• العبادة الصحيحة:

لقد خلق الله الإنسان وجعله خليفة له في الأرض، والأساس الذي تقوم عليه هذه المَهمة هو توحيد الله و عبادته، فكانت دعوة رسل الله إلى أقوامهم كل منهم يدعو: ﴿يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ... ﴾ (الأعراف:65)، ونجد ذلك في القرآن موجهًا إلى أمة محمد-صلى الله عليه وسلم-كافة: ﴿وَاعْبُدُوا اللهَ وَلاَ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا﴾ (النساء:36)، ﴿وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ﴾ (الإسراء:23)، ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ﴾ (الذاريات:56).

فعبادتنا لله هي أصل رسالتنا في هذه الحياة، والحقيقة أن الله غني عن عبادتنا له، ولكنه سبحانه فرضها علينا لخيرنا ومنفعتنا، كي تزودنا بزاد التقوى.

وزاد التقوى هو الذي يحقق لنا السعادة في الدنيا والفوز بالنعيم في الآخرة والنجاة من النار، فالإنسان في هذه الحياة يمر بامتحان ويتعرض إلى ابتلاء وفتن، وخير ما يعينه على النجاح في هذا الامتحان وعلى النجاة من الفتن هو زاد التقوى.
وعبادة الله من أهم مصادر هذا الزاد: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾ (البقرة:21)، ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾ (البقرة:183)، ﴿...إِنَّ الصَّلاَةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ﴾ (العنكبوت:45)، ﴿خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا﴾ (التوبة:103).

وفي آيات الحج: ﴿وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الألْبَابِ﴾ (البقرة:197).

وهذه الفرائض الأربع لها أحكام كي تصح بها ولا تبطل تناولتها كتب الفقه.ولكننا سنتناول صحة العبادة من زاوية أخرى وهي دور القلب في هذه العبادات والأثر الروحي والتربوي الذي تحققه هذه العبادات في نفس المسلم الذي يؤديها حق الأداء.

فكل عبادة من هذه العبادات لها زادها وأثرها التربوي الذي تتميز به بحيث تتكامل جميعًا في بناء شخصية المسلم النموذج. كما أنها تغطي حياة المسلم فمنها المتكرر يوميًا كالصلاة خمس مرات في اليوم. ومنها المتكرر شهرًا كل عام، ومنها ما يتم حسب الأحوال كالزكاة والحج حسب الاستطاعة والإمكان.

ومن منطلق حب رسول الله-صلى الله عليه وسلم-الخير لأمته سن سننًا في هذه العبادات تطوعًا لنزداد قربًا من الله تعالى.

• المفهوم الشامل للعبادة:

وقبل أن نتناول هذه العبادات الأربع بشيء من التفصيل حول الأثر الروحي والتربوي نوضح المفهوم الشامل للعبادة المقصود في قوله تعالى: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ﴾ (الذاريات:56).

ونقول إنه ليس قاصرًا على الفرائض الأربع، ولكنه يعني أن نجعل من كل ما نقوم به في حياتنا من أعمال عبادةً نتقرب بها إلى الله.

فالدعوة إلى الله عبادة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر عبادة، والعمل على التمكين لدين الله في الأرض عبادة، والجهاد في سبيل الله عبادة، وكل ما يعين على العبادة فهو عبادة، فالأكل والشرب إذا جعلنا النية فيهما أن نتقوى على طاعة الله وعبادة الله، وتحرَّيْنا الحلال، وتجنبنا الحرام، صار الأكل والشرب عبادة.

ودراسة الطالب للعلم عبادة، إذا قصد بها إفادة الإسلام والمسلمين، والعمل إذا قصد به خدمة الإسلام والمسلمين، وتحقيق الاكتفاء الذاتي، مع البعد عن العمل الذي فيه حرمة أو شبهة فهو عبادة، وكذلك الزواج وما يتبعه بنية العفة والحصانة وإقامة البيت المسلم القدوة، وتنشئة الذرية الصالحة يكون عبادة، والرياضة بقصد تقوية البدن لتحمل أعباء الدعوة والجهاد في سبيل الله تكون عبادة، وهكذا تصبح حياة المسلم كلها عبادة.

