بقلم: عبده مصطفى دسوقي
يقول الإمام حسن البنا: "إنما تنجح الفكرة إذا قوي الإيمان بها، وتوفر الإخلاص في سبيلها، وازدادت الحماسة لها، ووجد الاستعداد الذي يحمل على التضحية والعمل لتحقيقها، فهم عناصر أربعة: الإيمان، والإخلاص، والحماس، والعمل".
وقال رحمه الله: "وأريد بالجهاد الفريضة الماضية إلى يوم القيامة، والمقصود بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من مات ولم يغز ولم ينو الغزو مات ميتة جاهلية"، وأول مراتبه إنكار القلب، وأعلاها القتال في سبيل الله، وبين ذلك جهاد اللسان والقلم واليد وكلمة الحق عند السلطان الجائر، ولا تحيا دعوة إلا بالجهاد، وبقدر سمو الدعوة وسعة أفقها تكون عظمة الجهاد في سبيلها، وضخامة الثمن الذي يطلب لتأييدها، وجزالة الثواب للعاملين: ﴿وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ﴾ (الحج: من الآية 78). وبذلك تعرف معنى هتافك الدائم: "الجهاد سبيلنا".
على هذه المعاني الحية تربى الإخوان المسلمون، فعرفوا للعزة معنى، وللكرامة مفهومًا، فحملوا على عاتقهم عودة المجد التليد للإسلام وعزَّته، ففي وقت نسي الناس فيه الجهاد وطغت المادة فاستعبدت النفوس، انتفض فتية مؤمنون فأحيوا الجهاد وأعادوا الكرامة لأمتنا بمواقفهم الحية.
من هؤلاء الذين خضبت رمال فلسطين والقنال بدماء جراحهم كان أبو الفتوح عفيفي المجاهد الذي وافته المنية بعد ظهر الثلاثاء 6 جمادى الأولى 1431هـ، الموافق 20 أبريل 2010م.
من هو؟
في قرية كفر وهب مركز قويسنا محافظة المنوفية ولد أبو الفتوح عفيفي إبراهيم شوشة، في الأول من مايو 1929م.
ونشأ في أسرة تحافظ على العبادات وشعائر الإسلام؛ حيث كان والده حافظًا للقرآن الكريم، وكان عابدًا وشيخًا للبلد وفي نفس الوقت إمامًا لمسجد البلد، وكانت والدته ربة بيت، وتوفيت عام 1948م، وكان له من الإخوة ثلاثة: بنت وولدان هما: عبد العزيز وكان مزارعًا، ورشدي الذي التحق بصفوف الإخوان ولقب بملك السجن ولنا معه وقفه في مقال آخر.
التحق بمدرسة إلزامي في كفر الشيخ إبراهيم- مركز قويسنا، غير أنه لم يكمل تعليمه، ورحل للقاهرة رغم صغر سنه والذي لم يتجاوز الخامسة عشرة.
دعوة الإخوان
تعرف أبو الفتوح عفيفي على دعوة الإخوان منذ الصغر؛ حيث كان والده من محبي الإمام البنا، كما كان ناظر مدرسته أحد أعضاء الهيئة التأسيسية لجماعة الإخوان المسلمين؛ وهو الأستاذ عشماوي سليمان، ويذكر الحاج أبو الفتوح موقفًا جليلاً فيقول: "وفي أحد الأيام قال لي عشماوي سليمان: قل لوالدك إن الشيخ البنا موجود في قويسنا غدًا بعد صلاة العصر، فذهبت وقلت لأبي ذلك، فوجدت والدي فرح فرحًا شديدًا لفت نظري فكم من أشخاص يأتون لزيارة البلد، فلم يفرح مثلما يفرح لقدوم هذا الشخص بالذات، واجتمع الكبراء وذهبوا لمقابلة الإمام البنا، وطلبت من والدي الذهاب معه فوافق واصطحبني وكنت صغيرًا فلم أدخل المسجد ولكني بقيت ألعب في الشارع، وعندما انتهوا وأثناء عودتهم سمعت منهم طوال الطريق إعجابهم الشديد به، فقلت لوالدي: لماذا لم تحضره للبيت طالما أنك معجب به هكذا؟ فقال لي كيف أحضره إنه مسافر غدًا للقاهرة ليذهب للمدرسة فقلت له: ماذا يعمل؟ فقال لي: مدرس فقلت له أول مرة أعرف أن مدرسًا يخطب في الناس وما له وما للخطابة؟ فقال لي: إنه رجل نذر نفسه لله يوعظ الناس وبقيت بعدها مدة طويلة وأقول في نفسي لو كان هذا مدرسًا لم أكن أتركه أبدًا ولو كان قريبًا لي لزرته كثيرًا ولو كان من بلدنا لجلست لديه طوال النهار ولو كان كذا أو كذا.
