فيه ما حيينا، فنحن في حنين دائم إليه يجذبنا إليه روعته وجلاله بأصوله الثابتة وحجته البالغة.

وهذا الإسلام لا يقوم بناؤه إلا على أيدي رجال يجمعهم منهج تربوي عملي تطبيقي، وتوجههم قيادة حكيمة ملتزمة بشرع الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وعمل السلف الصالح من هذه الأمة، وينتظمون في جماعة وذلك دين القيمة، يقبلون على الله بهمة عالية وإرادة قوية وعزيمة فتية وتصميم لا يلين، تدفعهم عقيدتهم، وتوجههم تصوراتهم ليحققوا فكرتهم على أرض الواقع. ومثل هذه المعاني والمناهج لا يحققها إكراه ولا يقيمها إرهاب، ولا تصبح حياة ملموسة إلا بتربية متأنية، تجمع بين العلم والعمل؛ ولذلك كانت مهام الرسول صلى الله عليه وسلم كما أخبرنا ربنا "هو الذي بعث في الأميين رسولاً منهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين"( [الجمعة: 2] تلاوة الآيات، وتزكية الأنفس وتعليم الكتاب والحكمة.

صدى الدعوة الأولى:

وليست دعوة الإخوان بدعاً من الدعوات، فهي –كما رأيت- صدى الدعوة الأولى يدوي في قلوب المؤمنين، ويتردد على ألسنتهم ويحاولون أن يقذفوا به إيماناً في قلوب الأمة المسلمة، ليظهر عملاً في تصرفاتها ولتجمع قلوبها عليه، فإذا فعلوا ذلك أيدهم الله ونصرهم وهداهم سواء السبيل، ولذلك كان هذا الباعث ثابتاً كالطود الأشم، لا يتغير ولا يتبدل بتغير الزمان والمكان والأشخاص، ولا نستطيع أن نتخلى عنه ولا نتفاوض فيه لأنه من معالم النجاح الأساسية للدعوة والرسالة.

وهذه الرسالة تتمثل في هداية البشر إلى الحق، وإرشاد الناس جميعاً إلى الخير، وإنارة العالم كله بشمس الإسلام، فذلك قوله تبارك وتعالى )يا أيها الذين آمنوا اركعوا واسجدوا واعبدوا ربكم وافعلوا الخير لعلكم تفلحون (77) وجاهدوا في الله حق جهاده هو اجتباكم وما جعل عليكم في الدين من حرج ملة أبيكم إبراهيم هو سماكم المسلمين من قبل وفي هذا ليكون الرسول شهيداً عليكم وتكونوا شهداء على الناس فأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة واعتصموا بالله هو مولاكم فنعم المولى ونعم النصير( [الحج: 77، 78].

للإمام البنا معارف:

لقد عرف الإمام البنا تاريخ الأمم والنهضات، وتاريخ الدعوات والرسالات، وعرف من قراءة التاريخ أن نهضات الأمم ورسالات الأنبياء ودعوات المصلحين لا تنجح ولا تنتصر إلا بالرجال المؤمنين الأقوياء الذين يعتبرون بمثابة البناة والحراس.

وعرف الإمام البنا أن بناء هؤلاء الرجال أهم ما ينبغي أن يعنى به المصلحون، وأن له الأولوية على ما سواه، ويظهر ذلك جلياً في رسالة (إلى أي شيء ندعو الناس، تحت عنوان من أين نبدأ) يقول: إن تكون الأمم، وتربية الشعوب، وتحقيق الآمال ومناصرة المبادئ، تحتاج من الأمة التي تحاول هذا أو من الفئة التي تدعو إليه على الأقل إلى قوة نفسية تتمثل في عدة أمور:

إرادة قوية لا يتطرق إليها ضعف، ووفاء ثابت لا يعدو عليه تلون ولا غدر، وتضحية عزيزة لا يحول دونها طمع ولا بخل، ومعرفة بالمبدأ وإيمان به وتقدير له، يعصم من الخطأ فيه والانحراف عنه، والمساومة عليه والخديعة بغيره، على هذه الأركان الأولية التي هي من خصوص النفوس وحدها وعلى هذه القوة الروحية الهائلة، تبنى المبادئ وتتربى الأمم الناهضة، وتتكون الشعوب الفتية، وتتجدد الحياة فيمن حرموا الحياة زمناً طويلاً، وكل شعب فقد هذه الصفات الأربعة أو على الأقل فقدها قواده ودعاة الإصلاح فيه، فهو شعب عابث مسكين لا يصل إلى خير ولا يحقق أملاً، وحسبه أن يعيش في جو من الأحلام والظنون والأوهام )إن الظن لا يغني من الحق شيئاً( [يونس: 36] هذا هو قانون الله تبارك وتعالى ونسته في خلقه ولن تجد لسنة الله تبديلاً.

وبهذه التربية يكون الفرد المسلم ذلك الإنسان الذي لا يلهث وراء الشهوات والنزوات، أو العابث بالأموال والخيرات، بل يصبح له رسالة تملك عليه حياته حتى يقول: )إنّ صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين (162) لا شريك له وبذلك أمرت( [الأنعام: 162، 163.

منقول بتصرف من كتاب – الثوابت والمتغيرات للأستاذ جمعة أمين عليه رحمة الله.