 الفرائض الأربع:

الصلاة: الصلاة بالنسبة للإسلام بمنزلة الرأس من الجسد، وهي عماده ودِعامته، وركنه وشعيرته، وهي الفارق بين الكفار والمسلمين، وهي شرط النجاة، وحارسة الإيمان، وهي الصلة بين العبد وربه وهي قرة العين وراحة الضمير.

*فرضت ليلة الإسراء والمعراج لأهميتها، ومن المفيد أن نتصور عند صلاتنا أن أرواحنا قد عرجت إلى ربها، وتركت مشاغل الدنيا لتستمد منه سبحانه الهداية والنور والزاد الروحي.

جدير بالمسلم أن يستشعر الشرف العظيم والسعادة الكبرى باستجابته لنداء الله للوقوف بين يديه في بيته، يناجيه في الصلاة بكلامه وذكره وتسبيحه ودعائه.

هذه السعادة لو عاشها المسلم حقًا لجعلته يترقب دخول وقت الصلاة وهو في شوقٍ، فلا يغفُل عنها، ولا يلهيه عنها تجارة ولا بيع، ويخرج من الصلاة بزاد روحي يعينه على متاعب الحياة ويحميه من فتنها ومن نزغات الشيطان، لذلك نجد رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يقول:"وجعلت قرة عيني في الصلاة" (أحمد والنسائي). وكان إذا حزبه أمر فزع إلى الصلاة، وكان يقول:"أرحنا بها يا بلال" (أحمد وأبو داود). وكان يقوم الليل حتى تتورم قدماه دون أن يكَل أو يمَل، ويسجد ويطيل السجود، حتى تظن السيدة عائشة أنه قبض؛ ذلك لأنه يعيش في سعادة غامرة مع ربه أثناء الصلاة.

تعالَواْ نتواصى بأن نأخذ أنفسنا بجدٍّ لنحيا في الصلاة ونسعد فيها، اقتداءً برسول الله- صلى الله عليه وسلم-، فحينما نستعد لها بالطهارة والوضوء يصاحب ذلك أن نطهر قلوبنا وجوارحنا من كل ما يغضب الله، ونستجيب للنداء فورًا ونذهب إلى بيت الله لنفوز بثواب الجماعة وبإكرام الله لزوار بيته.

وعندما نتوجه إلى القبلة يصاحب ذلك توجهنا بقلوبنا إلى الله، وإخلاص النية وتخليتها من الرياء، وحينما نرفع أيدينا ونكبر تكبيرة الإحرام لنطرح الدنيا ومشاغلها وراء ظهورنا، وتكون قلوبنا مصدقة لألسنتنا ونحن نقول: الله أكبر.

ثم لنعيش معاني دعاء الاستفتاح في تدبر، ونتدبر فاتحة الكتاب، وما فيها من معان جامعة سامية. كذلك نتدبر معاني آيات القرآن التي نقرؤها أو نسمعها في الصلاة. أما تكبيرات الانتقال فنجعلها بمثابة تنبيه؛ لتكون قلوبنا مطابقة لألسنتنا، وهي تشهد بعظمة الله وكبريائه التي تتضاءل معها كل عظمة وكبرياء يتظاهر بها الملوك والعظماء.

وعند الركوع نستشعر معنى الخضوع لله سبحانه، وما يصاحب الركوع من الشعور بالعزة والقوة، فنحن لا ننحني إلا لله العلي الكبير، ولا ننحني لبشر ولا نخشى إلا الله، عن ابن عباس رضي الله عنه أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال:"فأما الركوع فعظمواْ فيه الرب، وأما السجود فاجتهدواْ في الدعاء فقمن (قمن: حقيق وجدير) أن يستجاب لكم" (أحمد ومسلم).

والسجود هو أقرب هيئات الصلاة إلى الله وأحبها إليه، فالرسول- صلى الله عليه وسلم-يقول: "أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد، فأكثرواْ الدعاء" (مسلم).

