عقد في بكين عام 1995م, مؤتمر قمة عالمي للتنمية الاجتماعية صدر عنه وثيقة قانونية دولية تدعو إلى المساواة بين الرجل والمرأة، وإلى اسقاط قوامة الرجل على المرأة والأسرة, كما تدعو الرجل إلى تحمل الأعباء المنزلية.. وتدعو المرأة للخروج والمساهمة في سوق العمل.

وكان واضحاً في الوثيقة تهميشُ دور الدين في حياة الإنسان, وإشاعةُ ما يسمى التثقيف الجنسي, وتكوينُ أسر للشواذ، والاعتراف بهم, وتقريرُ المساواة والتماثل بين الجنسين, أو ما هو أعم من ذلك, مما اصطلحوا عليه "بالجندر", وتكريس حق سيادة المرأة على جسدها, ومشاركة المرأة في صنع القرار عبر فرض "كوتا" لها في المجالس النيابية وغيرها من المجالس التمثيلية.

وبملاحظة مضامين وثيقة بكين وبنود اتفاقية "سيداو"والمقررات الصادرة عن المؤتمرات الدولية الأخرى التي انعقدت في المكسيك ونيويورك والقاهرة، ومن قبل في المغرب، حول المرأة والأسرة والنمو السكاني والتنمية الاجتماعية والطفولة والأمومة.. يغدو واضحاً تماماً أن غاية العولمة من استهداف الأسرة بشكل عام.. هي الإطاحة بالخلية الاجتماعية المتماسكة التي لا تزال تضخ في البشرية القيم والأنماط والمناهج الثقافية والسلوكية.. المغايرة للقيم والأنماط والمناهج الثقافية والسلوكية الغربية التي تعتمدها العولمة لصناعة الإنسان الجديد...

ولأن الأسرة المسلمة، بشكل خاص، هي الخلية البشرية التي تنمو وسط مخزون حضاري هائل، ينتج على الدوام نمطاً متميزاً ومتماسكاً على صعيد القيم والثقافة والمنهجية السلوكية للفرد والجماعة ويُذكي الطموحات البعيدة المدى التي تفسّر الحيوية والفعالية الدائمة للإسلام ولنموذجه الحضاري الشامل والقادر على منافسة النموذج الحضاري الغربي..

فمن الطبيعي أن تتركز جهود العولمة ضدها حتى لا يعود لها أي تأثير في صناعة الانسان والمجتمعات وتكوين النموذج المضاد لنموذجها.

لا بد من الإشارة هنا إلى أن عدّة الشغل المستخدمة لتفكيك الأسرة المسلمة.. تبدأ من الشعارات المُغرية والجاذبة والمضلّلة في آن.. كشعارات الحرية والمساواة ورفض التمييز ونبذ العنف وحماية حقوق الإنسان والصحة الإنجابية وما شاكل..وهي شعاراتٌ ينجذب إليها عفوياً المعذبون والمقهورون كما الحالمون علهم يجدون لدى أصحابها أدوية شافية أو مسكنات لآلامهم ومواجعهم أو بصيص نورٍ لتحقيق آمالهم, فكيف إذا انضم إلى هذه الشعارات جيش عرمرم من وسائل الإعلام والدعاية والإعلان يضمّ أذرعاً متنوعة من مراكز تخطيط وأبحاث ودراسات إلى قنوات فضائية متعددة اللغات، وبرامج إثارة وتثقيف وتوجيه ومعارض فنية وصناعية مختصة بحاجات وكماليات المرأة في كل المجالات، ودور أزياء ومسابقات عالمية متعددة لملكات الجمال وأفلام وكليبات ومؤسسات تجميل ومنتجعات صحية وسياحية ومنظمات وجمعيات أهلية محلية تنتشر وتموَّل في كل بلدان العالم لتسويق وترويج مفاهيم وقيم ومناهج وقوانين العولمة المختصة بالمرأة والأسرة ؟.

لقد أفضت جهود العولمة وخصوصاً بالاستناد الى الاتفاقيات الدولية وعبر أدوات الترويج المختلفة الى أضرار جسيمة بالأسرة بشكل عام وبالأسرة المسلمة بشكل خاص يمكن تلخيصها بما يلي :

أولاً : إقحام المفاهيم المنافية للإسلام وفرضها دولياً باسم حقوق الإنسان. الأمر الذي أشاع مناخاً سلبياً دعائياً أسهم في الاساءة إلى نموذج الأسرة المسلمة وحجّم فعاليته وتأثيره.. ومما لا شك فيه أن استغلال شعارات "المساواة بين المرأة والرجل" و "حرية المرأة وتحررها" أسهم في تسهيل تسلل مجموعة من المفاهيم الغربية التي اعتُبِرَت.. حقوقاً مكتسبة ومكرسة ومنها :

أ _ حق الإباحية والشذوذ الجنسي.. تحت ذريعة أن "التعدد ينبغي أن يكون حقاً للمرأة كما هو حق للرجل" وفق مبدأ المساواة.

ب _ حق التثقيف الجنسي للأطفال والدعوة إلى الحرية الجنسية والإباحية للمراهقين.

