فتحي السيد 

من كمال العقل الحذر من البلايا والرزايا، والعمل على اجتناب الكوارث والمصائب، ومن المعلوم أنه لا تحل عقوبة إلا بذنب، ولا ينزل بلاء إلا بمعصية، والمصائب كثيرة، لكن أعظمها ضعف الإيمان وموت القلب، إذ به يقع تجاوز الحد وارتكاب الإثم، وموضوعنا اليوم بلغ من الانتشار حداً ربما لا يكاد يبرأ منه أحد، إنه الظلم و(الظلم ظلمات يوم القيامة) .

صور الظلم - في واقعنا -كثيرة، وليس حديثنا عن ظلم الكفار والأعداء، ولا ظلم المتسلطين والطغاة.

بل المقصود الظلم الذي يقع مني ومنك.

ظلم يقع على المستخدمين من العمال والخدم وغيرهم؛ فلا يعطَوْن أجورَهم، ولا يوفّوْن حقوقَهم، وهذا يتسلط بالنظام والكفالة، وذاك يعتدي بالقوة والجبروت.

وظلم يقع داخل البيوت من الرجل على زوجته أو على أبنائه، سواء بالقول الظالم أو الاعتداء المباشر أو الإهمال التام، أو تضييع الحقوق وإمساك النفقة أو غير ذلك وصور كثيرة تشهد بها الشكاوى العظيمة المتنامية، امرأة تشكو زوجها، ومكفول يشكو كفيله، وضعيف يشكو القوي الذي اعتدى على حقه، وجار يشكو بغي جاره،  حتى كأن العدل والإنصاف لم يعد له وجود، وهذا يذكر بحديث النبي صلى الله عليه وسلم: (وترفع الأمانة حتى يقال في بني فلان رجل أمين) أي يكون في القوم والقبيلة واحد يوصف بالأمانة وبقيتهم نسأل الله السلامة.

واليوم، من يعدل وينصف من نفسه؟ كما فعل سيد الخلق صلى الله عليه سلم، يوم كان ينادي في الناس ويدعوهم، ويقول: (يا أيها الناس إني قد دنا مني حقوق من بين أظهركم فمن كنت جلدت له ظهرا فهذا ظهري فليستقد منه ألا ومن كنت شتمت له عرضا فهذا عرضي فليستقد منه ومن كنت أخذت منه مالا فهذا مالي فليستقد منه لا يقولن رجل إني أخشى الشحناء من قبل رسول الله  صلى الله عليه وسلم  ألا وإن الشحناء ليست من طبيعتي ولا من شأني ألا وإن أحبكم إلي من أخذ حقا إن كان له أو حللني فلقيت الله وأنا طيب النفس) .

أننا على يقين بأنه لم يأخذ حق أحد مطلقا.

كلنا يعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في حجة الوداع في أكبر تجمع للمسلمين (إن دماءكم وأموالكم حرام عليكم كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا) .

ويقول صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي يرويه عن الله تبارك وتعالى أنه قال: (يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرما فلا تظالموا) .

ورغم كل هذا التحذير من الظلم والصراحة في تحريمه فإننا نقع فيه، ولو راجع كل منا في ذهنه معاملاته مع الآخرين فإنه سيسجل قائمة غير قليلة من مواطن ظلمه وعدوانه على غيره. والسؤال لماذا نظلم؟

أسباب  الوقوع في الظلم:

1- قدرة الظالم وضعف المظلوم: فالزوج الظالم يضرب زوجه أو يعتدي عليها بغير حق؟ لأنها امرأة ضعيفة، وهو قوي.

2- الأمن من العقوبة: فلو علم الظالم أن هناك من ينصر المظلوم ويأخذ حقه في الدنيا لما أقدم على ظلمه، وكما قيل: "من أمن العقوبة أساء الأدب" .

3- نسيان العقوبة الأخروية؛ حيث يغفل الظالم أن بعد الدنيا آخرة، وأن لكل عبد ثلاثة دواوين سوف تكشف ومنها الديوان الذي لا يترك الله منه شيء أبداً، وهو ديوان ما بينك وبين الناس، ومالهم من حقوق عندك، ولقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يستعيذ في دعائه من دعوة المظلوم .

عقوبات الظلم:

الظلم مرتعه وخيم، وعاقبته عظيمة وأليمة.

أ- عقوبات الظلم الدنيوية:

1- الفتنة العامة: قال تعالى: {وَاتَّقُواْ فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَآصَّةً وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} [ الأنفال : 25 )

2- عقوبته عند الموت: يبين الله جل وعلا لنا صورة الظالمين وما يحل بهم من كرب وهوان عند سكرات الموت: { وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلآئِكَةُ بَاسِطُواْ أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُواْ أَنفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ } [الأنعام : 93] هذه صورة تلحق بكل ظالم وإن كان الظلم هو الكفر في أصل معناه.

3- حرمان الفلاح :{ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ } [الأنعام : 21]، والآية مطلقة في معناها، وكل ظلم بحسبه وبحسب مقداره وبحسب الضرر الذي يتولد عنه في دنيا الناس.

4- حرمان النعم: فإن من أعظم أسبابه وقوع الظلم والله جل وعلا قال: { فَبِظُلْمٍ مِّنَ الَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ } [النساء : 160]. ليس المقصود حرمان المال والجاه، فقد تحرم نعمة الطمأنينة، أو نعمة الصحة أو غيرها من النعم.

5- النهاية الأليمة: { فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُواْ وَالْحَمْدُ لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ } [الأنعام : 45] {وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِم مَّوْعِداً} [الكهف : 59] هل رأيتم أظلم من فرعون وأطغى منه؟ أين حاله وكيف انتهى مصيره؟ وهكذا غيره وغيره.

