عن طلحة بن يحيى عن جدته سعدى قالت:

دخلت يوماً على طلحة (تعني ابن عبيد الله) فرأيت منه ثقلاً، فقلت له: مالك لعلك رابك منا شيء فنعتبك؟

قال: لا ، ولنعم حليلة المرء المسلم أنت، ولكن اجتمع عندي مال، ولا أدري كيف أصنع به؟

قالت: وما يغمك منه؟ ادع قومك، فاقسمه بينهم.

فقال: يا غلام! عليّ بقومي.

قالت: فسألت الخازن كم قسم؟ قال: أربعمائة ألف.

وهذا الحوار فيه فوائد:

أولاً: تفقد الزوجة حاجات زوجها ومشاعره:

دخلت سعدى على زوجها فرأت على محياه سحابة هم لم تعرف سببها، وهكذا المرأة الصالحة، تتفقد وتتحسس مشاعر زوجها، وتشعر بمعاناته، وتعيش همومه وغمومه وأحزانه.. فتفرح لفرحه، وتحزن لحزنه.

ثانياً: اتهام النفس والمبادرة إلى المراجعة والتوبة والاعتذار:

فقالت له: "مالك؟ لعلك رابك منا شئ فنعتبك".

فهي لم تدعه في غمه، ولم تتركه في ألمه، بل سارعت في البحث عن السبب وعجلت بالدواء، من أجل أن ترجع لذلك المحيا ابتسامته، وتعيد لقلب زوجها سروره وسعادته.. ليس هذا فحسب؛ بل إنها قد ارتابت في نفسها أن تكون هي سبب همه، لعلي قصرت معك في واجب من الواجبات، فأرجع عن ذنبي، ولعلي فرطت في بعض المسؤوليات، فأعود عن إساءتي، وهكذا ينبغي للزوجة أن تكون، وفي المقابل، ينبغي للرجل أن يعتذر حال إساءته، ويبادر بالسؤال عند شعوره بتغير حال زوجته...

ثالثاً: مدح الزوج لزوجته بما فيها من صفات الخير طريق وأسلوب لزيادة الألفة والمحبة بينهما "قال: لا ، ولنعم حليلة المرء المسلم أنت" يالها من عبارة رقيقة .. حبيبة..

وياله من أسلوب آسر لقلب الزوجة حين تسمعه من أعز الناس عليها وأحبهم إليها.. أكاد أجزم أنها عبارة ظل صداها يتردد في قلب سعدى لسنوات طويلة، كلما وجدت في نفسها على زوجها شيئاً جاءت هذه العبارة فطهرته من تلك الأكدار فعاد قلبها كما كان محباً لهذا الرجل الذي أفضى إليها وأفضت إليه!!.

وهكذا ينبغي أن يكون الزوج .. يتذكر محاسن زوجته، ولا ينسى إحسانها إليه، فليس من العدل والإنصاف أن تحجب مثالب الزوجة عين الزوج عن رؤية محاسنها وجميل صفاتها ,أخلاقها .. قال صلى الله عليه وسلم: "لا يفرك مؤمن مؤمنة إن كره منها خلقاً رضي آخر".

ليس هذا فحسب؛ بل يمتدحها بما فيها من صفات حميدة وخصال طيبة كما فعل طلحة رضي الله عنه..

وينبغي للزوج أيضاً أن يضع في الحسبان عند خطأ زوجته وتقصيرها، ضعف المرأة ، وقلة حيلتها، وطبيعة فطرتها، كما قال عليه أفضل الصلاة والسلام: "فإن المرأة خلقت من ضلع، وإن أعوج شئ في الضلع أعلاه".

رابعاً: كثرة ماله أهمه وأحزنه! فكيف سينفقه في سبيل الله.

 وهذا هو ديدن السلف الصالح رضي الله عنهم وأرضاهم ومن سار على نهجهم (رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة). النور ، الآية :37

ما كانت تلهيهم كثرة الأموال؛ بل على العكس كانت تهمهم حتى ينفقوها في سبيل الله؛ ولذلك صلى عليه أفضل الصلاة والسلام العصر ثم عندما انفتل من صلاته خرج يتخطى صفوف الناس حتى تعجب القوم، ثم رجع بعد قليل، فقال: "لعلكم تعجبتم من سرعة انصرافي فإني تذكرت تبراً من الصدقة فكرهت أن أبقيه حتى صرفته في مواضعه".

خامساً: فقه المرأة الصالحة وزهدها:

تكشف سعدى عن خلة أخرى في نفسها حين حثت زوجها على الصدقة والإنفاق، فهي الزاهدة الصالحة التي تجاوزت حظوظ نفسها وتخطت لذائذ ذاتها في فستان جديد أو حلي جميل أو سفر مع الزوج الحبيب أو ... مما تفكر فيه الكثير من النساء اليوم .. إنها حملت هم أصحاب البطون الخاوية، والأقدام الحافية، والثياب البالية، فقالت دون تلجلج "ادع قومك، فاقسمه بينهم".

ولكي يكون الأجر مضاعفاً، أشارت على زوجها بقسمته على ذوي رحمه وأقربائه لأن "الصدقة على المسكين صدقة، والصدقة على ذي الرحم صدقة وصلة". فما أزهدها من امرأة، وما أفقهها من زوجة، وما أعظمها من نعمة أنعمها الله عز وجل على طلحة!!

سادساً: بث الزوج لزوجته بعض همومه وغمومه لتشعر المرأة بمنزلتها عند زوجها.

لم يدع طلحة (الزوج) زوجته تعيش على هامش حياته فبثها بعض همومه، وأسر إليها بعض خلجات نفسه؛ لأنه يعلم أن هذا البث وتلك الشكوى وهذه النجوى تحب أن تسمعها الزوجة من زوجها لأنها تشعر – عندئذ – أنها تعيش في فؤاده، وتغوص في أعماقه...

فبث الزوج لزوجته بعض همومه طريق وأسلوب يكسب به الزوج قلب زوجته؛ ولذلك كان عليه أفضل الصلاة والسلام يبث بعض همومه لأزواجه؛ دخل يوماً على أم سلمة في الحديبية فبث لها حزنه، ذلك أنه أمر اصحابه بالحلق فما قام منهم أحد .. فقالت: اخرج إليهم ثم لا تكلم أحداً منهم كلمة حتى تنحر بدنتك، وتدعو حالقك، فخرج عليه أفضل الصلاة والسلام ففعل ذلك، فقام صحابته عندما رأوا ذلك فنحروا وجعل بعضهم يحلق بعضاً".

لقد حقق الرسول صلى الله عليه وسلم عندما بث زوجته بعض همومه مصالح منها:

  1. أنه تقرب إلى زوجته ببث بعض همومه وأشعرها أنها قريبة من قلبه ولذلك خصها بهذا البث.
  2. أنه أفاد عليه أفضل الصلاة والسلام من استشارة ام سلمة رضي الله عنها وأرضاها فعمل برأيها وكان رأياً صائباً حكيماً...

منقول بتصرف من كتاب -حوارات أسرية – للأستاذ مازن عبدالكريم الفريج