ج _ حق الأبناء في رفض سلطة الآباء عليهم.

د _ فرض الزوجة كشريك مماثل للزوج في التأثيث والإنفاق.. وفرض الزوج كشريك مما ثل للزوجة في الأمومة والحضانة.

ثانياً : استهداف العلاقات الأسرية من خلال :

أ _ فرض الإباحية على أفراد الاسرة؛ عبر مطالبة الأبوين بالتغاضي عن النشاط الجنسي لأبنائهما قبل الزواج، واعتبار منع المراهقين من الممارسة الجنسية عن غير طريق الزواج عنفاً أسرياً يستوجب الملاحقة للأبوين ومعاقبتهما.

ب _ استهداف الأمومة ودورها؛ عبر الضغط على الأم للعمل خارج المنزل تحت مبدأ " إدماج الزوجة في التنمية " وتشجيعها على رفض أعمال المنزل الزوجي بحجة أنها ليست ذات أجرٍ مادي. وكذلك عبر منح الزوجة حق تحديد الحمل وحق الإجهاض وإرغام الزوج على دور الشريك لها في الأمومة والحضانة. وكل ذلك تحت ما اصطلح عليه بمبدأ "تمكين المرأة".

ج _ تشريع "مبدأ حرية المرأة بالتحكم في جسدها"؛ مع ما يرتبه ذلك من مفاسد على العلاقة الزوجية وعلى اختلاط النسل عبر الإنجاب غير الشرعي. فضلاً عن إشاعة الانحلال بين الشباب وصرف اهتمامه عن الزواج الشرعي وبناء الأسر.

د _ تشريع ما سمي بجرم "الاغتصاب الزوجي" وفرض العقوبات على الزوج, إذا ما ادعت زوجته في المحاكم القضائية بسبب ارتكابه لهذا الجرم المبتدع.

هـ _ تحريض أفراد الأسرة على هتك خصوصياتهم وإسقاط حرمة أسرارهم الأسرية وإغراؤهم باستسهال التحاكم أمام قضاءٍ أسريٍ مختص عند الاختلاف حول كل صغيرةٍ أو كبيرة, رغم ما يعكسه الاعتياد على مثل هذا التقاضي من تهشيمٍ للمودة ولحرمة المنزل.

ثالثاً : إفراغ الأسرة من وظائفها الأساسية. وذلك من خلال :

أ _ الطعن في مبدأ "قوامة الرجل".

ب _ فرض التعامل القانوني الصارم بين أفراد الاسرة بعيداً عن روحية المودة والرحمة والسكنِ فيما بينهم.

ج _ الإطاحة بالدور الرعائي للأب.. وانتزاع الصلاحيات التأديبية منه.

د - التحكم التدريجي في عدد أفراد الأسرة وفق برامج واتفاقيات تنظيم الأسرة وتحديد النسل.

والناتج الواقعي بكل هذه الأضرار تمثل في أمرين أساسيين :

أ - تفاقم المشكلات بين أفراد الأسرة وارتفاع معدلات الجريمة الأسرية والجنسية.

ب- إحلال الوصاية الدولية على أفراد الأسرة, بموجب المواثيق والقوانين الدولية.

                                       * * *

أيها الاخوة والأخوات ثمة فارق جوهري بين نظرة الغرب إلى الأسرة ونظرة الإسلام إليها.. فالغرب لا ينظر إلى الأسرة إلا من زاوية الاستثمار الاقتصادي المنتج وإذا ما التفت إلى أهمية المشاعر المختزنة لدى كل من أفرادها، فإنه يعمل على قولبتها في نمط يخدم تحسين زيادة الإنتاج ونوعيته ليس إلا.. دون أي اعتبار للكرامة الإنسانية أو العدالة الحقة.

أما الإسلام فيرى في الأسرة الخلية الاجتماعية الأولى المؤهلة لتنمية القيم والأخلاق والمفاهيم العملية الصحيحة لمواجهة تحديات الحياة وإذكاء الدافع الذاتي لدى الإنسان من أجل أداء واجباته واحترام الآخرين من حوله وحرمة خصوصياتهم وممتلكاتهم..

والتربية على عبادة الله وطاعته وبذل الجهد لنيل رضاه في كل الاتجاهات والممارسات والطموحات تحقيقاً للعدالة وللتكامل بين الأدوار وصوناً لمسار الكمال الإنساني الضامن لتحقيق الاستقرار والطمأنينة والكابح للأنانيات والأطماع والرذائل المسببة للنزاعات والخصومات.

وبذلك كله ينشأ التوازن بين حب الذات وحب الآخرين, وبين المصلحة الخاصة والمصلحة العامة, وبين الدافع الذاتي والخضوع للقانون, وبين القدرة على الانتاج وحسن التصرف بالفائض من الأرباح.

وفي الأسرة المسلمة لا يكون الانصياع للقانون خضوعاً وقهراً.. بل عبادة وسعادة.. ولا تعود السلطة أو القوامة جبروتاً وامتيازاً بقدر ما تكون مسئولية تفترض حسن تدبير ورعاية..

