مرونة المؤمنين

من صفات المؤمنين المتقين الذين أعد الله لهم جناته، وأمرهم بالمسارعة إليها، والمسارعة إلى غفرانه، قوله تعالى: {وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ} وذلك في سياق مشهور بيننا، محبوب ذكره ومدارسته، وهو مقطع كريم قائم بذاته يحمل من القيم والرسائل ما تفيض به الكتب والمحاضرات، ذلك من قوله تعالى فى سورة آل عمران: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ (١٣٣) الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (١٣٤) وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ (١٣٥) أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ (١٣٦)}

وتظهر مرونة المؤمنين- التى نود الإشارة إليها، والتركيز عليها، والتوقف معها لعلنا نهتدى ونقتدى- في قوله تعالى: {ولم يصروا على ما فعلوا وهم يعلمون} نود التوقف للتدبر وإعمال الفكر، لعلنا نهتدى ونخرج بدروس عملية تنفيذية، فلقد جاءنا القرآن ليخرجنا الله به من الظلمات إلى النور، وليس منا أحد إلا وهو فى حاجة لهداية القرآن، إن كان محسنا زاده القرآن إحسانًا، وإن كان مسيئًا أخذ القرآن بيديه إلى طريق الحق وإلى صراط الله المستقيم.

ونبدأ جولتنا حول معنى التوجيه القرآنى{ولم يصروا على ما فعلوا وهم يعلمون} في أقوال مفسرين، فقد ورد عن غير واحد أن المعنى: تابوا من ذنوبهم، ورجعوا إلى الله عن قريب، ولم يستمروا على المعصية ويصروا عليها غير مقلعين عنها، ولو تكرر منهم الذنب تابوا عنه، كما روى عن أبي بكر-رضي الله عنه- قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم- (ما أصر من استغفر وإن عاد في اليوم سبعين مرة) ورواه أبو داود والترمذي والبزار، فهو حديث حسن والله أعلم. 

وقوله: {وهم يعلمون} وهم يعلمون أن من تاب تاب الله عليه. وهذا كقوله تعالى: {ألم يعلموا أن الله هو يقبل التوبة عن عباده} التوبة، وكقوله: {ومن يعمل سوءا أو يظلم نفسه ثم يستغفر الله يجد الله غفورا رحيما} النساء، ونظائر هذا كثيرة جدا. وروى الإمام أحمد عن عبد الله بن عمرو، عن النبي- صلى الله عليه وسلم أنه قال- وهو على المنبر: (ارحموا ترحموا، واغفروا يغفر لكم، ويل لأقماع القول، ويل للمصرين الذين يصرون على ما فعلوا وهم يعلمون} تفرد به أحمد- رحمه الله.

ويقول سيدنا في ظلاله: ثم ننتقل إلى صفة أخرى من صفات المتقين : 

{والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم ومن يغفر الذنوب إلا الله ولم يصروا على ما فعلوا وهم يعلمون} يا لسماحة هذا الدين ! إن الله - سبحانه - لا يدعو الناس إلى السماحة فيما بينهم حتى يطلعهم على جانب من سماحته- سبحانه وتعالى- معهم ، ليتذوقوا ويتعلموا ويقتبسوا. إن المتقين في أعلى مراتب المؤمنين . . ولكن سماحة هذا الدين ورحمته بالبشر تسلك في عداد المتقين {الذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم} والفاحشة أبشع الذنوب وأكبرها، ولكن سماحة هذا الدين لا تطرد من يهوون إليها، من رحمة الله، ولا تجعلهم في ذيل القافلة ... قافلة المؤمنين ... إنما ترتفع بهم إلى أعلى مرتبة ... مرتبة المتقين ... على شرط واحد، شرط يكشف عن طبيعة هذا الدين ووجهته ... أن يذكروا الله فيستغفروا لذنوبهم، وألا يصروا على ما فعلوا وهم يعلمون أنه الخطيئة، وألا يتبجحوا بالمعصية في غير تحرج ولا حياء ... وبعبارة أخرى أن يكونوا في إطار العبودية لله، والاستسلام له في النهاية، فيظلوا في كنف الله وفي محيط عفوه ورحمته وفضله.

إن هذا الدين ليدرك ضعف هذا المخلوق البشري الذي تهبط به ثقلة الجسد أحيانا إلى درك الفاحشة، وتهيج به فورة اللحم والدم فينزو نزوة الحيوان في حمى الشهوة، وتدفعه نزواته وشهواته وأطماعه ورغباته إلى المخالفة عن أمر الله في حمى الاندفاع. يدرك ضعفه هذا فلا يقسو عليه، ولا يبادر إلى طرده من رحمة الله حين يظلم نفسه، حين يرتكب الفاحشة ... المعصية الكبيرة ... وحسبه أن شعلة الإيمان ما تزال في روحه لم تنطفئ، وأن نداوة الإيمان ما تزال في قلبه لم تجف، وأن صلته بالله ما تزال حية لم تذبل، وأنه يعرف أنه عبد يخطىء وأن له ربا يغفر ... وإذن فما يزال هذا المخلوق الضعيف الخاطىء المذنب بخير ... إنه سائر في الدرب لم ينقطع به الطريق، ممسك بالعروة لم ينقطع به الحبل، فليعثر ما شاء له ضعفه أن يعثر، فهو واصل في النهاية ما دامت الشعلة معه، والحبل في يده، ما دام يذكر الله ولا ينساه، ويستغفره ويقر بالعبودية له ولا يتبجح بمعصيته، إنه لا يغلق في وجه هذا المخلوق الضعيف الضال باب التوبة، ولا يلقيه منبوذا حائرا في التيه! ولا يدعه مطرودا خائفا من المآب ... إنه يطمعه في المغفرة، ويدله على الطريق، ويأخذ بيده المرتعشة، ويسند خطوته المتعثرة، وينير له الطريق، ليفيء إلى الحمى الآمن، ويثوب إلى الكنف الأمين .