ودارت الأيام وأنهيت دراستي في المدرسة الابتدائية وذهبت للعمل في القاهرة فوجدت مكتوبًا على الجدران "الله أكبر ولله الحمد.. الله غايتنا.. الرسول زعيمنا"، فلم تكن دعاية مثل التي تكتبها الأحزاب من أجل الانتخابات، وخاصة وقد غرس أبي فينا كره الأحزاب؛ لأنه لا فائدة من ورائها.
وعندما عدت للبلد وجدت أخي رشدي وشخصًا آخر اسمه محمد عمر من الإخوان ظلوا يحدثونني عن الانضمام للإخوان المسلمين فلم أوافق وذكرت لهم أن أبانا قد كرَّهنا في الأحزاب فقال لي: إن الإخوان غير ذلك، فقلت له: لا بل هم كذلك حتى يصلوا فقط إلى سدة الحكم وبعدها لن يهتموا بأحد.
وكادوا ييأسون مني ولكن أراد الله بي الخير فسألتهم من المسئول عن هؤلاء الناس؟ فقال لي: شخص يدعى حسن البنا فتذكرت على الفور المشهد القديم، فقلت لهم مباشرة وكيف الدخول فيكم؟ فقالوا لي: عندما تسافر ابحث عن أقرب شعبة لك من شعب الإخوان فاذهب لهم وقل لهم إنني أخوكم فلان وأريد الانتساب إليكم وبالفعل سافرت في يوم عصرًا وعند صلاة المغرب في نفس اليوم كنت ذهبت إلى الإخوان في شعبة الترعة البولاقية بشبرا.
ورحبوا بي وانسجمت معهم، وعملت معهم، وكان السبب في دخولي معرفتي القديمة بحسن البنا، وكنت حريصًا على كل اللقاءات وبالذات على درس الثلاثاء وكان بالنسبة لي كالفرح وكنا نذهب لحجز الكراسي، وكان وقتها الكل يرتدي الطربوش، فكنت أذهب مبكرًا وأجد كل واحد يضع طربوشه على كرسي ليحجز به مكانه، والحمد لله كان لدي ذاكرة فما كنت أسمعه كنت أحفظه".
أبو الفتوح وحرب فلسطين
اهتم الإخوان بقضية فلسطين اهتمامًا بالغًا منذ نشأة الجماعة؛ حيث إنها أرض إسلامية وبها المسجد الأقصى، فعملوا على الدفاع عنها، غير أن المحتل الإنجليزي حاول غرس العصابة الصهيونية في أرض فلسطين فأصدر وعد بلفور عام 1917م، وفتح الباب أمام الهجرة الشرعية وغير الشرعية لليهود، ودرَّب شبابهم على الحرب حتى يكونوا على أتم الاستعداد في الوقت المناسب للسيطرة على فلسطين خاصة بعدما قررت إنجلترا الانسحاب منها في 15 مايو 1948م.
استشعر الإمام البنا الخطر الذي يحاك لفلسطين فتعاون أولاً مع عز الدين القسام وعبد القادر الحسيني ثم مع الحاج أمين الحسيني مفتي فلسطين، فكون الإمام البنا جهاز النظام الخاص لطرد المحتل الإنجليزي من مصر، وللتصدي للعصابات الصهيونية بفلسطين، فدرَّب الشباب وجهزهم للسفر إلى فلسطين خاصة في عام 1947م عندما بدأ الإنجليز في الانسحاب من فلسطين، كما فتح الإمام البنا باب التطوع لمن أراد الذهاب إلى فلسطين، فكان أبو الفتوح عفيفي أحد هؤلاء الأبطال، فذهب ودون اسمه في المركز العام؛ حيث كان عمره 19 عامًا، وأجرى الكشف الطبي عليه غير أن الحكومة طالبت أن يكون الكشف الطبي في "النضارة" والتي استبعدته من صفوف المجاهدين بسبب ضعف بصره فسقط مغشيًا عليه، وأخذ الإخوان يهونون عنه حتى جاء رئيس لجنة الكشف فتعاطف معه وسمح له بالسفر.
تجمع المجاهدون في ميدان العباسية وحضرت سيارات لتأخذهم وكانوا 200 فرد، وأثناء سير السيارة قُلبت بمن فيها على الطريق عند مطار فاروق ونقل إلى المستشفى ليعالج حتى تم شفاؤه بعد إصابته بارتجاج في المخ، وأثناءها زارهم الإمام البنا.