ما أجمل وأروع السجود الخاشع الباكي لله، وخاصةً في جوف الليل!!
ما أعظم السجدة الخاشعة الباكية يسجدها المكروب، يشكو فيها بثه وحزنه إلى الله، فيشعر معها ببرد اليقين وبزوال همه وكربه وانشراح صدره، وتيسير أمره!!
ما أجمل السجدة الخاشعة في جوف الليل يسجدها المؤمن السجين في زنزانته فتحول السجن والتعذيب بردًا وسلامًا وصبرًا واحتسابًا وعزة وقوة ويقينًا بنصر الله لعباده المؤمنين الصابرين!!
*وفي جلسة التشهد نعيش المشاعر الوجدانية السامية مع الله ومع نبيه- صلى الله عليه وسلم- ومع عباد الله الصالحين، ونؤكد في تلك الجلسة أصل الإسلام، وهو شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا عبده ورسوله.

*وبعد التسليم يكون ختم الصلاة بالتسبيح والحمد والتكبير والدعاء، وبهذا نكون قد تزودنا بطاقة روحية، نستعين بها على ما نواجهه في حياتنا من مهام ومن عقبات أو قهر أو ظلم. ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ إِنَّ اللهَ مَعَ الصَّابِرِينَ﴾ (البقرة:153). وبهذا الأثر الرباني نبتعد عن الفحشاء والمنكر.

*وتوزيعها على أوقات الليل والنهار ليتجدد زادها الروحي دائمًا، لذلك يجب أن تؤدى لوقتها. ﴿..إِنَّ الصَّلاَةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَّوْقُوتًا﴾ (النساء:103).

وهذا يجعل المسلم دائمًا منتبهًا لوقته مترقبًا دخول وقت الصلاة، فلا يترك نفسه لمال أو شاغل يستغرق وقته دون أن يدري. ﴿رِجَالٌ لاَ تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلاَ بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللهِ وَإِقَامِ الصَّلاَةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالأَبْصَارُ﴾ (النور:37).

*والصلاة تحقق عند المصلي الشعور بالوحدة بين المسلمين في جميع أنحاء العالم حيث يتجهون جميعًا إلى قبلة واحدة وهي بيت الله الحرام.

كما أن المصلين الذين يلتقون في مسجد واحد تتحقق بينهم الألفة والمحبة والتعارف والتكافل.

*والصلاة تحقق روح المساواة والتواضع، فالجميع يقفون بين يدي الله في صف واحد، الغني والفقير والوزير والغفير لا فرق بينهم.

*والصلاة تعوِّد المصلين النظام وتسوية الصفوف واتباع الإمام وعدم مخالفته أو سبقه، وتنبيهه إذا أخطأ أو نسي.

كما أن حركات الصلاة لها فوائدها الصحية، بالإضافة إلى الطهارة والنظافة، التي تحمي من الأمراض.

*ولقد يسر الله الصلاة على المسلمين، وحتى لا يُحرمواْ هذا الخير الكبير والأثر العظيم، فأباح التيمم، وجعل لنا الأرض مسجدًا وطهورًا، كما يسرها على المسافر والمريض، وحتى في أوقات الخوف والحرب.

*وعلى رجل الدعوة وجندي العقيدة ألا يكتفي بأداء الصلوات الخمس، ولكن عليه أن يأخذ نفسه بقيام الليل؛ ليكون ممن قال الله فيهم: ﴿تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ* فَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ (السجدة:16،17).

وقد نبه الله رسوله الكريم في أول أيام البعثة إلى قيام الليل، إعدادًا له لتحمل أمانة الدعوة الثقيلة: ﴿يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ قُمِ اللَّيْلَ إِلاَّ قَلِيلاً* نِصْفَهُ أَوِ انقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً*أَوْ زِدْ عَلَيْهِ َرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً* إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلا ثَقِيلاً﴾ (المزمل من5:1).

منقول بتصرف من كتاب – مقومات رجل العقيدة – للأستاذ مصطفى مشهور رحمه الله.