شيء واحد يتطلبه : ألا يجف قلبه، وتظلم روحه، فينسى الله ... وما دام يذكر الله. ما دام في روحه ذلك المشعل الهادي، ما دام في ضميره ذلك الهاتف الحادي، ما دام في قلبه ذلك الندى البليل ... فسيطلع النور في روحه من جديد، وسيؤوب إلى الحمى الآمن من جديد، وستنبت البذرة الهامدة من جديد.

إن طفلك الذي يخطىء ويعرف أن السوط- لا سواه- في الدار... سيروح آبقا شاردا لا يثوب إلى الدار أبدا، فأما إذا كان يعلم أن إلى جانب السوط يدا حانية، تربت على ضعفه حين يعتذر من الذنب، وتقبل عذره حين يستغفر من الخطيئة... فإنه سيعود!

وهكذا يأخذ الإسلام هذا المخلوق البشري الضعيف في لحظات ضعفه ... فإنه يعلم أن فيه بجانب الضعف قوة، وبجانب الثقلة رفرفة، وبجانب النزوة الحيوانية أشواقا ربانية ... فهو يعطف عليه في لحظة الضعف ليأخذ بيده إلى مراقي الصعود، ويربت عليه في لحظة العثرة ليحلق به إلى الأفق من جديد، ما دام يذكر الله ولا ينساه، ولا يصر على الخطيئة وهو يعلم أنها الخطيئة ! والرسول- صلى الله عليه وسلم يقول: (ما أصر من استغفر، وإن عاد في اليوم سبعين مرة) 

والإسلام لا يدعو - بهذا - إلى الترخص ، ولا يمجد العاثر الهابط، ولا يهتف له بجمال المستنقع ! كما تهتف الواقعية !إنما هو يقيل عثرة الضعف، ليستجيش في النفس الإنسانية الرجاء، كما يستجيش فيها الحياء! فالمغفرة من الله- ومن يغفر الذنوب إلا الله ؟ تخجل ولا تطمع، وتثير الاستغفار ولا تثير الاستهتار، فأما الذين يستهترون ويصرون، فهم هنالك خارج الأسوار، موصدة في وجوههم الأسوار !

وهكذا يجمع الإسلام بين الهتاف للبشرية إلى الآفاق العلى، والرحمة بهذه البشرية التي يعلم طاقتها، ويفتح أمامها باب الرجاء أبدا، ويأخذ بيدها إلى أقصى طاقتها. انتهى

وفي بعض كلام صاحب الظلال شيئ مما نريد، ألا وهو مرونة المؤمن، وعدم إصراره على المضي في طريق الهلاك، سواء كان ذلك الهلاك في دين أو دنيا، فى كبير الأمر أو صغيره- تلك المرونة التى تودع فى صاحبها قوةً لا يقف في طريقها هدف مهما تعاظم، ولا يصعب معها نجاح وفلاح، فطبيعة الحياة وطبيعة الإنسان تستدعى الكثير والكثير من العثرات، ومن لم يملك هذه المرونة فهلاكه تحت رجليه، فإما أن تأخذه العزة بالإثم، أو يكون من الغافلين اللاهين، أو من المستكبرين الجاهلين، فيختار هلاكه طائعًا مبصرًا- كما فعل ملايين الملايين عبر القرون- وإما أن يتحلى بهذا الخلق القرآنى من صفات المتقين، فيكون من الذين {لم يصروا على ما فعلوا وهم يعلمون} فإذا هو- فى كل وقت، وفى كل ظرف- جاهز سهل هين لين، يحول وجهته، ويغير أسلوبه، يتقدم ويتأخر، يسرع ويبطئ، يفعل ما يمليه عليه الحق- مهما كان مخالفًا لما كان عليه من قبل، ومهما كان تغيره هذا شاهدًا على خطئه؛ فالحق والمصلحة أولى بالاعتبار، وأحق بالاتباع، وفي هذه القيمة ما فيها من تواضع العقلاء، والاعتدال والتوازن في تقييم النفس وأعمالها، وتقييم العقل الفردى وتصوراته، إن صاحب هذا الخلق القرآنى الرفيع جاهز للتراجع، للتوبة، لتصحيح المسار، للاعتراف بالخطأ، لا كبر يمنعه، ولا حظ نفس يعوقه، ولا جهل عن حقيقته يحول بينه وبين الارتقاء، إنه من المؤمنين المتقين الفائزين،{أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ}