مدنية الحضارة الإسلامية

نشأت فكرة التقادم المخطط من رحم الطمع والجشع والغش، ورسختها عمليًا الأساليب الخبيثة لكل غاية اقتصادية متعاظمة.

 وبين ما يريد أن يبنى عليه الإسلام حضارته ومدنيته الإنسانية، وما بنى عليه الغرب حضارته اللإنسانية ما بين الثري والثريا.

صحيح أنه لم يكن ولن يكون فى التاريخ أمة تاريخها ناصع البياض لا تشوبه شائبة، ولكن حديثنا اليوم ليس استدعاء لتاريخ المسلمين أو لواقعهم الحالى المرير، فنحن سنقف عند نظرة الإسلام لمثل هذه الاستراتيجيات "التقادم المخطط نموذجًا".

الإسلام دين الإحسان

قال تعالى:( وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) وقال تعالى:( إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ) وقال تعالى:( إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ)، فإذا كان معنى الإحسان في اللغة إتقان الشيء وإتمامه، فلا يمكن أن يقبل الإسلام صنعة منقوصة الإتقان، فضلًا عن أن يكون ذلك الإنقاص متعمدًا وممنهجًا.

وقال الإمام أبو حامد الغزالي: (والغش حرام في البيوع والصنائع جميعًا، ولا ينبغي أن يتهاون الصانع بعمله على وجه لو عامله به غيره لما ارتضاه لنفسه، بل ينبغي أن يحسن الصنعة، ويحكمها ثم يبيِّن عيبها إن كان فيها عيب، فبذلك يتخلص) ((إحياء علوم الدين)) (2/77).

ويقول لوثروب ستودارد: "ومدنية الإسلام قضية لا تقبل المماحكة إذ ليس من أمة في أوربة سواء الألمان أو الفرنسيس أو الإنجليز أو الطليان إلخ إلا وعندهم تآليف لا تحصي في مدنية الإسلام، فلو لم تكن للإسلام مدنية حقيقية سامية راقية مطبوعة بطابعه، مبنية على كتابه وسنته ما كان علماء أوروبة حتي الذين عُرفوا منهم بالتحامل على الإسلام يُكثرون من ذكر المدنية الإسلامية ومن سرد تواريخها، ومن المقابلة بينها وبين غيرها من المدنيات، ومن تبيين الخصائص التي انفردت بها" ( حاضر العالم الإسلامي- شكيب ارسلان 1973).

ما بين فضيلة التعفف ورذيلة التطرف الاستهلاكى

قال تعالى مخاطبا آدم عليه السلام وهو فى الجنة: (إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلَا تَعْرَىٰ*وَأَنَّكَ لَا تَظْمَأُ فِيهَا وَلَا تَضْحَىٰ)، فإذا كان القرآن قد منع آدم من استهلاك ما هو فوق حاجته من مأكل وملبس ومشرب، وهو فى الجنة، فما بالنا نحن؟!!!

فرض التقادم المخطط والتحفيز الإعلامى والتقليد الأعمى للغرب نمطًا استهلاكيًأ متطرفًا عند المسلمين، ليس فقط على غرار النمط الغربي، بل أسوأ منه وأضل سبيلًا، على عكس ما يريده الإسلام تمامًا، ويجدر هنا الإشارة إلى أكذوبة مضحكة يتداولها البعض "الإسراف نسبي" حسب القدرة وحجم الثروة، ولا أبلغ هنا من الآية السابقة ردًا على هؤلاء.

وهذه الأكذوبة وسعت نطاق التطرف الاستهلاكي، حتى أنها أصابت طبقات النخبة فى العالم الإسلامي، وخرجت من نطاق التوسع فى المباحات إلى فضاءات الشبهات والمكروهات.

الاكتفاء الذاتي بين الوجوب والتحريم

يكاد يكون تحقيق الإكتفاء الذاتى هدفًا يصل إلى الخيال، فى ظل تعقّد شبكة العلاقات الاقتصادية الحالية، وقد بُنيت سلاسل التوريد الحالية بشكل معقد لا يسمح بالاكتفاء الذاتى لأى دولة، وبشكل يحفظ التقادم المخطط كمبدأ تصنيعي راسخ. وقد ربط النظام الرأسمالى الحالى بقاؤه على تعقيد العلاقات الاقتصادية، حتى يتحاشي الحروب الشاملة.. "العلاقات الإقتصادية بين أمريكا والصين نموذجًا".

يقول جراهام أليسون فى الفصل العاشر من كتابه "حتمية الحرب"، مُقترحًا بعض الأفكار لتجنب الحرب: "إدماج الدول ضمن الكيانات الاقتصادية والسياسية والأمنية الأكبر، التي تقيّد السلوكيات الطبيعية التاريخية".. "ألمانيا نموذجًا، عملاق اقتصادي وسياسي، قزم عسكرى".

ويقول مقترحًأ أيضًا: "الاعتماد الاقتصادي المتبادل يزيد تكلفة الحرب، ولهذا يقلل احتمال اندلاعها".

ومن العجب أن بلاد المسلمين المأمورة بالاكتفاء الذاتى كمًا وكيفًا هُم أبعد البلاد عنه، بل إنهم قد تماهوا مع السياسة الاقتصادية العالمية، حتي إنك تجد دولة كمصر تتضاءل فى وزنها الإستراتيجي كدولة، إذا ما نظرنا إلى أمنها الغذائى والسلعى. ودول شبة الجزيرة العربية التي يتلاشى وزنها الاستراتيجى إذا ما نظرنا إلى وضعها العسكرى.

لا يقصد بالاكتفاء الذاتي توافر المنتجات فقط، وإنما كفاية جودتها أيضًا، وهنا يتضح لنا كيف يعمل التقادم المخطط كقاتل بطيء لمشروعات الاكتفاء الذاتي.

الخاتمة

لقد تناولنا على مدار ثلاثة مقالات "التقادم المخطط"، كإستراتيجية تصنيعية غير قانونية ولا أخلاقية وإكراهيّة، وتعمل على استنزاف الموارد الطبيعية، وزيادة النفايات بكل أنواعها، ما يجعلها العدو الأول للبيئة، والسبب الأهم فى التغير المناخى، ما يحتم على قادة العالم محاربة هذه الإستراتيجية، ومن باب أولى قادة الدول العربية والإسلامية، وبالأخص منهم من يملك مشروعًأ قوميًا للاكتفاء الذاتي، حتى ولو جزئيًا، كما نرجو أن توجه هذه المقالات نظر النخبة فى عالمنا العربي والاسلامي إلى مثل هذه القضايا، وآثارها الاقتصادية والإجتماعية على الفرد والأسرة والمجتمع.