ولا تعود الأمومة بطالة وكسلاً بقدر ما تصبح أمانة ومهمة سامية تستلزم صبراً ووعياً وجهداً وقدرة على استشراف نقاط الخلل أو مواطن التميز.

ولا تعود العلاقة الجنسية مشاعاً فوضوياً واستجابة لنزوة.. بل تغدو نبيلة ومهذبة وجزءاً من مشروع بناء حضاري إنساني متكامل يحفظ النوع والنسل ويمد المجتمعات بالأفراد الأسوياء.

إن القانون يستطيع فرض ضوابط خارجية وتشريع عقوبات للمخالفين، لكنه أعجز من أن يهذب الدوافع الذاتية للإنسان.. وحدها الأسرة المسلمة التي تشكل المحضن الملائم لتربية الانسان على استقامة الدوافع والممارسات والأهداف والطموحات.. ثم بعد ذلك يأتي دور المدرسة والمجتمع والقانون والسلطة.

فالإنسان الذي لا يعيش الحافز الذاتي ولا يكبح جموحه رادع ذاتي يصبح كائناً بليداً مهمِلاً ومهْمَلاً.. أو مشروع شرير متمرد على السلطات والقوانين. ولأن الأسرة المسلمة قد أنيطت بها مَهمة تنشئة الإنسان القويم في جسده وعقله وروحه.. وتهيئته ليكون عنصراً إيجابياً فاعلاً في المجتمع..

فقد أرادها الله أن تكون المرتع الذي يتحقق فيه السكن والطمأنينة والارتياح المتبادل.. وأن تتجلى فيه المودة والرحمة ليحسن التفهم والتفاهم والتكامل والتخطيط المشترك للأهداف والبرامج, وتوزيع الأدوار تحت سقف العبودية لله والطاعة لأحكامه وتحمل المسئولية تجاه قضايا المجتمع العامة.

ولأن الوظائف التي أسندت إلى الأسرة المسلمة هي بهذا المستوى من الأهمية والحساسية في آن.. كان لا بدّ من إحاطتها بجملة من المقدمات والترتيبات والتشريعات التي تسهم جميعها في إنجاح الأسرة بمهامها.. والمتدبّر في نصوص القرآن والسنة المعصومة.. يدرك عظمة دور الأسرة من خلال عظمة التشريعات التفصيلية والالتفاتات الواردة بشأنها.

ورغم استشعار وجود حاجة معاصرة لملء بعض نقاط الفراغ التي تتصل ببنية الأسرة وأدوارها المستجدة أحياناً.. إلا أن القصور الحاصل في ملئها لا يعيب شمولَ التشريع أبداً بقدر ما يحضّ أو يوجب على أهل الاختصاص في كل عصر العمل على ملئها عبر الاجتهادات الفقهية التي توائم وفق الأصول الشرعية بين قواعد الأحكام والفتاوى المناسبة للتعاطي مع الوقائع المستجدة.

واذا كان البعض يأخذ على المسلمين قراءتهم الذكورية للنص القرآني وللمناخ المحيط بالتشريع؛ وهو مما ينبغي الحذر منه دوماً وتلافي الوقوع فيه.. إلاّ أن العولمة بنظرتها إلى المرأة قد أفسدت تكوينها، وأطاحت بإنسانيتها، وتعاطت معها كأنثى مورد حاجة واسعة للاستثمار عليها، وتحقيق الأرباح على حسابها. إن الإسلام يضمن أنسنة المرأة .. فيما العولمة تسعى لأبلستها.. إن الغرب الذي ينهض مشروعه الحضاري على أساس تقديس الفرد يجنح لتكريس هذه الفردية إلى حد شرعنة الإباحية له في الثقافة والسياسة كما في الاقتصاد.. ويكاد يصنع المجتمع وقواعد سلوكه وضوابطه تبعاً لتلك الإباحية، وتفتت وحدته وتماسكه, بسبب الغلو في المشاعر الفردية والروح الأنانية إزاء الآخرين.في حين أن الاتزان والتوازن هو سمة الشخصية في المجتمع الاسلامي. إن الاتفاقيات الدولية حول المرأة تنطلق من العقل الفردي الإباحي ولذلك نجدها مزدحمة بالمواد والبنود التي تتناقض مع مفاهيم الإسلام المتوازنة والنبيلة..

. أما.. ماذا ينبغي أن نفعل لمواجهة طوفان العولمة الهادر في هذه المرحلة؟! فالحقيقة تقتضي القول إن ميزان القوى هو الذي يفرض تأثيره في هذه المواجهة وهو في منطقتنا لن يستقر لصالح الغرب إن شاء الله.. والرهان كبير على التزام أمتنا بأصالتها وبرؤيتها كما بحقوقها التي وإن طال زمن التنكر لها.. إلا أن الثبات والإصرار عليها.. سيفرضان على الغرب الإقرار بها أو سيضطرانه إلى قبول التعايش معها والاعتراف بحق النمط الإسلامي المتمايز في البقاء والحضور والامتداد.

  • المصدر: عدة مواقع من الشبكة العنكبوتية .