وائل قنديل

ضربت العاصفة بريطانيا ونصف أوروبا، كانت شديدة العنف في مناطق، وعنيفةً في مناطق أخرى، وحين انتهت تركت وراءها عاصفة أخرى من الابتذالات الوطنية والقومية في الإعلام المصري.

هذا الإعلام لم يجد في العاصفة إلا حكاية طيار مصري نجح في الهبوط بسلام على أرض مطار هيثرو في العاصمة البريطانية، فتحوّل الأمر إلى معجزة مصرية وريادة وإنجاز جديد يضاف إلى سلسلة الإنجازات العظيمة الفخيمة تحت حكم الجنرال العظيم عبد الفتاح السيسي.

عبثًا حاول الطيار المصري قائد رحلة الشركة المصرية أن يشرح لجنرالات فضائيات الريادة المصرية أن ما فعله أمر عادي في مثل هذه الأحوال الجوية السيئة، وأن أي طيارٍ في مكانه كان سيفعل الشيء نفسه، أي يدرُس الموقف بشكل علمي ويتخذ القرار، لكن السادة المذيعين كانوا مصمّمين على أنها معجزة مصرية رائدة ومتفردة.

أنا شخصيًا منحاز ل"مصر للطيران" التي أنشئت قبل تسعين عامًا بالتمام والكمال، في وقتٍ كانت فيه شعوب أخرى تكافح من أجل اختراع الحنطور (العربة التي يجرّها حصان أو حمار) وأؤمن بأن كفاءة طياريها ليست محل شك، ولا تحتاج إلى إثبات أو زفّة إعلامية كاذبة. وأعرف أن الطيارين المصريين يبرعون في قيادة عديد شركات الطيران في دول أخرى. غير أن ذلك كله لا يعني أن الطيار المصري حقّق معجزة كونية وقهر العاصفة، متفرّدًا ومتفوّقًا على الجميع، ونجح في الهبوط على أرض مطار هيثرو .. فهذا نوع من الدجل الإعلامي لا يفيد الطيار المصري، ولا يضيف له شيئًا، بل يحرِجه ويضحك الناس علينا.

شاهدتُ أكثر من سبع ساعات بثّ لعشرات من عمليات الهبوط الناجحة في هيثرو وقت العاصفة، نفّذها طيارون من مختلف الجنسيات والشركات، فيما فضّل طيارون آخرون مواصلة التحليق بحثًا عن مهبط أكثر أمنًا في مطار آخر، أو انتظارًا للحظة أخرى أنسب لتنفيذ عملية الهبوط. وظنّي أن الذين هبطوا بسلام، من المحاولة الأولى، أو بعد عدة محاولات، وكذلك الذين آثروا استمرار التحليق، كلهم أدّوا أعمالًا عظيمة، وقدّموا خدمات جليلة، ذلك أن المحكّ والمقياس هنا هو سلامة ركاب الطائرات، هبطوا مبكرًا أو بقوا معلقين فترة في الهواء، من دون أن يكون أي من ذلك كله دليلًا على ريادة دولة وعظمة أخرى ونبوغ جنسية معينة على عداها من الجنسيات.

على مدى سبع ساعات، هي ذروة الخطر في عاصفة يوم الجمعة الماضي، سجّل رجل بريطاني، اسمه جاري دايار، يسكن على مقربةٍ من هيثرو، جميع محاولات الهبوط التي نفذها طيارون من مختلف الشركات والجنسيات، وبثّها على قناته الشخصية على "يوتيوب" مصحوبة بتعليق صوتي له، يتضمن انفعالاته وتصفيقاته وهتافه مع كل محاولة، وكان الرجل مصدرًا لكل الفضائيات العالمية الكبرى، وتابعه عشرات الملايين.

يقول الإعلام المصري إن كابتن "مصر للطيران" هو الوحيد الذي نجح في الهبوط بطائرته من المحاولة الأولى، لكن جيري دايرز، صاحب موقع Big Jet TV وموقعه، نجح في تصوير عمليتي هبوط ناجحتين، لرحلتين من حيدر أباد والأخرى من جوا، من المحاولة الأولى، لاثنين من الطيارين الهنود، في ذروة اشتداد العاصفة، وربما تكرّر الأمر مع طيارين آخرين من شركات أخرى.

لا أدري إن كان الإعلام الهندي قد أثار عاصفةً من الاحتفالات التلفزيونية المبتذلة بنجاح اثنين من طياري الهند أم لا، كما لا أعلم ما إذا كانت وسائل إعلام دول أخرى قد اعتبرت الهبوط بسلام دليل ريادة وسيادة وفرادة قومية، على غرار الإعلام المصري، أم اكتفت بالتعبير عن السعادة بسلامة الجميع.

ما أعرفه أن العقلاء من المتابعين علقوا بأن سلامة الركاب وأطقم الطائرات أهم وأقدس من خطاب اللوثة القومية، وادّعاء الريادة والأفضلية، كما حرص عليهم كل من وصل بركابه سالمين، سواء بالهبوط المبكر، أو بعد الدوران في الهواء فترة قبل اتخاذ القرار، فالأمر هنا يشبه قرار طبيب جراحة ماهر، يجري اتخاذه بناءً على معطيات الموقف، فقد يكون التعجيل ضرورة، وربما كان التأجيل بعض الوقت لازمًا للحفاظ على حياة المريض، بعيدًا عن جنسية الطبيب أو المريض.

مصر الحقيقية أكبر من هذا الابتذال بكثير. لكن ماذا نفعل وقد استولى سفهاء عليها وحوّلوها إلى نسخ رخيصة ورديئة من مصر التي يعرف قدرها العالم.

المصدر: العربي الجديد.