6- استحقاق العقوبة العاجلة: { فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ أَنجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُواْ بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُواْ يَفْسُقُونَ } [الأعراف : 165] الذين ظلموا هم الذين تعجل لهم العقوبة، {مُّسَوَّمَةً عِندَ رَبِّكَ وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ} (هود : 83 ) وقصص القرآن في ذلك كثيرة.

ب- عقوبات الظلم الأخروية:

من ذا الذي يستطيع أن يفكر مجرد التفكير في القدرة على تحمل العقوبة الأخروية بين يدي الله جل وعلا، ومن العقوبات الأخروية:

1- اقتطاع حق المظلوم من الظالم :كما قال صلى الله عليه وسلم: (حتى تقاد الشاة الجلحاء من الشاة القرناء) إذا كانت الحيوانات تقاد فكيف بنا معاشر المكلفين من بني آدم.

2- الوعيد العظيم بالعذاب الأليم: لقد توعد الله الظالمين وعيداً مهولا تنخلع له القلوب المؤمنة وترتعد منه الفرائص المسلمة {وَلاَ تَحْسَبَنَّ اللّهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الأَبْصَارُ ، مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ لاَ يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاء} [إبراهيم : 42] من شدة الخوف والهلع والجزع.

3- العذاب المقيم المستمر: فلا انقطاع فيه ولا توقف {أَلَا إِنَّ الظَّالِمِينَ فِي عَذَابٍ مُّقِيمٍ} (الشورى : 45 ).

4- منع الافتداء من العذاب: يقول الله سبحانه { وَلَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لَافْتَدَوْا بِهِ مِن سُوءِ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ } [الزمر : 47] فالظالم الذي يملأ خزائنه من حقوق الناس، يتمنى يوم القيامة لو أن له الدنيا وما فيها ومثلها معها ليفتدي به من عذابه يوم القيامة) .

دعوة للاعتبار:

لقد حث الله سبحانه الظالمين على التوبة والتخلص من المظالم، وجعل فعل ذلك من صفات المتقين الذين يستحقون دخول الجنة، فقال سبحانه في وصفهم: { وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُواْ أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُواْ اللّهَ فَاسْتَغْفَرُواْ لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللّهُ وَلَمْ يُصِرُّواْ عَلَى مَا فَعَلُواْ وَهُمْ يَعْلَمُونَ } [آل عمران : 135] اليوم قبل الغد، في الحياة قبل الموت، حال القوة والقدرة قبل الضعف والعجز.

فلم لا تفتدي نفسك اليوم قبل الغد؟ وتعمل بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (مَنْ كَانَتْ عِنْدَهُ مَظْلِمَةٌ لِأَخِيهِ فَلْيَتَحَلَّلْهُ مِنْهَا فَإِنَّهُ لَيْسَ ثَمَّ دِينَارٌ وَلَا دِرْهَمٌ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُؤْخَذَ لِأَخِيهِ مِنْ حَسَنَاتِهِ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ حَسَنَاتٌ أُخِذَ مِنْ سَيِّئَاتِ أَخِيهِ فَطُرِحَتْ عَلَيْهِ ) وإلا فإن العقوبة لن تكون خاصة {وَاتَّقُواْ فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَآصَّةً وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} [الأنفال : 25] {فَلَوْلاَ كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِن قَبْلِكُمْ أُوْلُواْ بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الأَرْضِ إِلاَّ قَلِيلاً مِّمَّنْ أَنجَيْنَا مِنْهُمْ } [هود : 116] إن عدم النهي عن الظلم والسكوت عنه وعدم نصرة المظلوم وترك وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم التي ذكرها البراء بن عازب في الصحيح (أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بسبع -وذكر منها- نصرة المظلوم) وقوله صلى الله عليه وسلم (انصر أخاك ظالما أو مظلوما، قيل يا رسول الله عرفنا نصرته مظلوما فكيف ننصره ظالما قال تردعه عن ظلمه فتلك نصرته).

إن الظلم منكر تفشى في المجتمع فأين من ينهون عنه، ويردعون أصحابه.

كل منا له حظ من ممارسة الظلم على غيره، فلنرجع إلى الله ونعمل بوصيته التي يقول فيها سبحانه: { وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذ ظَّلَمُواْ أَنفُسَهُمْ جَآؤُوكَ فَاسْتَغْفَرُواْ اللّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُواْ اللّهَ تَوَّاباً رَّحِيماً } [النساء : 64] ولنحذر وعيده {وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ } [الشعراء : 227] ولنعتبر بمن قبلنا {وَسَكَنتُمْ فِي مَسَـاكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُواْ أَنفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ وَضَرَبْنَا لَكُمُ الأَمْثَالَ } [إبراهيم : 45] {فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُوا } [النمل : 52] ولنحذر من الركون إلى الظالمين أو إعانتهم { وَلاَ تَرْكَنُواْ إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ } [هود : 113]

إن دعوة المظلوم مستجابة، يقول صلى الله عليه وسلم: (وَاتَّقِ دَعْوَةَ الْمَظْلُومِ فَإِنَّهُ لَيْسَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ حِجَابٌ) .

تنام عيناك والمظلوم منتبه        يدعو عليك وعين الله لم تنم

سهام الليل لا تخطئ، وأبواب السماء مفتوحة لها، والله ينتصر لها ولو بعد حين، فاحذر عقوبة الظلم فالله جل وعلا يقول: {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ } [هود : 102] وكما قال سيد الخلق صلى الله عليه وسلم: (إن الله ليمهل للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته).