إحسان الفقيه

«دهانٌ على وبر»، مثلٌ استخدمته العرب في التعبير عن الدواء الذي لا ينفع، لأنه لا يصيب موضعه، ولا يتجاوز الظاهر إلى الباطن، والمراد أنه كطلي الجمل الأجرب على وبره، مع أن الطلاء لا يصيب جلده، ومن ثم لا يبرأ.

هذا عين ما تقوم به حكومات الاستبداد مع الشعوب، تعالج مشكلات الجماهير وأمراضهم الاجتماعية وانحرافاتهم السلوكية بعلاجات شكلية، لا تسمن ولا تغني من جوع، وكأنها من باب الدعاية لسياساتها الإصلاحية في الداخل، وعلى هذا تُحمّل الجماهيرَ مسئولية التخلف والأزمات الاقتصادية وقلة الإنتاج والفقر والعوز، وكل كوارث الكون، فيأخذون الناس بالعسف، ولا يبخلون عليهم بكل مساوئ الدولة البوليسية، ولله در الأديب عبد الوهاب عزام في «الشوارد» إذ يقول: «الشرطة والقضاء يعددان الحادثات ويعاقبان عليها، ولكن الأمة لا تُعنى بالتأمل في أسبابها، ولا تعمل للقضاء عليها، وكفاية الناس شرها، وإنما يُكفى الناس شرها بالمداواة لا بالمجازاة، ستزداد الجرائم إن لم تعالج مصادرها في النفس، وفي سنن الجماعة، ستزداد إن لم يتصل الدواء بالجسم باطنه وظاهره».

دأبت الأبواق الدعائية للأنظمة على محاسبة الجماهير وتحميلها المسؤولية عن كل الأزمات، تبرئة لساحات الأنظمة، تسلط الضوء على أسوأ ما في الناس لإقناعهم بأنهم السبب في كل سوء، فمن ثم لا يلومون إلا أنفسهم، يتحدثون عن العدوانية وضعف الانتماء والكسل والبطالة والانحرافات والأمراض الاجتماعية، من دون الإشارة إلى المتسبب الأول فيها، الذي أطلق العنان لكل هذه المساوئ. إنه استلاب الأمن والأمان، فقدان الأمن النفسي بين الناس بفعل الاستبداد والقمع والتوحّش، وأنّى لشعوب أرهقها الظلم والإرهاب أن تنهض وتعمل، وتزاوج بين شأنها الخاص والشأن العام؟! كيف لذلك أن يتم في ظل القمع والخوف على النفس والأهل والفكرة؟ وإنك لتلحظ في القرآن الكريم عنايته بالأمن النفسي، مقترنا بالأمن الغذائي، في معرض إظهار المنّة الربانية على قريش (فليعبدوا رب هذا البيت الذي أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف)، ولذلك لا نتعجب انعكاس هذا الأمن على الشخصية القرشية، التي ملكت الصفات القيادية. ونظرا لأهمية الأمن النفسي في ازدهار المجتمعات، ركز عليه الفقهاء أهل الدراية بالسياسة الشرعية، أمثال الفقيه السياسي الاجتماعي الماوردي، حيث عدّه في كتابه «أدب الدنيا والدين»، من القواعد التي ينبني عليها صلاح أحوال المجتمعات، فقال: «القاعدة الرابعة: أمنٌ عام تطمئن إليه النفوس وتنتشر فيه الهمم، ويسكن إليه البريء، ويأنس به الضعيف. فليس لخائف راحة، ولا لحاذر طمأنينة». وتعليل ذلك كما ذكر الماوردي، أن الخوف يقبض الناس عن مصالحهم، ويحجزهم عن تصرفهم، ويكفهم عن أسباب المواد التي بها قوام معيشتهم وانتظام جملتهم. إن من أوضح مظاهر فقدان الأمن النفسي، أن يفقد الإنسان معنى الوطن، الوطن الذي يحتضنه ويأويه، ويتنعم في ساحته بنعم المولى سبحانه، فما أقبح أن يُقهر المرء على فصم هذا الارتباط الفطري، الذي يتمثل في علاقة الإنسان بأرض المولد والمنشأ، ولذا كان الإخراج من الوطن أو الإلجاء إليه جريمة كبرى، وكان ولا يزال صورة من صور القمع، والتهديد به ورقة يلوح بها المستبدون، على مرّ الأزمنة كما في القرآن الكريم: (لنخرجنكم من أرضنا أو لتعودنّ في ملتنا). وكم من إنسان غادر موطنه خوفا على ماله وأهله، أو خوفا على فكرته من أن يحاسب عليها فيُزجّ به في السجون، وإن البلاد بهذا تفقد فلذات أكبادها وعماد إنتاجها، فإذا أضفنا إلى ذلك عدم الاهتمام بالنوابغ والعبقريات والمواهب، ندرك جيدا أسباب هجرة العقول، التي لا نسمع عن أصحابها شيئًا إلا بعد حين، بإنجازات قدموها في ديار الغرب كنا أولى بها. إن أسوأ الخوف الذي يصيب الإنسان، هو الذي يداهمه وهو في وطنه، بين أهله، وعلى أرضه، وهذا بدوره يجعل المرء لا يقر له قرار، وشعوره الدائم بالخوف يفتت علاقاته الاجتماعية. وفي ظل الخوف تنشأ الازدواجية والنفاق والخنوع وسوء الظن بالآخرين، فكيف لهذه النفوس المريضة أن تكون أدوات بناء؟

يعيش المعارضون في أوطانهم غربة حقيقية، وربما كانت عزلة عندما يكون للنظام ظهيرٌ شعبي مُغيب الوعي، واسع الانتشار، عندما يتحول المدنيون إلى شرطيين يتعقبون المعارض وأهله ويدلون على عوراتهم.

وفي ظل فقدان الأمن، تكون سوق التدليس رائجة، إذ ينبري المتزلفون والمنبطحون، من رموز الفكر والأدب والثقافة، لقلب الحقائق، وتغيير هوية الناس، وفق أجنداتهم التغريبية، طالما أنهم بعيدون عن الاصطدام بالأنظمة، من دون أن يكون لأحد من الجماهير حق الرد، إضافة إلى العمائم المنسوبة إلى علوم الدين، الذين نُصِّبوا ونصَّبوا أنفسهم لشرعنة باطل الأنظمة الاستبدادية، وهي جريمة كبرى تغيّب وعي الجماهير على ما هم فيه من قلة وعي. المشكلة الكبرى التي تغرق فيها الأنظمة الاستبدادية، قناعتهم بأن الجماهير لا تُساس إلا بالعصا، وأنه السبيل الأوحد للحفاظ على العروش، بإغراق الناس بالتفكير في الشأن الخاص، مع أن الضغط له حد ثم يكون بعده الانفجار مهما طال الأمد. أمّنوا الشعوب على أنفسهم وأموالهم وأعراضهم وأفكارهم أولا، قبل أن تحاسبوهم على انحرافاتهم وتقصيرهم، وتطالبوهم بأن يكونوا عناصر فعالة في أوطانهم، والتفاني في خدمة بلادهم، والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.

المصدر: القدس العربي