يذكر ذلك بقوله: "قلت للمدير سأخرج وذهبت للمركز العام مباشرةً وكان الإمام الشهيد يجلس في جلسة مع مندوبين من الدول العربية وأدخلوني عليه وألححت عليه رغم معارضته في البداية لكي أذهب فوافق، وذهبت وقابلت حسن الجمل ووالده كان قد حبسه ولم أكن أعرفه بعد، ولكني عرفته ونحن في فلسطين وفتح لي الباب، وأخرجونا في طابور بمفردنا وكنا قد تأخرنا بحوالي 15 أو 20 يومًا وكان معنا شاويش وفي أحد الأيام قال لي الشاويش: هل كنت في الجيش من قبل؟ فقلت له: لا، فقال لي: إنني أراك متقدمًا في التدريب وكان كل همي التدريب ولا ألتفت لشيء غيره فقلت له: وهل حضرنا هنا لنلعب أم لنتدرب حتى نعلم كيف نقاتل اليهود".
سافر مع المجاهدين حتى وصل للعريش في شهر أبريل عام 1948م، ثم وصل إلى فلسطين، وسرعان ما التحق بقوات المتطوعين تحت قيادة كامل الشريف وحسن دوح، وكانت "معركة كفار ديروم" هي أول اختبار له حيث قررت القيادة أن تبدأ خطة الهجوم في الثالثة قبل الفجر 13 مايو 1948م، وقبل خوض المعركة حاول بعض المتطوعين التراجع فما كان من أبو الفتوح عفيفي- كما يذكر المجاهد عبد الرحمن البنّان- إلا أن ثبتهم في أماكنهم، وأطلق فوق رءوسهم طلقات نارية لإرهابهم، فإن عدوى الهرب تسري في الجنود إن لم توقف بحزم، غير أن هذه المعركة حدث بها بعض الأخطاء الفادحة وكانت نتيجتها استشهاد عدد كبير، وقد أصيب برصاصة في يده اليمنى أثناء الهجوم ظل لها تأثير عليه حتى اليوم، ولم يسمع بأوامر الانسحاب فظل مختفيًا حتى الليل ثم انسحب إلى بلدة دير البلح وعندما وصل في الصباح إلى المعسكر وجد أن اسمه دون في سجل الشهداء.
انضم إلى مجموعة عبد المنعم عبد الرءوف في العسلوج غير أنه كان الوحيد في المجموعة من الإخوان المسلمين.
انضم إلى قوات الإخوان في البريج وشارك في فك حصار العوجة ولم يتأثر بحل الجماعة وظل يعمل كمجاهد، غير أن الأحداث سارت مسرعة، وانهزمت الجيوش العربية وتخاذلت أمام اليهود، وحُوصر الجيش المصري في حصار الفالوجة حتى عقدت معاهدة رودس في مارس 1949م، وعاد الجيش والإخوان المتطوعون غير أن الإخوان اعتقلوا ورحلوا للطور.
أبو الفتوح وحرب القنال 1951م
بعد أن أفرج عن الإخوان أجريت انتخابات حرة ساهم فيها الإخوان بإنجاح حزب الوفد والذي أعلن زعيمه النحاس باشا في 8/10/1951م بأن معاهدة 1936م لاغية وفتح باب الجهاد ضد الإنجليز في القنال، فسارع الإخوان بإدارة دفة الحرب كما هو معلوم وكان أبو الفتوح أحد هؤلاء المجاهدين.
ولقد تم استدعاؤه من قبل إخوانه للجهاد شاركه هذا الأمر على نعمان وحسن الجمل وعبد الرحمن البنان ومحمد علي سليم وغيرهم واجتمعوا في منزل جمال فوزي؛ حيث التقى بهم كامل الشريف وأخبرهم بالمهام الموكلة إليهم، ثم اتجهوا إلى أبي حماد بالشرقية، وما إن وصل حتى كلف بعمل استكشاف حول معسكر العباسة وتمت المهمة على خير وجه، ثم انتقل إلى القنطرة؛ حيث شارك في صيد الدبابات الإنجليزية، ويقول الأستاذ عبد الرحمن البنان في مذكراته: "اختير أبو الفتوح عفيفي، وفتحي البوز، والدكتور كمال حلمي؛ لتولي عملية صيد الدبابات على طريق المعاهدة، وذات ليلة حضر إسماعيل محمد إسماعيل وأبو الفتوح عفيفي قرب الفجر، وهم يكادون يطيرون من الفرح، فقد نجحت أول عملياتهم في اصطياد دبابة للإنجليز؛ حيث ترصدوا لها على طريق المعاهدة".
واستمرت الحرب التي كبدت الإنجليز الكثير غير أن الظروف سرعان ما تغيرت فقد اندلع في القاهرة حريق كبير أقيلت على أثره حكومة الوفد وتوقفت الحرب وعاد الإخوان إلى بيوتهم ليقوموا بواجبهم الدعوي نحو مجتمعهم.
في طريق المحن
بعد أن انتهت حرب القنال عاد أبو الفتوح مرة أخرى إلى العمل وسط إخوانه حتى كانت الأحداث التي حدثت بعد قيام الثورة وتوتر العلاقات بين رجالها والإخوان المسلمين قام على إثرها عبد الناصر باعتقال قيادات الإخوان أوائل عام 1954م ولم يفرج عنهم إلا في شهر مارس، غير أن الأجواء كانت ملبدةً فما كادت تمر الشهور حتى اعتقل عدد كبير من الإخوان بعد حادثة المنشية في 26/10/1954م وأُذُوا كثيرًا في سجون ومحاكمات عبد الناصر.
اعتقل أبو الفتوح بعد 15 يومًا من الهروب ورُحِّل لقسم مصر الجديدة؛ حيث تعرض لتعذيب وحشي، وقُدِّم للمحاكمة والتي حكمت عليه، فقضى في السجن 17 عامًا من عام 1954م حتى عام 1971م، لاقى فيها من العذاب ألوانًا.
وفي يوم 29 أبريل 2007م اعتقل في قضية اعتقال عضوي مجلس الشعب المنتمين للإخوان المسلمين وهما الأستاذان صبري عامر ورجب أبو زيد والمهندس فتحي شهاب الدين، والدكتور عاشور الحلواني، والمهندس محمود عبد الله، والحاج عاشور غانم.
وقد أفرج عنه فجر الثلاثاء الموافق 3/10/2007م بعد صدور قرارٍ بالإفراج الصحي عنه، أثناء قضائه فترة العلاج بمستشفى قصر العيني الفرنساوي إثر إصابته بجلطةٍ دماغيةٍ نُقل على إثرها من سجن مزرعة طرة إلى المستشفى بعد مماطلاتٍ أمنيةٍ.
وفي يوم 27/2/2008م تمَّ دهم منزله في التاسعة من صباح اليوم، وقامت قوات الأمن بتفتيشه، واصطحبوا الشيخ المريض الذي جاوز الخامسة والثمانين من عمره إلى مقر أمن الدولة بالمنوفية، إلا أنه قد تمَّ الإفراج عنه بعد ساعاتٍ قليلة.
أبو الفتوح والبرلمان
بعد خروجه من المعتقل صدر قرار جمهوري بعودة المعتقلين إلى أعمالهم مرة أخرى غير أن فترة الاعتقال لم تحسب له فترك جمعية البترول في بهتيم بشبرا والتحق بالعمل في مصانع الشريف، ثم انتقل للعمل في مصنع للغزل والنسيج بقويسنا حتى بلغ سن الستين في 1/5/1989م، تزوج عام 1972م حيث كان عمره 43 عامًا.
ومنذ أن أعلن الإمام البنا في المؤتمر السادس عام 1941م بأن الإخوان سيدخلون انتخابات مجلس النواب وحمل الإخوان على عاتقهم هذا الأمر؛ حيث كونه منبرًا شرعيًّا يوصلون منه رسالتهم للمجتمع.
ومن هذا المنطلق قرَّر الإخوان دخول انتخابات عام 1984م ثم عام 1987م، ولقد اختير كنائب للإخوان عام 1987م وفاز فيها، ولقد رفض خوض الانتخابات مرة أخرى بسبب كبر سنه.
وفاته
ظل الشيخ المجاهد ثابتا على دعوته حتى توفاه الله يوم الثلاثاء 6 جمادى الأولى 1431هـ الموافق 20 أبريل 2010م. عن عمر ناهز الثمانين عاما، وشيعت جنازته من مسجد المساعي بقويسنا محافظة المنوفية.
--------------
المراجع:
1- أبو الفتوح عفيفي: رحلتي مع الإخوان المسلمين، دار التوزيع والنشر الإسلامية، الطبعة الأولى، 1424هـ- 2003م.
2- مذكرات الأستاذ عبد الرحمن البنان، إعداد إبتسام صالح وعبده مصطفى دسوقي، طبعة دار النشر للجامعات، 2009م.
3- حوار شخصي مع الحاج أبو الفتوح عفيفي في شهر مايو 2008م.
4- كامل الشريف: الإخوان المسلمون في حرب فلسطين، دار التوزيع والنشر الإسلامية.
5- كامل الشريف: المقاومة السرية في قناة السويس، دار التوزيع والنشر الإسلامية.